لا يعاني القراء الذين ولدوا في العصر الرقمي من صعوبات قراءة وكتابة نص طويل فحسب؛ فكثير من القراء القدامى كذلك يجدون صعوبة في إكمال كتاب أو إنهاء قراءة رواية أدبية، أو فقدوا مهارة "القراءة المتعمقة".
وتحول القلق العام بشأن قدرة أبناء العصر الرقمي والشباب على قراءة أي شيء أطول من حجم الشاشة إلى ما يشبه الذعر، وهناك الكثير من الأدلة التي تدعو للتعامل بجدية مع هذا القلق.
تحولات القراءة
تعمل التكنولوجيا على تغيير الطرق التي نقرأ بها، بما في ذلك عادة تقليب الصفحات، وقبل فترة طويلة من اختراع غوتنبرغ للمطبعة في القرن 15، كان الوصول إلى المصادر المكتوبة مثل المخطوطات أو السجلات والكتب القديمة من أجل الحصول على المعلومات نوعا من الرفاهية التي لا تتاح لعموم الناس.
وقبل الطباعة الحديثة، كانت الكتب تنسخ يدويًّا في عملية مضنية، قبل أن يضيع معظمها في الحروب والكوارث الطبيعية، أو حتى بسبب الإهمال، لكن اختراع المطبعة أحدث ثورة في صناعة الكتب، وتغيرت -تبعا لذلك- عادات القراءة.
اليوم، في القرن 21، نشهد ثورة أخرى من هذا القبيل، بفضل التكنولوجيا الرقمية. ومثلما فعلت المطبعة، فإن التكنولوجيا الحديثة -مثل الإنترنت والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية وأجهزة القراءة الإلكترونية- تعيد تشكيل عادات القراءة والتعلم مرة أخرى.
أرقام صادمة
في عام 2016، قالت المؤسسة الوطنية للفنون في أميركا إن نسبة البالغين الأميركيين الذين قرؤوا رواية واحدة على الأقل في العام انخفض من 56.9% في 1982 إلى 43.1% عام 2015، حسب مقال الأكاديمية بجامعة كوينزلاند الإسترالية جوديث سيبوير.
وتنقل سيبوير في مقالها المنشور بموقع "كونفيرزيشن" الأسترالي إحصاءً أميركيا يعود لعام 2018، ويفيد بأنه في عام 1980 كان 60%من طلاب المدارس بعمر 18 عامًا يقرؤون كتابًا أو صحيفة أو مجلة كل يوم غير دراسي، وبحلول عام 2016 انخفض الرقم إلى 16%.
وأفاد طلاب الصف 12 -الذين أجري عليهم الاستطلاع الأخير- بأنهم يقضون "ست ساعات في الرسائل النصية، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، والإنترنت يوميًا".
وترى خبيرة محو الأمية الأميركية وعالمة الأعصاب ماريان وولف أن تهديد الشاشات لقدراتنا في القراءة يضر العمليات الإدراكية الأبطأ، "مثل التفكير النقدي، والتفكير المستقل، والخيال، والتعاطف؛ التي تشكل جزءًا من عملية القراءة العميقة".
وتتساءل وولف: هل سيؤدي التشتت وتحفيز انتباه الأطفال المستمر بسبب الإنترنت وسهولة الوصول الفوري إلى مصادر المعلومات؛ إلى منح القراء الشباب حافزًا أقل لبناء رصيدهم المعرفي وملكات التفكير النقدي أم سيحدث العكس؟
مسارات الطفولة
وتعد القراءة مهارة مكتسبة تتطلب تطوير شبكات عصبية معينة، ويشجع اختلاف منصات القراءة وتعددها على تطوير تلك الشبكات.
وفي المقابل، ينغمس الأطفال الذين يقرؤون من الشاشات في متعة مرتبطة بالنقر والإشباع الفوري لرغبة التصفح المستمر، ويكتسبون مهارات ذهنية مبكرة في التصفح والبحث عن المعلومات وتحليل البيانات.
لكن وولف تعتبر أن هذا النوع من التصفح السريع يمكن أن يحد تطور عمليات الفهم الأبطأ والإدراك التي تسهم في تكوين ملكات القراءة والتفكير العميق.
وتضيف "ما لم يتم تطوير المهارات
المعرفية المطلوبة للقراءة العميقة ورعايتها على نحو مماثل،
فإن الأجيال الجديدة من القراء -الذين يتشتت انتباههم بسبب توفر
المعلومات الرقمية بسهولة - قد لا تتعلم المضي أبعد
من سطحية القراءة الإلكترونية السريعة.
وتنصح وولف بتعلم القراءة عبر الكتابات الورقية، ولا توصي -في المقابل- بمنع استخدام الأطفال الأجهزة، ولكن تقول "يجب علينا إيقاف تشغيلها بشكل منتظم، وتوفير الوقت لقراءة الكتب الورقية مع الأطفال".
إيقاف الأجهزة
وأسهمت الكاتبة في مشروع لمساعدة طلاب التعليم العالي على قراءة أفضل، ضمن مشروع حكومي في الجامعات الأميركية بين عامي 2011 و2013؛ لتعزيز ما أطلق عليها "مرونة القراءة" .
وتشتمل الفكرة على تحفيز الطلاب على جعل القراءة أولوية تشبه الاستعداد للامتحان أو كتابة مقال، مما يجعلهم يستثمرون الوقت لمزيد من القراءة المتعمقة.
وتعمل المبادرة كذلك على تشجيع الطلاب على التفكير الناقد أثناء القراءة، والاستمرار فيها حتى عندما تبدو اللغة غير مفهومة بشكل جيد، وكذلك عندما تصدر عن هواتفهم إشعارات رسائل ومكالمات جديدة.
وتقول الكاتبة "لقد جربوا -ببساطة- إيقاف تشغيل أجهزتهم ساعتين أثناء القيام بالقراءة؛ وبالفعل نجحوا في مواصلة القراءة"، وتضاعف عدد الطلاب الذين أكملوا جميع النصوص المعروضة عليهم عبر استخدام "القراءة المرنة" ومنع استخدام الهواتف الذكية.
وتقول الكاتبة إنه "يمكننا أيضًا إيقاف تشغيل أجهزتنا وتخصيص مساحة ووقت لتنشيط المسارات العصبية التي جعلتنا سابقا قرّاء شغوفين"، حسب مقالها المنشور بموقع كونفيرزيشن الأسترالي.
وكما تجادل وولف، فإن مهارات "القراءة العميقة" التي تنطوي على "عمليات إدراكية أبطأ وأكثر استهلاكا للوقت" تعد ضرورية للحياة التأملية. ومن المتوقع أن يكون القراء العميقون أكثر تفكيرًا في أحوال المجتمع لإصلاحه.
المصدر : الصحافة الأسترالية الجزيرة
مقنع
ردحذفجيد
ردحذف