-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

مشهديّة الإسقاطات التّاريخيّة / محمد فتحي المقداد

المقداد

مشهديّة الإسقاطات التّاريخيّة

في قصيدة (مسلات الفتي النبطيّ) للشاعر عبدالرحيم جداية

بقلم/ الروائي محمد فتحي المقداد 

القصيدة مُترعة بإسقاطاتها التّاريخيّة، اعتبارًا من العنوان (مسلّات الفتى النبطيّ)، ولا غرابة في ذلك، خاصّة عند نعلم أنّ شاعرنا عبدالرحيم يحمل شهادتي (ماجستير) إحداهما في الآثار الكلاسيكيّة، والأخرى في طريق وتدريس المناهج التربويّة

** فالعنوان جاء طويلًا في ثلاث كلمات (مسلات)، وهي الأعمدة الشامخة ذات الرؤوس المدببة المنحوتة عليها تواريخ الانتصارات، والملوك، والقادة والحوادث الهامّة في حياة الأمم، اعتبارًا من مسلة رمسيس، ومسلة حمورابي، وميشع

وكلمة (الفتى) من الفتوّة والقوّة والمنعة، واستدعاء ذلك في زمن انحدارنا الحضاريْ، ومسلّاتنا المنهوبة ما تزال شامخة في العواصم الأوربية، تحكي على الدوام قصة الحضارة

الكلمة الثالثة (النبطيّ)، ولماذا النبطيّ بالذات؟. أعتقد جازمًا أن الشاعر يستنهض الهمّة من ذات المكان الذي كان يومًا مصدرًا للقوة والسيادة، ليبعث فينا الأمل بالمستقبل الأفضل لنا

** منذ أول كلمة في القصيدة (ثموديٌّ) فهو يستدعي هؤلاء الجبارين المشهورين بقوة بنائهم الجسميّ، وصلابة شكيمتهم. وورد ذكرهم في القرآن الكريم. وبعد ذلك بكلمتين جات كلمة (البتراء) المكان العجيب، الذي ما زالت أسرار عجائبه خفيّة رغم التقدّم العلميّ، وما قيل عنها، لا يعدو موضوع دراسات قائمة على التخمينات، والتوقّعات حسب الدّارسين، وعلماء الأنتربولوجيا

** و(نبطيٌّ له من حكمة السّمار) فالعقول التي بنت وأشادت الحضارات لها من الحكمة وضروبها ما يُستضاء به على مرّ العصور

(سقاه الحارث الثالث معالم أرضه الكبرى، خرائطَ في ذراع مؤابَ يذرعها، وقلبُ عمّون في كفّيه قلّبها، وأنّبها) هذا الملك النبطيّ الأشهر والأقوى، يرسم بناظريه حدود دولته وامتداداتها الجغرافية، وتنافس جوارها على السيطرة والنفوذ

** وينتقل الشاعر، ليقول: (وُشوم من بني قيدارْ، أكانوا يعقرون القلبَ يا صالح) وهي القصة القرآنية الشهيرة، مع قوم نبي الله صالح. ومملكة قيدار العربيّة القديمة، نسبة إلى (قيدار) الابن الثاني للنبي إسماعيل بن إيراهيم عليهما السّلام. ويعتقد أنّ مركزها في (دومة الجندل) 

** )أدومٌ، يرفعون الصوت إن هبّت رياح الموت في لغة الرّجوع المستحيل). وأدوم اسم قديم للمنطقة الواقعة في جنوب فلسطين، وخليج العقبة سكنها الآدوميّون، وهم فبائل بدويّة يُنسبون إلى (عيسو) بن اسحاق بن إبراهيم عليهما السّلام

** )صفاويّ، مشى والحرُّ يلسع في محيّاه؛ فسنَّ الرّمح في وترٍ، وألقاه) والصّفاة جزء من صحراء بادية الحماد. والصّفاوي مكان يقع في الشمال الغربي من الشرقيّ من البادية الأردنيّة، في منطقة الطريق المؤدّية إلى العراق، وقريبة من الحدود السّوريّة، وفي محيطها العديد من الأديرة القديمة، ومن ضمنها صومعة للرّاهب بحيرا

** )أنا العربيّ.. أنا البدويّ،، قافلتي تجوب الأرض في روما) من هنا تأتي أهميّة التاريخ، وإعادة قراءته ليكون جسر عبور بدروسه وعِبره

** )صبيّ من بني البدول حاوره: تُراك نسيتنا موسى، أتذكرُ معبد الكُتبيّ؟ أعشتَ ملامح الأنباط في مكابّ مع روما؟(. 

المكابيّون: هي مجموعة عسكرية يهودية. اشتهر المكابيون بعصبيّتهم الدينية حيث ركّزوا على دور الديانة اليهوديّة في الحياة اليوميّة، وحدّوا من انتشار اللّغة والثقافة اليونانيّة في المنطقة

والمكابيّ: هو اللقب الذي اشتهر به يهوذا أحد الأنبياء الخمسة عندهم، وهناك من يقولون: إن هذا اللّقب مشتقّ من الكلمة العبريّة "مكبة" التي تعني "مطرقة" وصفًا لبطولة وشجاعة يهوذا الذي كان كالمطرقة على أعدائه.

** )فشريان الدّماء بكى.. تلوّثُ كفّك الأسمر، فكفُّك ليس بالوطنيّ، أرحنا من رزاياهم.. وخلّ النفط آبارًا، فلا ترجو عطاياهم)، موجعة هذه الرؤية التي عكست بمرآتها مرارة التفتت والتشظّي في العلاقات العربية العربية. وفي مقل هذه الحالات فإنّ رأى بحسّه المرهف هذه القضيّة، ليخلدّها في خريدة ستخلد في سجل المستقبل لقادم الأجيال.

** تنتهي القصيدة بالتأكيد على أسطورة الحكاية الشعبية، بذلك النبطي.. فتي البدول وريث المكان والزمان للملك الحارث، فيقول الشاعر: (مسلّات الفتى النبطيّ.. تشهد أنّه المطويّ في عرف الهوى الأبديّ) عُرف العطاء والحب، ولكن إذا وقعت الواقعة ف (تشهد كلّ معركة، بأنّ العابر الآتي هو المنسيّ) الأماكن تعيش بأهلها وحُماتها، وكل عابر غاصب مهما طال الزمان، سيُطوى ويُنسى ذكره(.

ويعلنها صريحة، بقوله: (وأشهدُ أيّها الغاوي.. مذ غادرتَ أرضَ الله في بترا: سأشهدُ أنّك الوثنيّ(

وبهذا الاستعراض التاريخيّ الموجز لحقب حافلة مليئة بالأحداث، أتوقّف عند كلمات دلالية (ثموديٌّ، نبطيّ، البدول، بترا، البدويّ، العربيّ، بني قيدار، الصّفاويّ، آدوم، مكاب، مؤاب، عمّون، السّلع، معبد الكتبيّ، الحماد، ووادي راجل). لعلّ الشّاعر يؤّكد على منبته في بقعة حغرافيّة، كانت مسرحًا تعاقب عليه ممثّلوا الحضارات وبُناتها، والعابرين لها احتلالًا واستعمارًا، ذهبوا جميعًا، وبقي الأردن.. فهي قصيدة جاءت من رحم الوطن العزيز المنيع بقيمه وثوابته العربيّة والإسلاميّة.

وذاكرة القصيدة استنهضت ذاكرة المكان من جديد، بعد أن كاد يتقادم عليها الزّمان بغوائل النسيان، استنهضها الشاعر لتشكيل رؤية تزاوجيّة ما بين الماضي والحاضر؛ للخروج من مأزق هبوطنا الحضاري.


إربد – الأردن

١٠ / ٣ / ٢٠٢٠

 

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016