- أَيُّهَا الشَّاعِرُ
فِيّ والأعمال الشعرية للفلسطيني د. محمد حلمي الريشة.
- أزهار الشر للشاعر الفرنسي شارل بودلير.
(الجزء الأول)
العربي الحميدي
عندما خامرتني فكرة الكتابة عن شاعرين من جيلين مختلفين متباعدين
لهما ربما تأثيرا علي وعلى آخرين . كيف لي أن أكون حرا في قراءتي، وكيف أن لا أترك
التعبير يخونني في الكتابة عنهما حتى لا أسقط في فخاخ المدح. وأن أكون
متوازنا. إنه الهاجسي الذي يؤرقني. سوف لن ادخل في التحليلات المضمونية أو
الشكلية لأنها مضمونة في النصوص نفسها. بل إني مجبر إلى الذهاب
إلى الأبعد والأعمق.
أما الأبسط هو فتح الطريق إلى الاستماع من وراء التساؤلات حول
الموضوع والأسلوب، حول تقنيات البوح الشعري. حول الكلمة والصورة
السريالية، وحول الصدق والتمويه.
إذا لأكتب كان علي أن أنصت في حضرة الغياب، وكسر استبداد المغلق في
شعرهما وأنا في سراديب نصوصهما أبحث عن ملاجئ الفقد والفرح والحزن والقلق. القلم
يتفسخ بين أناملي، وصراخ القصائد يخنقني تارة ويفوح عطرا تارة أخرى. عَلَيّ أن
أكون حذرا حتى لا تخونني المتاهات والمراتع الخضراء داخل القصائد أو
جفاف المعاني في أخرى.
إذا هي رحلة ممتعة بطعم الزعفران المغربي بين شطين مختلفين منحرفين.
لكن كل منهما يطل على شط الآخر. أقاوم أسلوب النداءات الشرقية والغربية. إن
الكتابة عنهما تحتاج إلى بصر وتبصر.
دائما هو الحذر ..! علي أن أتأمل في العلاقة بين كتابة
الشعر وخطورة النص في قراءة الخطاب الشعري. يجب علي أن أحصر آثار الفكر
الفلسفي المتراكم حول أنقاض الذات في الروح والوطن وفي الشتات عند محمد حلمي. وفي
الروح و الأفكار عند شارل بودلير. وأن لا أخون قوتيهما الخفيتين. هكذا أحس الشعر
عندهما قريبا إلى أنفاسي. إنها القصائد التي علمتني كيف أبحت عن صمتي وكيف الصمت
ينفجر أسئلة، وكيف أكتشف طريقي القراءة والتحليل.
يقول د. محمد حلمي الريشة في إحدى قصائده:
أنا
لا
أحب
من
البياض
سوى
نقائي.
ثمة ذكريات ولحظات ومواقف في الحياة يستعصي نسيانها وإخفاء الجميل
فيها.
جاءتْ زِيارتي الأُولى لحيفا، فِي هذهِ الفترةِ، بعدَ أَكثرَ منْ
عشرينَ سنةً! كمْ كنتُ مشتاقًا إِليها كلِّها، بكلِّ تكويناتِها، علَى الرَّغمِ
منْ عبثِ الاحتلالِ الصُّهيونيِّ فِيها لتهويدِها، إِلَّا أَنَّ الشَّواهدَ
الفلسطينيَّةَ العربيَّةَ لَا تزالُ تشهدُ علَى عروبتِها، وفلسطينيَّتِها،
وأَصالتِها، وحضورِها البهيِّ الدَّائمِ علَى السَّاحلِ الفلسطينيِّ الممتدِّ منْ
رأسِ النَّاقورةِ إِلى رَفح، ولَا يزالُ موجُ بحرِها يدغدغُ ذرَّات الرَّملِ علَى
شاطئِها. إِنَّ فِيها عبقٌ لَا يمكنُهم إِزالتَهُ، وبريقٌ لَا يمكنُهم إِطفاءَهُ،
وعناقٌ لَا يمكنُهم دخولَهُ.
كنتُ أُردِّدُ، منذَ أَنْ دخلتُ بابَها المشرعَ علَى الحنينِ،
عنوانًا/ عبارةً لكلامٍ أَنوي كتابتَهُ: "أَنْ تكونَ فِي حَيفا
وأَنْ...". ولمْ ترفقْ بِي الكتابةُ، لأَنَّ حَيفا، كمَا يَبدو، أَرقى منَ
الكتابةِ، وأَسقى منَ السَّحابةِ، وأَنقى منَ الغرابةِ!)
إن الشعر حين يبدأ يثور على صاحبه قبل على من هم حوله أو عن مجتمعه.
فهولا يتهيآ إلا لذاته، في أفق حر. انه الخطاب النقي، وَقْف على النزعة التي تتحكم
فيه، تسمح بنقد الأنا ومحيطها.
أن تكون شاعرا وناقد فرنسي آو فلسطيني ومن أبرز شعراء القرن التاسع
عشر أو القرن الواحد والعشرين ومن رموز الحداثة في العالم متقدماً عن شعر زمانك لن
تفهم جيداً إلا بعد وفاتك. إنه ليس بالأمر السهل الميسر..
الشعر عند شارل بودلير و محمد حلمي الريشة حين يتفوه يحرق
كل الخطابات التقليدية. كأنه الطين الذي يلد وتعاد ولادته بعد التفكيك. إنه فعل
الخطاب الصادر عن الشاعر المفكر وليس عن الشاعر الناظم. وهذه ميزة الشعر عن باقي
الآداب والفنون. إنه ممتد الجذور في الخطاب.
كما قال حلمي الريشة
"الشِّعرُ رسمٌ ناطقٌ،
والرَّسمُ شعرٌ صامتٌ" كمَا يقولُ (سيمونيدس)، لكنَّ "الشِّعرَ يفوقُ
الرَّسمَ؛ فالرَّسمُ ينحصرُ فِي مكانٍ محدَّدٍ، ويلتزمُ ملمحًا معيَّنًا لوضعٍ أَو
حدثٍ، بينَما يقوَى الشِّعرُ علَى عرضِ موضوعٍ مَا فِي عمقِه، وعلَى مدَى تناميهِ
الآنيِّ" كمَا يقولُ (هيجل.
شاعران أوليا الشِّعْري أهمية الإنصات والبعد الفكري.
هل تحديث القصيدة من خلال ممارسة الترجمة عند د. محمد حلمي
الريشة كانت عاملا مهما في تحديث شعره؟
يقول حلمي الريشة
الشِّعرُ لغةٌ أَوَّلًا، وحينَ يمتطِي الشَّاعرُ
صهوةَ الكتابةِ فهوَ فارسٌ يركبُ الصَّعبَ نحوَ المجاهيلِ المتكاثرةِ، ولَا بدَّ
فِي رحلتهِ منْ زادٍ هوَ اللُّغةُ، وزوَّادٍ هوَ المخيَّلةُ. وهناكَ مَن يتقنُ
ويبدعُ حينَ رسمهِ للكلماتِ، وهناكَ مَن يكتفِي بخربشاتٍ ظنًّا منهُ أَنَّهُ
إِنجازٌ بديعٌ، فاقترافُ القصيدةِ يتطلَّبُ حنكةً، وممارسةً طويلةً، وصبرًا،
وقبلَها تشبُّعٌ ثقافيٌّ، ولغويٌّ، ومثابرةٌ علَى القراءَةِ، ممَّا يغذِّي
خيالَهُ، ويمنحهُ قدرةً لغويَّةٌ يبذخُها حينَ الكتابةِ، بدونِ غلوٍّ، معَ
التَّعاملِ معَ صدَى اللَّونِ، وأَصباغِ الإِيقاعِ، وقوَّةِ التَّخيُّلِ، إِضافةً
إِلى يقظةِ الذَّاكرةِ، كيْ لَا يسقطَ فِي متاهةِ الإِبهامِ، فيعزفُ عنهُ
القارئُ.
مَّا التَّرجمةُ، والَّتي في معظمِها ترجماتٌ
شعريَّةٌ لأَصدقاءَ منَ العالمِ، فكانتْ لكيْ أَقدِّمَهم للقرَّاءِ العربِ، .
من المؤكد كان لها دورا ايجابيا في تحديت شعره بدليل قوله
أَشعرُ، وأَنا أُترجمُ قصيدةً مَا، أَنِّي أَنا
أَكتبُها، حيثُ تصيرُ العلاقةُ بينَنا علاقةَ تماهٍ وحُلولٍ فإبِداعٍ.
وهدا ليس عيبا. إذ أصبحت ذات تأثير فاعل في إبدال التصورات
والممارسات الشعرية. لقد أصبح المقصود هو إخراج الملاحظة من حيز العابر، الذي يرد
أحيانا بين ثنايا السطور إلى السطح لتضيء ما لم يتضح بما فيه الكفاية في مسار
التحديث الشعري العربي
إرسال تعليق