غريب أمر العالم العربي فى عدم الاحتفاء
بمبدعيه وكأنه نكران للجميل مع سبق الإصرار والترصد، فيعيش المثقف يصارع متطلبات
الحياة التى تعيق إبداعاته وحين يموت لا يحتفى بذكراه ولا يهتم أحد بتوثيق سيرته
الذاتية إلا إذا كان كتبها بنفسه قبل أن يغادر عالمنا!
فى كتابه الجديد الصادر
عن "مؤسسة سلطان العويس الثقافية" بدولة الإمارات: «محمود درويش يتذكر
فى أوراقي... أكتب لأننى سأعيش» يطرح الشاعر اللبناني د. شربل داغر هذه الإشكالية
عبر سيرة الشاعر الكبير محمود درويش الذى لم تنتج سيرة واحدة له بأى لغة كانت إلا
بعض الشذرات المتناثرة والحكايات غير الموثقة على الرغم من وجود عدة مؤسسات تحمل
اسمه فى رام الله.
هذا الكتاب يستند على اللقاءات
التى عقدها داغر مع درويش في باريس منتصف الثمانينيات ومجموعة حوارات أجراها معه
يتذكر لقاءاتهما معا مبرزا الجانب الآخر من درويش الإنسان قبل أن يكون شاعرا.
فيه نتعرف على كواليس
قصائد درويش وقصص حب محمود درويش وتعلقه بحب الفنانة المصرية صاحبة الصوت الذهبي
نجاة الصغيرة، عن زوجتيه الأولى والثانية، عن خوفه من ركوب الطائرات، بالرغم من
كونه مسافرا دائما يحمل وطنه معه دون العودة إليه. يشير داغر إلى ما كتبه درويش عن
رغبته فى تدوين سيرة البيوت والمنافى التى عاش فيها: «أكثر من خمسة وعشرين بيتا،
ولا بيت لي، ولا عنوان لي». لكن هذا الكتاب لم يكتب له الخروج إلى النور.
كان درويش ولا يزال نجما
من نجوم الشعر العربي لكننا لا نعلم الكثير عن حياته وتفاصيلها عن هواجسه عن
الصراعات التى خاضها من وجهه نظره. نعرف عبر سطور الكتاب أنه كان كتوما لا يبوح
لأقرب المقربين منه عن علاقاته السياسية أو النسائية، ورغم كل دفاعاته عن القضية
كان قليل الكلام فى الشأن السياسي، ويحيل داغر ذلك مرجحا أن يكون ذلك تدبيرا
«احترازيا» من أن تطاله الاغتيالات التى طالت الكثيرين من حوله فى العواصم العربية
والأوروبية.
عبر هذا الكتاب استطاع داغر أن يستعيد مشاهد
حية من حياة درويش طفلا متعلقا بجده ما بين قرية البروة إلى عكا وغيرها من المدن
والقرى التي كان يحب أن يتوه فيها بمفرده ويضل العودة إلى بيته ثم شابا مناضلا ثم
ماركسيا متعصبا وبالطبع مبدعا عربيا يتنقل بين المدن حاملا معه قضية وطنه لتصبح
كلماته منبرا نضاليا يعتليه كل مؤمن بالقضية الفلسطينية.
فى فصل باسم «العاشق
الدائم والزوج... المستحيل» يقترب داغر من قلب درويش وقصص الحب التى كان داغر
شاهدا على بعضها ومنها قصة جارته التونسية التي تعلقت بدرويش لكن قصتهما لم تكلل
بالزواج. يقول داغر «لم يكن يصلح درويش للزواج، على ما تحققت أكثر من مرة معه: فى
المرة الأولى مع رنا قباني، ابنة السفير السوري صباح قباني، أخ الشاعر نزار قباني.
وهى قصة معروفة بتفاصيلها، ولاسيما زواجه منها بعد أمسية شعرية، فى النهار عينه،
وانتقالها معه إلى بيروت ثم إلى باريس.التقيتهما معا أكثر من مرة فى مكاتب مجلة
«الوطن العربي»... كان يبدو عليهما التوتر غالبا ولا سيما الصمت من قبلها».
يتحدث الكتاب عن شائعة
قصة الحب التى جمعته بالمطربة نجاة الصغيرة إثر «فرقعة» صحفية أثناء وجوده بعشاء
نظمه أحمد بهاء الدين وكانت نجاة الصغيرة ضيفة فيه، هذه الشائعة التى أثارت جزع
والدة درويش حورية وتحدثت بغضب عن تصرفاته لسميح القاسم الذى ما كان منه أن أفهمها
أن نجاة الصغيرة ليست مطربة سيئة السمعة بل منشدة! وهو ما دفع الأم للاستماع إلى
أغانيها عبر الإذاعة باحترام شديد.
يخبرنا عن قصة زواجه المفاجئ بالمترجمة المصرية
حياة الهيني، ثم انتهاء الزواج أيضا: «لم يتزوج درويش بعد ذلك، لكنه لم ينقطع عن
الغرام».
ثم يعقد شربل داغر
مقاربة بين الكاتب الروسي ألكسندر سولجنتسين ومحمود درويش لافتا إلى صلة تربط
بينهما على الرغم من تباين مواقفهما السياسية، لكن سيرتهما النضالية تتشابه إلى حد
كبير، فكلاهما سجن ونفي عن وطنه. قيل عن الروسى «كبير المنشقين» وسمي درويش «شاعر
المقاومة»، وكلاهما أفنى حياته بحثا عن شرف الكلمة وفعلها فى مصائر الشعوب.
وللغرابة لم تفصل بين وفاة كل منهما سوى أيام!
الجميل فى هذا الكتاب
أنه يمزج بين سيرة درويش وسيرة المؤلف، وينقل لنا تفاصيل حقبة السبعينيات
واختلاطها بالظروف السياسية العالمية والعربية والحركة الثقافية والصحافة العربية
فى المهجر لا سيما فى باريس وكيف أنتجت لنا أدباء كانوا يعون حقا ما هو دور
المثقف. وربما يجوز وصفها كما أقدم داغر «كانت أياما متسارعة، بوقائع دراماتيكية».
يتتبع الكتاب حياة درويش
فى موسكو والقاهرة وبيروت وعمان وتونس وباريس وعلاقاته بنزار قبانى وعبدالوهاب
البياتي وسميح القاسم وسعدي يوسف وأدونيس ومحمد حسنين هيكل ولطفي الخولي وأحمد
بهاء الدين والكاتب اللبناني فؤاد مطر الذى صرح له درويش فى حوار لجريدة النهار
البيروتية فى السبعينيات: «أرجو أن تضعونى فى حجمي الطبيعي، وأرجو أن أنسحب من هذه
الأضواء المبالغ فيها. أنا لست سياسيا محترفا كما صورتني بعض الصحف العربية».
ويذيل بمجموعة صور نادرة
لدرويش، ويكشف لنا الكتاب عن سر العلاقة الوثيقة بين درويش والزعيم ياسر عرفات
(أبوعمار) ومنظمة التحرير ويشي بحبه الجارف للمتنبي... سيرة درويش الغائب الحاضر
تؤلب علينا الأوجاع. فكم من مبدع لم تكتب سيرته ولم يرمم بيته ولم تحفظ مكتبته من
نبش التجار!!
يقول داغر: «الغياب يصنع الأسطورة... سيرة
درويش تصبح فى عهدة محبيه، مثل... كارهيه»، لعل ما يتركه فينا هذا الكتاب هو سؤال
ملح: كيف نتذكر مبدعينا؟!________
(جريدة
"البوابة"، القاهرة، 12-1-2020) .
إرسال تعليق