دخل الشعر الرمزي بمعناه الحديث إلى الشعر العربي من أوروبا وبالأخص من الشعر الفرنسي في أواخر القرن التاسع عشر على يد شارل بودلير, والانجليزي وليام بلاك كظاهرة تعتمد على المشاعر والأفكار كردة فعل على المدرستين الواقعية والانطباعية وذلك باستخدام الرمز للتعبير عن اسرار الوجود معتمدين على الصور والموسيقى. وقد اقترن هذا النوع من الشعر بالألفاظ الرقيقة الشفافة التي تعبر عن انطباعات الشاعر.
وقد استخدم الرمزيون القصيدة كوسيلة للتعبير عن الجو النفسي للشاعر ولعدم القدرة على البوح المباشر وذلك باستخدام الرمز والتلميح بعيداً عن المباشرة والتصريح "1"تعريف الشعر الرمزي – تمام طعمة
ومن رواد الرمزية في الشعر العربي صلاح عبدالصبور ومحمود درويش وعبدالوهاب البياتي ونازك الملائكة وفدوى طوقان والسياب وأدونيس وجبران خليل جبران وأمل دنقل وغيرهم من الذين استعانوا بما اختزن لديهم من مدركات حسية ليشكلوا نظاماً لغوياً قادراً على إبراز الدلالات باعتبار اللغة رموز قادرة على إثارة المعاني والعواطف يبدع الشاعر بالتعبير عتها بالصورة الرمزية التي جنحت إلى الغموض والتي تضفي عليها جمالاً وتسعى إلى خلق علاقات تعبيرية جديدة فرضت التوسع والشمول."2"الرمزية ومدرستها الدكتور حسن شوندي
ومن النقاد من يعود بالرمزية غلى الشعر القديم ويضربون أمثلة على ذلك في شعر الحلاج وابن الفارض في أشعاره بالحب الإلهي, وهم يرون أن الشعر الحديث أوغل بها بصفتها إبداعا شعرياً يرتقي إلى الغوص في أعماق النفس والوعي وعالم الآمال والاحلام التي ينشدونها في العالم المثالي لربطه بالواقع, فمنهم من جعل الرمز يكسو كل جزء من القصيدة, ومنهم من كسا جزءاً منها, ليرتقي بقصيدته من مقاصدها المتواضعة إلى مدلولات رمزية.
وقد اتسم الشعر الرمزي بسمات محددة نوجزها كما يلي:
1- الغموض وذلك بسبب اهتمام الشعراء الرمزيين بسبب اهتمامهم بالمعنى
الخفي.
ويعود الغموض إلى استخدام المفردات استخداما غير مألوف والتكثيف في
استخدام اللغة مما يبرز الحاجة إلى المعرفة.
2- الإيحاء: فهم لا يصرحون بالمعنى بشكل مباشر.
3- الموسيقى والفن: يعتبرون الموسيقى جزءاً من القصيدة
ولا يحفلون بالفن كوسيلة لتحسين الواقع.
4- تحرير الشعر من الأوزان التقليدية.
ط"3"أحلام بكري- الرمز في الشعر الحر
أما في ديوان مدار الفراشات لعطاف جانم , فقد وجدنا أن هناك من كتب عن الرمزية في هذا الديوان, فقصرنا الحديث عنها على بعض من عناوين القصائد حتى لا نكرر ما كتب. فحين نتفحص ديوان " مدار الفراشات" للشاعرة عطاف جانم, والذي احتوى على ما يقارب العشرين قصيدة, نجد الرمزية واضحة في جميع القصائد تقريباً, حتى في العناوين التي اختيرت لتقود القصائد, بالإضافة إلى الرسومات والصور التي رافقت مسير المفردات لفنانين تشكيليين مثل علي العامري, والتشكيلية ريما المزين, تتوحد جميعها بثلاثية رمزية تشكل لوحة كبيرة لأسرة صغيرة, يمثل فيها العنوان دور الأب, وتمثل فيها اللوحة دور الام, والمفردة دور الفتاة المدللة لتي تشبك يداً بيد الأم, واليد الأخرى بيد الأب, يسيرون معاً في شارع القصيدة.
وقد نجحت الشاعرة عطاف جانم برسم خارطة طريق تمثلت بالهوامش ثبتتها على منعطفات نهايات الطرق, لتساعد من أراد أن يسترشد بها وهو يتجول ما بين المفردات محاولاُ سبر أعماقها, ليستخرج المعنى المراد الذي تم الايحاء به في كثير من المفردات, عن طريق الرمز أو التلميح, لتترك مساحة أرحب يدور فيها السابر في فضاءات الديوان.
وبما أن الاستاذ الدكتور يوسف البكار- استاذ النقد في جامعة اليرموك سابقاً- قد تناول الرمزية والايحاءات في بعض القصائد, فسأحاول هنا التطرق فقط لبعض من عناوين القصائد. فقد حملت القصائد عناوين مثل:
"أي غيم في
غمامة" فالسؤال هنا رمزي ايحائي, فكأني بها تقول أن الغيم وهو رمز العطاء
سيمر ولن يطول أمده بعد أن كان يداعب شبابيك وأبواب "غمامة" لأنها كانت
ولازالت تقبع على جبال شاهقات, ولأن الغمامة لغة شدة تدل على عدم الاستقرار.
وفعلاً لم يستقر الهدوء والراحة والسكينة في "غمامة" وهي قرية من قرى
حضرموت كما أشارت الشاعرة في الهامش المرفق, فتبدل حال الغيم والفراشات
وباتت" غمامة" رمزاً لعدم الاستقرار, ورمزا للجدب والقفر والمحل, فبات
الاسم يناسب المسمى.
أما العنوان الثاني" فلتوقظي شهداءك مؤته" فأقرأ فيه كناية عن الاشادة بالتضحية التي نعرفها عن هؤلاء الشهداء. فكأني بالشاعرة تتأفف من الوضع العربي القائم الذي وصل من التردي لحالة لا يحسد عليها وتستنجد بهؤلاء الشهداء, "شهداء مؤتة" وقد بلغوا اثنا عشر شهيداً من الصحابة وعلى رأسهم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة, أما سبب الغزوة فكان ثأراً لمقتل رسول رسول الله إلى عظيم بصرى على يد الحارث بن عمير الأسدي بعد أن أوثقه. وهنا أقرأ في هذا المقام كيف هب المسلمون لمقتل رجل منهم فكانت غزوة مؤتة, وواجهوا وهم ثلاثة آلاف مئة ألف من الرومان. أما اليوم فيقتل المسلمون يقتلون بالمئات ويأسرون بالآلاف ويشتتون في بقاع الأرض فيستجيرون فلا مجير, ويستغيثون ولا مغيث. عندئذ كان لا بد من عقد مقارنة بين الموقفين, وكان لا بد للشاعرة أن تستحضر هذا الموقف وتقول, أين أنتم يا شهداء مؤتة مما يجري الآن.
أما القصيدة الثالثة فقد حملت عنوانا غريباً قد لا يفهم إلا من خلال السياق وهو" ولا الغردق المشتهى في الضفاف" فهذه القصيدة اقترنت بلوحة كانت عن صورة جندي صهيوني مدجج بالعتاد, وهو يهرب أمام شاب فلسطيني مقاوم, فقد وردت لفظة مارد للشاب وهذه اللفظة رمز للقوة والمنعة والعزة, وكذلك تمت المقارنة بين الشاب الذي يقاوم البندقية بسكين فأخذ جبروت البندقية يتهاوى امامها, فضعفت وصارت كالعصا وليتها عصا عادية, بل بدت رخوة رخاوة المياه إذ صارت عديمة الفائدة, وبعد المقارنة بين قوة الحق وهشاشة الباطل, تود الشاعرة التأكيد أن البحر سوف يغتسل بعد خروج المحتل الطوعي منه, في إشارة إلى نجاسة الاحتلال. والغردق هنا له رمزية خاصة في مقولة ان اليهودي سيختبأ خلفة لكنه حتى شجر الغردق لن ينفعه. ولن يحميه. تقول عطاف (أنا ماردٌ من سكاكينَ، حينَ أديرُ العقاربَ, يسّاقطُ الشوكُ عن سطوةِ البندقيةِ, تغدو عصاً من مياه, ولستُ الذي سوفَ يلقيكَ في البحر ,ِ طوعاً.. ستقفزُ يوماً وأنت تغادرُ وهما وتتابع ً ... ولا الغردقُ المشتهى في الضفافْ ,وفجراً.. سيغتسلُ البحرُ منكَ ,وتُولمُ تلكَ الهوامُ العِجافْ.
وهناك عنوان لقصيدة قدم على شكل سؤال " كيف اختلسنا بعضنا؟ حيث تكمن الرمزية في كلمة اختلسنا, والاختلاس في اللغة يحمل العديد من المعاني كالنظر بطريقة خفية, ومنها أخذ الشيء بخفة وبطريقة مخادعة, وأغلب المعاني الواردة في قواميس اللغة تشير أن الأمر تم بطريقة سريعة هي الأقرب للخطف والسرقة. ومن الواضح أنها تشير إلى اختلاسها لما كتبت وأن ما كتبت اختلس الوقت منها.
أما القصيدة التي عنوانها "للكهف باب واحد" فرمزية الكهف تكمن في المغارة الواسعة المحفورة في الصخر أو في الجبل, لتدل على الاختباء, وهو يستخدم في العادة كإشارة إلى الفقر, فقد يكون ساكنوا المغارة فقراء, أو كإشارة على النوم الطويل كأصحاب الكهف الذين وردت قصتهم في القرآن الكريم, وفي بعض الحالات يستخدم كوسيلة للاختفاء والاختباء عن العيون ومن السياق العام للديوان نرجح الخيار الثالث, فمن الأرجح أن يكون الحديث عن معركة اختبأ أحد أطرافها في الكهف حتى تمكن من تنفيذ المهمة, أو نفذ المهمة وبعدها التجأ للكهف للتخفي عن عيون الأعداء.
أما "ترابها يا نور", فالحديث عن التراب هو حديث عن الأرض, وفيه إشارة إلى المحبة الزائدة والتعلق بالأرض, وبدون الرجوع للهوامش, حسبنا كلمة نور هي وصف لتراب مدينتها, إلا أن الشاعرة حسمت الأمر ولم تترك مجالاً للتأويل حين وضحت الأمر عن طريق الهامش المرفق بالقصيدة حيث قالت أن نور هي إشارة إلى الشاعر نور عامر, ذاك الشاعر القادم من عكا في زيارة لرابطة الكتاب, وتضيف أنه استغرب إذ طلب منه أن يحضر معه في المرة القادمة حفنة من تراب عكا.
و" في القدس وعد بالحياة" يظهر لنا رمز آخر, يشير إلى القداسة والتدين, فالقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين, وفيها كنيسة المهد .وهي بوابة الأرض إلى السماء, فمنها عرج النبي إلى السماء, وفيها أم الرسول في الأنبياء , ولا شك أن للمكان رمزية كبيرة عند العرب والمسلمين, وتكاد القدس تحضر في ذهنية كل شاعر وأديب لأنها لها وضع خاص, فالكل يرى أن من واجبه توظيف الكلمة للدفاع عنها. وقد اقترن العنوان بكلمة وعد, ونرى في إدراجه إشارة إلى لزوم التحقق, فكأن الشاعرة تود أن تجلب الطمأنينة إلى النفوس لتقول أن عودة القدس لا بد آتية, فهذا وعد, والوعد لا بد أن يصبح حقيقة.
أما " كنعان يبلغ سن الضوء" فلفظة كنعان فيها إشارة ورمزية معروفة, بأن كنعان يرمز إلى الفلسطينيين على اعتبارهم كنعانيون وهي استعارة تاريخية اتثروبولوجية لها علاقة بعلم السكان, وهي هنا لتشير إلى عروبة الفلسطينيين, فاستحضرت اللفظة لتؤكد المعنى.
الديوان مفعم بالرمزية, ويحتاج إلى دراسة خاصة, تتناول كل الرموز الواردة في عناوينه ومفرداته التي لا بد من التوقف عند كل متها ودراستها دراسة متأنية وأكثر عمقاً, ليكون الديوان قد أخذ حقه في هذا المجال, فكلمات كعنترة وهاجس وخمر وجن وبعثرة وغبار وبرمودا وصحو وحرب وغيرها الكثير, هي كلمات رمزية لها دلالات تستحق التوقف والتأمل
قراءة جميلة
ردحذف