العملية فالكيري وإنقاذ الجندي رايان: انه عالم سيريالي متوحش!
العملية فالكيري وإنقاذ الجندي رايان !
مهند النابلسي*
في فيلم توم كروز “فالكيري” (2008) نشاهد تفاصيل محاولة
الاغتيال والانقلاب الفاشلة ضد هتلر، والتي تمت قبل أشهر من انتحاره يائسا في مخبأه
ببرلين، حيث يلخص هذا الفيلم "المفبرك" محاولات المقاومة في قيادات
الجيش الألماني للتخلص من الفوهور وإعلان حالة الطوارىء لإنقاذ ألمانيا من
المصير الذي آلت إليه بعد هزيمتها التاريخية الكاسحة في الحرب العالمية
الثانية! يثني هذا الشريط المصطنع على روح المقاومة وبسالتها وعنادها ، ويخلد بطل
محاولة الانقلاب ويظهره كبطل تاريخي هو وزملاءه، كما يتوعد النازيين بالعقاب
الشديد للجرائم التي ارتكبت بحق الإنسانية... وينسى صانعو الفيلم جرائم أمريكا وإسرائيل
والغرب المرعبة بحق اليابان وفلسطين وفيتنام وأفغانستان والعراق وباقي الدول
المستعمرة … الفيلم بالرغم من ميزانيته الكبيرة والجهد التمثيلي-الإخراجي إلا انه
فيلم ركيك غير مقنع ولا ممتع... الفيلم الذي أخرجه برايان سينغر يستعرض “بسماجة
مصطنعة” بطولة الكولونيل "فون ستاوفنبيرغ" الذي عاد مصابا من غارة
جوية في تونس، ليلقى تقديرا خاصا أهله للاقتراب من الفوهور، ليتمكن لاحقا من
التخطيط لعملية الاغتيال الفاشلة، وليلقى وزملاءه الإعدام لاحقا... ولا يمكن إنكار
مشاهد استعراض حالة برلين في العام 1943 والإتقان في إخراج لقطات الانفجارات
والمشاهد التي صورت هتلر ومساعده هيملر، أما المؤثرات الحاسوبية التي زاد
عددها عن الثمانمائة، فقد استخدمت بمهارة فائقة لإظهار مشاهد إسقاط طائرة
الكولونيل في شمال أفريقيا، وتطرقت لتفاصيل إصابته وجروحه البليغة وأصابعه
المفقودة ( والتي لم يحاول إخفاء إصابته بوضع يده بجيب بنطاله!)، ونلاحظ كيفية
المبالغة بتمجيد المقاومة الشرعية ضد النازية في حين يتم حاليا "تشطين"
جبهات المقاومة ضد هيمنة أمريكا والغرب وإجرام إسرائيل الاستيطاني بحق الشعب
الفلسطيني البطل الصامد والشعوب المقاومة الأخرى في بلاد العرب
والمسلمين!
أما في فيلم ستيفن سبيلبيرغ ” إنقاذ الجندي رايان ” (1998) فتقوم
فرقة أمريكية مدربة بالبحث وراء خطوط العدو لإيجاد الابن الرابع رايان، وإعادته إلى
أمه الثكلى بعد أن قتل أخوته الثلاثة في معارك الحرب العالمية الثانية. حيث تبذل
الفرقة وقائدها جهودا خارقة لإيجاد رايان الرابع، ولكن الأخير يرفض الانسحاب ويصمم
على مواصلة القتال بأي ثمن، وهكذا يسطر الأمريكيون ( حسب ادعاء الشريط
المميز ) ملحمة بطولية وببسالة نادرة، واضعين نصب أعينهم هدفهم الكبير المتمثل
بتحرير أوروبا من النير النازي الجامح، وهنا تكمن رسالة الفيلم الخفية والمتقنة!
يستعرض هذا الفيلم الاستهلال المذهل لعملية الإنزال التاريخية على
شاطىء النورماندي في العام 1944، حيث استغرق هذا المشهد المثير حوالي 27 دقيقة من
وقت الفيلم ، وتكمن روعة هذا الشريط في الاستعراض والاسترجاع الواقعي لمشاهد أقسى
معارك الحرب العالمية الثانية، كما تم اختيار مشاعد “إنزال اوماها” كأحسن مشاهد
معارك حربية بتاريخ السينما، حيث كلفت هذه المشاهد 12 مليون دولار، وانشغل بالأداء
الملحمي المؤثر حوالي 1500 كومبارس غالبيتهم من الجنود الحقيقيين، كما تم استعراض وإدخال
حوالي "عشرين لثلاثين" عملية بتر حقيقية مسجلة لاستعراض الجروح التي
تعرض لها الجنود الأمريكان أثناء نزولهم على الشاطىء ، واستخدمت كاميرات خاصة
للتصوير تحت الماء لإظهار إصابات الجنود إثناء محاولة الإنزال على الشاطىء، كما تم
استخدام حوالي أربعين برميلا من الدم المزيف لتصوير الجروح والنزف وسكب الدماء على
الشاطىء (كنتيجة لوابل الطلقات الغزير المتواصل من دفاعات الجنود الألمان
المتحصنين في أعلى الشاطىء)! أبدع الممثل توم هانكس بدور البطولة مع سبعة ممثلين
آخرين ، وبرر سبيلبيرغ الأخطاء التكتيكية والقتالية التي ظهرت في الفيلم برغبته
المقصودة لإظهار التأثير الدرامي المنشود، وقد نجح وأبدع في ذلك محولا فيلمه لتحفة
سينمائية خالدة!
وفي بداية القصة المثيرة للإعجاب يتعرض قائد الوحدة وفرقته لوابل من
الرصاص المنهمر، حيث يسقط أربعة ألآلف جندي أمريكي في إحدى معارك شاطىء النورماندي
البالغة العنف والشراسة، والتي تحولت لمجزرة مرعبة ، حتى أن لون ماء البحر يتحول
الى الوردي بفعل الدماء التي سفكت وانسكبت! وفي سياق القصة نفسها
يتساءل أحد الجنود عن سبب إعدام الأسرى الألمان وهم في حالة استسلام فيجيبه القائد
بلا مبالة ظاهرة : انه عالم سيريالي!
أوردت هذه المقتطفات من الفيلمين الحربيين مع اختلاف المستوى الفني –
الإخراجي والزمني مابين الفيلم الأول “فالكيري” والفيلم الثاني الحائز على
الاوسكارات، لأخرج بنتائج تقودنا للاعتراف بأن عالمنا الحالي البائس ومع نهاية
العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين لا يزال يعاني من ازدواجية المعايير ومن
شتى صنوف الطغيان والعنف والوحشية وسفك الدماء والأطماع الاستعمارية وتغول الرأسمالية
المتوحشة في كل مكان تقريبا، وكأنه لم يتقدم خطوة واحدة باتجاه البعد الحضاري
–الانساني المنشود، والأمثلة يصعب حصرها ونراها انتقلت من أوروبا والغرب المهيمن
الخبيث المتصهين، لتتمثل بمشاهد سوريالية يومية مرعبة تسود المشهد البانورامي
الحالي لأوطان العرب والمسلمين على وجه الخصوص...
*كاتب وباحث وناقد سينمائي
إرسال تعليق