(بمناسبة اليوم العالمي للشعر)
صالح لبريني |
الشعر تلك الحديقة السرية، التي تخفي سرائرها وأسرارها، وتظل عصية على القبض، يشق طريقه، بدون أن يثير الانتباه، فاتحا جغرافيات تشوبها شوائب الالتباس والغموض، لذا يختار بمفرده المسارات الوعرة، والمنعطفات الحادة، والسراديب التي تستفز الكائن وتبعث فيه سؤال الخوف والحيرة، الخوف من الحقيقة الغامضة، والحيرة من لغة تمثل هويته وتحتم عليه السير على صراط العدول والخروج عن المألوف.
في الشعر لا أحد يستطيع القول إنه واضح، جلي، ولا يمنحك نفسه بيُسر
وبساطة، ورحابة إدراك، لكنك تجده في انتظارك منزويا هناك، بين السهول النائمة في
سكينة الخلاء والجبال، مقيما في عزلته يطارد فراشات المعنى ويرعى قطيع الألفاظ
بعصا الخيال تارة، وبيدٍ لا ترسم غير ابتسامة حروف على بياض طافح بالإبهار. وتلك
سيرة الشعر، عبورا بالتاريخ والجغرافيا، تجده دائم الانفلات من الاعتقال في أي شكل
أو قالب، ولم يحجر عليه إلا من ذوي النيات المبيتة التي تسعى إلى قتل الجمال
والمحبة في الوجود.
الشعر ماء، يشق مجراه بتؤدة، بلا جلبة تذكر، ولا زفة تتنكر في نشيد
صاخب الصدى، لا صوت لها، مبحوحة الرقص والغناء، ويترك أثره محفورا، قائما بهوية
الانتماء إلى الإنسان، لا تهمه الكثرة بقدر ما ينتبذ القلة ويرافق الظل، عدوه
الضوء، محب للعتمة، نصير العزلة، ولا يعتني بهندامه الخارجي، وإنما يدعو إلى الحفر
عميقا في أراضيه الشعرية، التي لا تنبت غير ورْدِ المجاز، ولا توزع سوى شموس
الاستعارات، لذا نجده متحولا، مارقا، عاصيا، متمردا، شاهقا بنار الباطن، غارقا في
يم اليوتوبيا، لا تستفزه انتصارات الرواية ولا عملقتها على ساحة السرد، لأنه مؤمن
باختياراته التي يراها الصائبة، وذات الجدوى، أما الزعيق فيذهب إلى النسيان.
قد
يقول قائل عني إنني مريض وأعاني من نرجسية فائقة، ومن أوهام أعتاش وأقتات منها،
وينبغي الرمي بي في مارستان الحمقى والمغفلين والنوكى، بلغة الجاحظ، طبعا سأكون
سعيدا بهذه التوصيفات، وأعتز بكوني من طينتها، لا لشيء سوى أنني لا أريد التصفيق،
ولا أُعجبُ بالمفاتن والمظاهر، فأنا أكبر من هذه التفاهات، حياتي منذورة للاحتراق
ومناهضة كل تضييق على الجمال، فالشعر كائن لغوي تجلوه المعرفة والرؤى والتجربة
تصقله، وتضفي عليه مسحة جمالية منبعها الوجوه الأسلوبية والكيفية التي يتم بها
الخلق، والخلق هنا المقصود به تلك القدرة التي يمتلكها الشاعر دون غيره، للتعمق في
الأشياء الموجودة، وتحويلها بوساطة اللغة إلى عوالم ممزوجة بتصورات تشكل المنطلق
بالنسبة لأي شعر، فبدون هذه المقومات لا يستطيع الخلق الشعري الاستمرارية، في
تشكيل رؤية للوجود الذي يبقى في حكم المنفلت. لكن التجربة العميقة والمعرفة
المتنوعة والغنية، التي تنهل من روافد ثقافية وإنسانية، لا تكتمل إلا بالعمل
الدؤوب وامتلاك الوعي، الذي بإمكانه إسباغ الشعر بحرارة هذه التجربة.
هكذا يتخيل الشعر ذاته بمثابة الضوء الهارب – على حد قول محمد برادة – الذي يحفز العالم لارتياد آفاق سمتُها البحث عن هذا اللانهائي والمجهول في الذات والوجود، ويمكن عده المعبر عن حاجة الإنسان لكل ما هو جميل ونبيل، فالجمال والنبل والعُمق والثراء صفات لابد للشعر أن يعمل كل ما في جهده من إرادة للدفاع عنها وترسيخها في الواقع.
والشعر ضد الحقيقة، ومن أعدائها الشرسين الذين لا يؤمنون بها
الإيمان المطلوب، لأن الحقيقة تحد من رغبة الشعر في التحليق بعيدا إلى القارات غير
المألوفة والغامضة، بل يمكن اعتباره الخيال، الذي يحفز الذات على اقتناص اللحظة
وتثويرها، لتغدو أكثر حضورا على مستوى الحياة، وانسيابية تجعل الوجود ينبعث من
سكونيته الموؤودة بفعل المحاكاة من أجل معانقة كيان ينبض بالأسئلة والقيم
الجمالية. الشعر يفارق المعطى ويصادق النسبي، يُقيم في اللاهنا ويرتضي اللاهناك،
حيث الطبيعة تفتح بيوتها للشعر، كي يتنفس حفيف الطير، ويتضمخ بعِطْر الورد، ويسبح
مع السحب الداكنة سماء الوجود، ويسكن الظلال الوارفة بمشيئة الحلم، المطلق بالنسبة
إليه (أي الشعر) يستحيل أن يؤمن به، ويطلبه، لأن حياة النص تكمن في قدرتها على جعل
القارئ دائم التحفز لمقارعة المعتم فيه، ومطاردة الغامض.
والشعر، بطبيعته، لا يركن إلى الماضي، بقدر ما يوجه أفقه إلى حاضر المستقبل ومستقبل الحاضر، بعبارة أخرى، من خلال الكتابة، يقتنص المستقبل واضعا له حاضرا، ويحول الحاضر، في الوقت ذاته، إلى مستقبل، وفي هذا مكمن جدارة الشعر وديمومته.
إن الشعر لا يقول الواقع، وإنما يولد المعاني، ويشحن اللغة بجماليات مجازية واستعارية تثور الدلالة، ويحفر في الأراضي التي لم يحرثها السابقون من الذين عبروا أرض الإبداع، وفي هذا الحفر بحث دائم وأبدي عن هذا المفتقد في كل النتاج الشعري، منذ أول شاعر، والمتمثل في الإتيان بما يثير ذائقة المتلقي ويدفعه إلى إعماله كل ما يملك من ترسنته النقدية، لاستغوار المضمر والمتواري، وفي هذه الزئبقية التي تشكل هوية الشعر الجوهرية، ومن سمات الإبداع الخلاق التحرر من سلطة الواقع، والانتماء إلى سلطة الخيال، فعمق الشعر ليس في التعبير عن الإحالة المرجعية، وإنما نسج المنفلت واللانهائي بلغة الحلم والحياة بتجلياتها المتحولة غير الثابتة، لاعتبار وحيد هو أن الشعر لا يخضع للزمن وللمكان، فهو خارج ومتمرد عليهما، بل ينتمي إلى المستقبل، الذي يظل في حكم المجهول، ولكن بداهة الشاعر تجعل الآتي قبض اليد الشعرية.
والشعر، بطبيعته، لا يركن إلى الماضي، بقدر ما يوجه أفقه إلى حاضر المستقبل
ومستقبل الحاضر، بعبارة أخرى، من خلال الكتابة، يقتنص المستقبل واضعا له حاضرا،
ويحول الحاضر، في الوقت ذاته، إلى مستقبل، وفي هذا مكمن جدارة الشعر وديمومته. وكل
شعر لا يشيد بيت كينونته، انطلاقا من علاماته ومتخيله ووجوده اللغوي، لا تستقيم
حياته الشعرية، فيبقى معطوبا لا روح فيه ولا حياة، لأن الشعر صانع كينونة الإنسان،
ففيه يشعر الإنسان بوجوده الذي يعتوره النقصان، إذا لزم عدم ولوج بيت الشعر، هذا
البيت المفعم بأرواح الأسلاف وذاكرة الذات، وأصوات الذين مروا مثقلين بسؤال الخلق،
بل يمكن عده الكتاب الذي لاحد لعدد صفحاته، هو كتاب مُشْرَع على اللامحدود
والأبدي.
الشعر انتماء أبدي إلى التيه المفضي نحو جغرافيات الباطن، لكشفها والإنصات إلى
دبيب الكينونة، وهي تستنشق أكسجين الحياة في صحراء عالم ظامئ للجمال وفتنة ودهشة
كتابة مغرية بالاحتجاج الصامت والهادئ ضد كل ما يشوه الحياة، ويقتل النور المنبعث
من رجفة اليد، أمام عظمة البياض، فاليد الثالثة هي التي تمجد دم الكوامن عبر اللغة
والخيال والتجربة والرؤية والرؤيا الكامنة بالاهتزاز الوجداني المعقلن. والعين
البصيرة هي المأخوذة بالمنفلت من اللحظة الوجودية والراصدة عبر المتخيل للذاكرة
والتاريخ والجغرافيا الشعرية .
الشعر حياة ضد الموت، ضد الخراب، ضد الضغينة الغابوية المستشرية في
العالم اليوم، ضد القبح الذي غدا اللسان المتحدث باسم كارهي الحياة والمحبة وبياض
السرائر، ضد كل أشكال القتل والتقتيل الممارسة على كينونات إنسانية لا تعشق غير
الحياة، ضد الجهل الديني، بتجلياته المتعددة، والعصبية الجديدة للألفية الثالثة
التي أعمت القلوب، وزادت من حدة البهيمية المتجددة في لبوسات دينية لا تنتمي
للإنسانية بقدر ما تسعى جاهدة لوأد الأمل والضوء في المهد.
في اللحظة الحالية يظل الشعر النور الذي يضيء العتمات الباطنية والكونية، من أجل إشاعة النور النابض بالحياة، والأكثر من هذا إنه الحلم الذي يراود البشرية كلما مستها هيمنة الفكر الظلامي، الذي يسم كل فكر يقف ضد إرادة الحياة، بل هو المرآة التي تنعكس عليها صورة الإنسان في الوجود، ليس بالدلالة المحاكاتية، وإنما بالمعنى الاستشرافي الموغل في الرؤيا المحتفية بحقيقة الكائن التي تبقى في حكم الغياب. الشعر، في هذه اللحظة الكونية الفارقة، الخلاص الذي بإمكانه إنقاذ البشرية من أزمة القيم، فهو يروم السمو بقيم الحب والعشق والجمال، والحياة إلى مراقي الطهر والنقاء، بعيدا عن دناسة الكراهية والنذالة والموت، كما أعتقد أنه السند الحقيقي للمستضعفين في الأرض، في حمايتهم من التهجين الممنهج من سلطة قهرية، تحب العتمات وتحجب الضياء عن كل نفس تواقة لمعانقة ما هو بهي وجميل وطاهر في العالم، وراغبة في تكسير القيود المكبلة للإرادة الطافحة بالعطاء، والمترعة بالإصرار والعزيمة، لمقاومة الظلم بتمظهراته المختلفة.
الشعر لا ينتصر للموت، بل يدعو إلى الحياة، ويقاوم من أجل القيم النبيلة، والأخلاق
الأصيلة الداعية للمحبة، وإشاعة نور العقل وتعقل العاطفة/ لا يساند التفاهة بقدر
ما يشفي غليله في الاحتفاء بما هو سامٍ وسامق، لا يحب الأقفاص، السماء وطنه،
والأرض سياحة في اللامحدود وحفر في طبقات الوجود والذات، دائم البحث عن الغامض في
الكون والإنسان. والترحال في السرائر الدفينة تنقيبا عن المغيب والمتواري، في
كينونة تُواجهُ عالما مليئا بالارتجاجات والهزات المفاجئة للسلم الإنساني، بفعل
هيمنة سلطة القوي، التي قوضت معالم الحضارة الإنسانية، جراء الجشَع وحب التملك والربح،
وتحويل الكائن البشري إلى كائن يلهث وراء الماديات، مغيبا الجوانب المعنوية، ما
أفقده إنسانيته، ولعل ما يشهده العالم، في هذه اللحظة الفارقة، من انتشار معالم
التخريب والرعب، التخويف والتجويع والتشريد، يأتي الشعر ليُعري حقيقة الذات أمام
جبروت الموت، وينبذ الليل المستبد على سماء الكون، ورغم المرارات التي تتكبدها
البشرية من قُوَى الشر العالمي المستبدة والجائرة، يتحول مجاز الكلام إلى عنوان
واحد ضد الموت، والجنوح صوب ما يعيد للإنسان إنسانيته، وينقذ البشرية من ضلال
التيه والضياع، الشرَكُ الوجودي الذي أطاح بسطوة هذا الإنسان.
أمام مفارقات الوجود التي ترزح تحت نيرها الإنسانية، والأوبئة
الفتاكة المهددة لوجود الإنسان على هذه البسيطة، يكون الشعر الملاذ الذي يُشعر
الإنسان بكينونته، وبدفء الحياة الموبوءة بكل الشرور، والغارقة في جحيم الفناء
المطوق العالم. فأين ما وليت وجهك ثمة وجوه القبح تتناثر أشْكالا بَشِعَة، تثير
النفور أكثر ما تحفز على معانقة الجمال. ومع ذلك يبقى الشعر آخر الحصون التي تدافع
عن حق الإنسان في البهي والجليل، في محبة الجلال والجمال.
( فِي السمَاءِ الْبَعِيدَة/ ثمةَ خَطَاطِيفُ تُعِيدُ لِلْأَرْضِ
أَنَاشِيدَ الْحَيَاة/ ولِلْحَدَائِقِ نَشْوَةَ الْحَفِيف/ وَقُرْبَ الْجِبَالِ
نَايَاتٌ تَبْكِي غُيُومَ الْأَقَاصِي/ وَتُعَانِقُ عُزْلَة الْمَدَى /
وَأَيَائِلُ تَرْعَى هَيْبَةَ الْفِجَاجِ/ وَتَحْرُسُ الريحَ الْقَادِمَةَ مِنْ
جَنُوبِ الْكَوْنِ، وَتَرْقُصُ لِظِلَالٍ عَابِرةٍ… ثمةَ حَيَاةٌ أُخْرَى تَذْرِفُ
وَشَلَ الْحَاضِرِ عَلَى وَجَعِ الْأَرْض/ وَتَنَامُ عَلَى نَاصِيَةِ الْآتِي/
وَتَقُودُ الْعَالَمَ إِلَى آخِرِه…)
___
المصدر: القدس العربي
٭ شاعر من المغرب
إرسال تعليق