-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

التابوت / للكاتب محمد خليل

التابوت

قصة قصيرة

للكاتب محمد خليل

١

قبل عشرين عامًا، وأمام حالة من الذهول أدخلوه مسجًّى في صندوق خشبيّ، ثبّتوا فتحته العلوية بمسامير من كلّ الأطراف، وحملوه إلى زاوية في البيت وتركوه هناك، يومها اعترض الأخ الأكبر على هذه المعاملة اللاإنسانيّة لأخيه الميت، فالواجب يقضي بأنّ إكرام الميت دفنه . تحيّرت العائلة في كيفية تفسير الأمر له، فانتدبوا كبيرهم الذي انتحى به جانبًا

- نحن نشكّ في أقوال الطبيب ، فأخوك ليس بميت !

اندهش الأخ

- لكنّه سيموت هكذا !

- لا تقلق، لقد غافلتهم وثقبت في الصندوق ثقبين

ابتسم الأخ ابتسامة تنبئ عن رضى ... ثم راح يصبّ القهوة للحاضرين

2

عاد الأخ الثاني من غربته بعد اتصال هاتفيّ ... لم يكن يريد العودة فكلّ النّاس سائرون إلى الموت. لكنّه لمّا سمع صوت أمّه تولول وتصيح، أغلق سمّاعة الهاتف وقرّر العودة.

أمام باب البيت استقبله بعض شباب العائلة، تقبّل عزاءهم ثم انتحى بأحدهم

- كيف مات أخي ؟

قال الشاب بهمس :

- تعدّدت الروايات . لكنّ أقربها إلى المنطق تقول، إنه تأخّر في العودة إلى البيت في الليلة التي مات فيها، ولمّا سألته والدتك عن سبب تأخره، قال رحمه الله، إنّه دار على كلّ الأماكن في المدينة فلم يجد شيئًا يزيل القتامة التي تغلّف قلبه، وإنّه قرأ على وجوه النّاس حالة من الذهول لا يستطيع أحد فكّ طلاسمها، وإنّه كلما نظر إلى عينيّ أحدهم رأى الحالة نفسها .... قالت أمّك إنه وضع رأسه على فخذها وبكى

وظَلّ يبكي حتى تبللت ملابسها، ثم سكت فجأة، ولمّا أحسّت أمّك ببرودة جسده صاحت بأعلى صوتها فتناسل النّاس من كلّ بيوت الحارة.

- هل مات من البكاء ؟

- هذه هي الرّواية التي أقنعتني على الأقل ... لأنّه ليس من المنطق أن يموت الإنسان من الضحك كما في رواية أخرى... أوْ ليس من المعقول أنْ يموت الإنسان لمجرّد أنّ المدينة تغادر شوارعها في السابعة مساء كما قيل في رواية ثالثة... أوْ ليس من المعقول أنْ يموت الإنسان لمجرّد أنّه سمع خبرًا يتردد في الإذاعة منذ ثلاثين عامًا كما في رواية رابعة... أوْ ليس من المعقول .....

انسحب الأخ إلى الداخل ولا يزال الشاب يكرر أوْ ليس من المعقول ... جلس إلى جوار الصندوق وقد نسج رواية أخرى لموت أخيه.

3

على مدارالسّنوات العشرين، التي هي عُمر رقدته في الصندوق، كانت الأمّ تجلس إلى جواره يوميًّا، تقرأ على روحه بعضًا من آي الذّكر الحكيم، ثمّ تُحضر قطعة من القماش تغمسها في قليل من الماء وتعصرها ثم تمسح خشب الصندوق، وتنسج رواية أخرى لموت ابنها.

4

في اليوم الأول، بعد السّنة العشرين من رقدته، جاءت الأمّ بقطعة القماش كي تمارس عملها اليوميّ في مسح الصندوق، وبينما هي كذلك لاحظت أنّ الصندوق يتحرك... ركضت على غير هدًى وقد تملكها الرّعب.

نادت على جارتها، دخلت المرأة السّمينة، اقتربت من الصندوق، بسملت وتسلّحت ببعض الآيات الكريمات، عادت بعد دقائق وقد أصابتها حالة من الرّعب، ركضت الاثنتان إلى صاحب البقالة الذي حضر مسرعًا، سحب المسامير المثبتة في الخشب فنهض الابن متثائبًا، فغرت الأمّ فمها وسقطت المرأة السّمينة على الأرض، حدّق الابن في وجه المرأتين وصاحب البقالة، خرج بلا اكتراث أمام ذهول الجميع، مشى في شوارع المدينة وأزقتها، لم يلاحظ شيئًا ينبىء عن تغيّر في ملامحها، الملامح كما هي منذ عشرين سنة، لا بل لاحظ مظاهر جديدة لم يفهم أسبابها.

عاد بعد ثلاث ليال إلى البيت وقد استبدّ به الحزن، وضع رأسه على فخذ أمّه التي لم تستفق بَعدُ من الصّدمة، أحسّت بدموعه ساخنة تتسلل إلى مسامّ جسدها، مسّدتْ شعره بكفها، حدّق في وجهها للحظات ثم نهض فجأة باتجاه الصندوق وتمدّد فيه 

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016