بيرانيزي «فنان البندقية» الرائي (قراءة موشورية فـي العمران والسجون)
يبدو لمن يتتبع الأبحاث والمقالات النقديّة التي
اهتمت بالمنجز الفني لرسام الحفر الإيطالي، المولود في البندقيّة، جيوفاني باتيستا
بيرانيزي (1720-1778) Giovanni
Battista Piranesi، أن شخصيات ثقافية من أجيال القرن التاسع عشر
وإلى الآن، رأت نفسها بوجه من الوجوه في تصوراته الفنية، أو أن دافعاً جمالياً أو
فلسفياً أو نفسياً كان وراء توقفها المحموم عند مخبآته واللقاء المنفرد معه،
والكلام بانفعال لا يخلو من ذهول وإعجاب بفعله الجمالي الاستثنائي، خاصة سلسلة لوحاته
المعنونة «السجون المختلقة» المنجزة بين (1745 و1760)، والتي تجاهلتها أنوار عصره،
فلم تلق في راهن يومها التقييم والاعتبار الذي تستحقه.
أشارت نصوص هؤلاء النقاد والرسامين والشعراء والرواة والفلاسفة لمعاصرة لوحات
بيرانيزي لمرحلتهم الزمنية، أو تكشّفت عن طروحات مشدودة نحوه بتأثير من توجهاتهم
الإبداعيّة، أو الأخلاقيّة، أو الجماليّة الفلسفيّة، وكأن فنان البندقيّة استطاع
أن يخاطب برهتهم المغايرة متخطياً أبعاد زمنه الذي أفرزته «أزمة الضمير الأوروبي»
على حد تعبير بول هازار.تتفق الدراسات التاريخيّة المتنوعة على القول بأن القرن
الثامن عشر هو قرن جلل شديد التعقيد، تسارعت متغيراته وتعملقت في لجج نهر
التاريخ،وتجانست رواسي خلاصته الفلسفيّة بلا مواربة، كما وازدحمت ردهاته المعرفيّة
بموسوعيين حدتهم ثقة مطلقة بالعقل(1) وإيمان عميق بـ«التقدم»، إلا أن القراءات
النقديّة التحليليّة أو التفكيكيّة تنوس به وتتعدد، من تنوير نسق إلى عتمة نسق
نقيض أخلاقياً واجتماعياً وثقافياً. لهذا القرن تعود بداية التفكير العلمي الحديث،
وعقلنة الدولة القوميّة؛ وفي عروقه تمشت الثورة الصناعيّة، والاقتصاد السياسي،
والنفعيّة، والعقل الأداتي؛ وعلى سككه الحديديّة انطلقت القطارات البخاريّة تربط
شبكة المصالح العنكبوتيّة للمراكز المدينيّة الكبرى؛ وعند عتباته بدأت الهجرة من
الريف إلى المدينة وتشكلت البروليتاريا، وفيه شرعت عقلنة السجون بالتأهيل والإصلاح
الاجتماعي؛ إلىكل ذلك هو عصر تأسيس علوم وفروع جديدة في الدراسات الإنسانيّة كعلم
الجمال، وعلم تاريخ الفن، وعلم الآثار، وفلسفة التاريخ(2)، وعلم الكتابة
القديمة Paleografia.
بالمقابل، ورغماً عن طهرانيّة الثقافة العقلانويّة و«وضوح» أنوار عظمتها، وأثرها
على تخطيط المدن الحداثي، ظهرت على هامش هذا القرن بوادر اندفاعيّة في نصوص وأعمال
أدبيّة وفنيّة وفكريّة تنبهت للبنيان النفسي، والحالة الوجدانيّة والشبقيّة
والصوفانيّة، وطلاسم الحنين والغمغمات المخنوقة للكائن البشري، وما مازجها من شعور
بالتمزق «ماقبل الرومانسي» أو النكوص التاريخي، أو التحفظ والشك إزاء السعادة
الموعودة على جناح المعرفة العقليّة و«التقدم» وسيطرة الإنسان على الطبيعة؛ ولهذه
التعبيرات المغايرة تنتمي الرسوم الأكثر إثارة، معرفيّاً وحسيّاً، لكل من
بيرانيزي، وجون هنري فوسللي (1741-1825)، وفرانثيسكو دي غويا (1746-1828)، ووليم
بريك (1757-1827) وجون مارتين (1789-1854)من بين فنانين آخرين أشاحوا الطرف في
فنونهم عن فجاج «العقل الخالص».
أما مدينة روما التي اتخذها بيرانيزي مستقراً له لبقية أيام عمره منذ عام 1740،
فلم تكن إلا غبشة ضبابيّة لتلك الـ«روما الباباوية الظافرة» من القرن السادس عشر،
ذلك أن رياح التاريخ أخمدت وجهها النهضوي، فركدت فيها الحماسة للمشاريع
المعماريّة، وبدأت تعيش بتواضع تحولات المدينة المميز لإيقاع الثورة الصناعيّة
وأفكار التنوير في الأصقاع الأوروبيّة، ففقدت دورها المؤثر على النزوع الثقافيّة
والفنيّة الأوروبيّة لصالح غيرها من المدن خاصة في فرنسا وانجلترا، ولم ينقذها من
مصير الأفول إلا السجال الابستمولوجي الأوروبي الدائر في سبيل البحث عن جذور
لـ«العقل» في سرديّة الأصول، الأمر الذي أنقذ روما حينئذ وحوّلها إلى واحدة من أهم
المراكز الثقافيّة التي لا غنى عنها على مدارج المعرفة الأكاديميّة(3)، وتأمل
الماضي برنوات تنويريّة حداثيّة تتغيا بناء ذائقة تعتمد «الجميل» لعمرانها
المستلهم من تراث الإمبراطورية الرومانيّة، أو «سلفها الصالح» الذي مثلته الحضارة
الإغريقية؛ وليس بخاف على أحد ما وصلت إليه هذه النزعة –بمغاليقها الجوهرانيّة– من
وحدانيّة ثالوثيّة الأقانيم: «المركزيّة الأوربيّة»، و«الميتروبولي»، و«الاستشراق
الحديث»، طالما أن فضيلة اللوغوس-الخير لم تفض عن تخوم الخارطة الأوروبيّة.
حسناً، قبل أن أتابع حديثي عن بيرانيزي، أود أن أشير،في معرض الحديث هنا، للرحلات
الأوروبيّة نحو الجنوب، والمعروفة تاريخياً بـLe grand tour،التي تحوّلت معها ايطاليا
لقبلة حج ثقافي بتدفق أعداد كبيرة من الزوار الباحثين وأهل العلم، خاصة من أبناء
العائلات الأوروبيّة الثرية، لاستكمال تكوينهم المدرسي والفني، وللاطلاع على
المنجز الكلاسيكي النهضوي والحضارة الرومانيّة، فكان مسار هذه الجولات يشمل مدن
البندقيّة، وفلورنسا، وروما أساساً، ومن ثم نابولي بعد اكتشاف هيركولانيوم سنة
1738 وبومبي سنة 1748، ومع هذه الأسفار إلى ايطاليا وضعت اللبنة الأولى ودشّن
مفهوم السياحة الثقافيّة كما يعرف في راهن يومنا.كان من عادة الوافدين والطلاب
المبعوثين والدارسين، آن يحين وقت رحيلهم وعودتهم لبلادهم، حمل تذكار معهم يبغون
به استعادة وتوثيق ما احتوته الذاكرة أثناء جولتهم الإيطاليّة، فعمد الأغنياء منهم
إلى شراء اللوحات الفنيّة كلوحات لوقا كارليفاريجسLuca Carlevarijs (1663-1730)، وكاناليتوCanaletto(1697-1768)، وفرانشيسكو غوارديFrancesco Guardi (1712-1793) على سبيل المثال؛
واكتفى الأقل غنى باقتناء أعمال الحفر(grabado, engraving, gravure) لفنانين من أمثال
الصقلي Giuseppe Vasi(1710-1782) وفنان
البندقية بيرانيزي.هكذا فالتذكار الذي يساعد الزائر على استحضار ما شاهده بأم
العين، حفّز الجنس الفني الذي أطلق عليه بالايطاليّة Vedutismo، أو فن الـ«منظر» Vedute، والذي شمل الأعمال
التصويريّة البانوراميّة للحواضر الإيطاليّة. ويمكن القول أن هذه اللوحات تخدم
حالياً، إضافة للجمالي وقيمتها الفنيّة التاريخيّة، الجانب التوثيقي العلمي كونها
توضح مشهديّة المدينة أو حال الآثار الرومانيّة عند اكتشافها آنئذٍ.
ومن الفن البانورامي أو «المنظر» الايطالي تفرعت تنويعات شتى، أهمها تصوير الأطلال
وعراء الأماكن الأثريّةruinas،
ورسم الخرائط، وفن «النزوات» capriccios وهو المنظر الفانتازي
الذي يطلق فيه الفنان الحرية لجنيّات مخيلته، ولا يعنى بدقة محاكاة الواقع أو
مشابهته، سواء على كامل مساحة اللوحة أم في جزء منها.
وبالمجمل كان لانتعاش الطلب على هذه التذكارات الفنيّة أثره البليغ في ازدهار سوق
الفن، فتضاعفت أعمال الحفر المطبوعة، خاصة تلك التي تمثل مواطن الإثارة في المدينة
الإيطاليّة، وسيمياء طلول الحضارة الرومانيّة. وكما هو منتظر انعكس هذا النشاط
الفني على فنان البندقيّة بيرانيزي، الذي مارس الحفر بـ«الماء القوي»، فأنجز كافة
أنواع «المنظر»، وأبدع مرتسمات غير مسبوقة: مسكونة بذاته، وحافلة بتعربشات لولبيّة
لدورة الزمن في مضمونها كما سنرى مع التوسع في هذه الدراسة النقديّة.
قصة مدينة لا مكانيّة في المكان
مع الوفد المرافق لسفير البندقية في الولايات الباباويّة، وبعمر عشرين سنة، يصل
بيرانيزي روما لأول مرة،ومن حينها و«المدينة الأبديّة» تساكنه، ولها قدم ما استطاع
إليه سبيلا..يا لسيرة هذه المدينة!!
من روما فلليني، بازوليني، روسيليني..نغض الطرف لبرهة دهريّة، ونعود مع جوبات
التاريخ إلى القديس أغوسطين (354-430)، حيث تبدو ظلال نهب روما على يد القوط سنة
410 مخيمة فوق ريشته آن تحبير «مدينة الله» في الفترة الواقعة بين (412-426).تنطوي
القرون الوسطى الأوروبيّة، وتتحرك العقود نحو تحولات المدينة الإنسانويّة، بجحيمها
ومطهرها وجنتها المتبدّية في «الكوميديا الإلهيّة» (1308-1321). وتمرّ «الأيام
العشرة» سنة (1351)، وتشاد قواعد هذه الحاضرة في التصاوير والصروح الإنشائيّة
للجيوتو (1267-1337)، ويرى منظورها في «المدينة المثاليّة» لبيرو دي لافرانشيسكا
(1415-1492) المناسبة لـ«الرجل الفيتروفي» (1490) رغم ما يُسرَد من مكيافليّة
حكمها في «الأمير» (1513). كل ذلك يندرج في مشهديّة التاريخ قبل أن يأخذ توماسو
كامبانيلا(1568-1639) بكتابة «مدينة الشمس» سنة 1602 في زنزانته التي سجن فيها
لمدة 27 سنة بسبب مؤامرة حيكت من قبل القوى المضادة للإصلاح.هكذا ومع القرن الثامن
عشر يحضر بيرانيزي إلى خشبة مسرح تاريخ الفن الإيطالي، مكرساً أغلب منجزه الجمالي
لروما،المدينة والحضارة، بكافة تداعيات معانيها في الواقع الملموس والمجازي
والمتخيل على حدّ سواء.
في إطار الثقافة الأوروبيّة، ينتمي كامبانيلا مع مدينته لزمن التحدي المعرفي
الإنسانوي، الذي كوّن معنى مشروعه النهضوي كل من جاليليو (1564-1642)، توماس مور
(1478-1535)، شكسبير (1564-1616)، ثربانتس (1547-1616)، فرنسيس بيكون (1561-1626)،
ديكارت (1596-1650)..بينما ينتمي بيرانيزي مع مدينته لتاريخ التوتر التنويري ماقبل
الثورة الفرنسيّة، أوقات دارت في فلكها شخصيات من أمثال جون لوك (1632-1704)،
جيامباتيستا فيكو (1668-1744)، جان جاك روسو (1712-1778)، ديدرو (1713-1784)،
جياكومو كازانوفا (1725-1798)، غوته (1749-1832)، ليسينغ (1729-1781)، دانيال
ديفو(1660؟-1731)، نيوتن (1642-1727)، ادموند بيرك (1729-1797)، الماركيز دو ساد
(1740-1814)، وجيريمي بنثام (1748-1832)من بين آخرين.
كخلاصة تشكيليّة، يمكن القول أن «مدينة الله» تتموضع على سطح مستوى ثنائي الأبعاد،
يغيب عنها المنظور، وتتجلى فيها كابوسيّة سقوط الإنساندون ظلال من الجنة على
الأرض، وفيها نستبين جبريّة المقادير التي رسمتها «الحكمة الخفيّة للإرادة
الإلهيّة»، وجلال تدبيرها في سبيل روحانيّة «قدس جديدة». بينما ترى «مدينة الشمس»
جبهياً ضمن إطار فراغ ثلاثي الأبعاد، تتلاقى فيها خطوط المنظور عند مركزيّة نقطة
التلاشي، ويتمظهر فيها الإنسان العليم وهو يقود مصيره وظلاله الإنسانويّة واثقاً
من الظفر. أما المدينة التي أبدعها ونظمها مهندس الحضارة الفنان-الخالق بيرانيزي
فتتوضح سماتها الكليّة باجتماع لوحاته المتباينة كلها،كما لو كانت تشكيلات حواريّة
متعددة المناظير، موشوريّة الوجوه لحالات وأزمنة مدينيّة متعددة، يساجل عبرها
المعنى ويشاد القول وطباق القول (contrapunto) على حد سواء.
مهندس معماري من البندقيّة
ليس من السهولة بمكان فرز أعمال بيرانيزي وفق ترتيب مراحل تاريخيّة متتالية،
تفترضها اقتراحات متأتية من التغيرات التي تعاقبت على مسيرة الفنان، وذلك لأن
بيرانيزي قام بفعله الفني على مواضيعه المختلفة بوقت متزامن أو متشابك
تقريباً.بالمجمل يمكن التعرف على وجوه ممارسات بيرانيزي الفنيّة والبحثيّة
الجماليّة من خلال عمله كرسام بالحفرGrabador، وأركيولوجي، ومنظّر فني
حول طبيعة ودور العمارة في «الأزمنة الحديثة»، وواضع خرائط توضيحيّة لمدينة روما
القديمة، ومهندس معماري ومصمم داخلي، ومصمم أثاث ومدافئ جداريّة، إضافة لكونه تاجر
عاديات .. كل هذه الألقاب والتخصصات الحِرَفيّة تتجاوز إلحاحه التوصيفي الحثيث،
عند مهر توقيعه على أعماله المختلفة، على أنه محض Architetto veneziano» مهندس معماري من
البندقيّة».
بالمقابل، ثمة أمر لا بد من التنويه له، ذلك أن أياً من رسوم ومخططات بيرانيزي
الهندسيّة لم تتحقق على الأرض المكان، فلم تتحول لواقع من حجر أساس وهياكل عمران،
وبقيت حبراً على ورق باستثناء كنيسة سانتا ماريا دل بريوراتو في روما، التابعة
لطائفة فرسان مالطا، والتي عمل بيرانيزي على إدخال بعض الإصلاحات عليها، بتكليف من
الكاردينال كارلو ريزونيكو (1724-1799) في ستينات القرن الثامن عشر، فأجرى تعديلاته
الزخرفيّة على واجهتها ومصلاها فقط، لتوظّف الكنيسة لاحقاً، لحكمة القدر البليغة
السخريّة، كفضاء قبري دفن فيه بيرانيزي بعد وفاته.في حقيقة الأمر، ليست اللغة
المعماريّة الخاصة ببيرانيزي، السليمة رياضياً بالمجمل، قابلة للتحقق، ولكنه أصرّ
عليها بعناد فريد رغم إدراكه استحالتها؛وكأنه أراد أن يسرح في أقصى مداه الإبداعي،
أن يتجاوز شرك زمنه العقلي المنصوب بزمن ينصبه هو على أرضيّة العمل الفني
المتخيل.. أن يوصل تشكيلات فكره ومخيلته حول المدينة-الحضارة إلى اتجاه مفارق عند
انعطافة التاريخ؛ فكان له ما استهواه، بأدواته وإرادته، عن طريق البناء المرسوم
والمخطط الإنشائي المنفذ بتقنية الحفر والطباعة.هكذا، كرس بيرانيزي روحه المتوثبة
لإنجاز رسوم عبّرت عما عصف به، واستوعبه من «جمال تجريبي» ترصّده لأيام وليال في
مشهديّة روما وبين الحفائر وعمليات التنقيب الأثريّة، فجاءت لوحاته لتجمع بين
حسابات «العقل الرياضي» وجموح «المخيلة» في فرادة غرائبيّة لا تنفصم؛ وأثارت هذه
الوحدة الجامعة والمحالة التحقق، لأسباب تعود لخصائصها المحايثة، الاهتمام بها
لاحقاً كما إصراره على فعلها والتحليق عبرها دون كلل أو قضبان تسوّرها.
للوهلة الأولى، ينتاب المتأمل في أعمال هذا المعماري الفنان الإحساس بأن أهم ما
قدمه يتمحور حول سلسلة «السجون المختلقة» المتخيلة، الأمر الذي أشار له السينمائي
سيرجي ايسنشتين في دراسة له، حين أسقط من اعتباره كل ما قدمه بيرانيزي، وأشار فقط
لبهاء «إشراق» éxtasisسويداء إبداعه في سجونه المحفورة والمطبوعة على
الورق، معتبراً أن تكرار إنجازها مع إجراء تحويرمستمر عليها، هو بمثابة هاجس
لمقاربة الكمال، هاجس يشابه ما داوم عليه غوته أثناء تعديلاته المتتالية على
مسرحيّة «فاوست»(4).
بالطبع أتقاسم مع ايسنشتين حماسه الاحتفائي بالتكوينات الفانتازية للسجون
البيرانيزية، وتأثيراتها البديعة في نظرية المونتاج السينمائي لديه، ولكني أتحفظ
على وجهة نظره فيما يخص «تواضع» ما تبقى من إنتاج بيرانيزي الجمالي، بل أرى أن
أعمال الفنان تشكل كلاً استثنائياً متكاملاً في القرن الذي رأت فيه النور، والقيام
بفصلها عن بعضها البعض هو إجحاف نقدي بحق أساسيات مبنى ومعنى ما أراد الفنان قوله
بخبرته التجريبيّة الفريدة، وحواره مع حاضره وماضيه ومستقبله، ومع ذات شخصه، ذلك
أن لوحاته وتصاميمه وأغراضه الفنية توضح إحداها الأخرى ضمن منطق حواري، فتصاويره
التشكيليّة على تنوعها تبدو كجدل منهجي يقيمه الفنان فيما بينها من جانب، ومن ثم
فيما بينها وبين التاريخ ودورته الحوليّة الحلزونيّة من جانب آخر. وأقصد هنا مفهوم
التاريخ الذي يحكم الصيرورة الإنسانيّة، لا التاريخ كنص يسرد الوقائع ويدوّن
الأحداث.
كما أنني أرى أن بيرانيزي من خلال موقفه عبر سلسلة السجون كما غيرها من أعماله
الفنيّة، يقترب من شخصية فاوست الدراميّة التي أبدعها غوته، لا من غوته المؤلف،
فهو يبدو كفاوست باع روحه لشيطان الفن، فقال مقولته حول التاريخ وعمارته عن طريق
الجمال وفانتازيا المكان الذي حلم به.تقنية فن الحفر التي استخدمها بيرانيزي
قبل أن أتابع نسج الحبكة الرئيسيّة لدراستي هذه، أود أن أتطرق لاستخدامات بيرانيزي
التقنيّة؛ وعليه أشير إلى أن فن الحفر حقق تميزاً معتبراً في القرن الثامن عشر،
خاصة مع انتشار أجناس «المنظر» المتنوعة، فتعددت أساليبه ووسائله كالحفر على
الخشب، والنقش على الحجر والمعدن، وفيما يخص هذا الفن الأخير يمكن القول أنه تطوير
لاستخدامات درجت في مهنة صياغة الحلي والترصيع،خاصة حينما اتجه التفكير نحو طبع
الزركشات المنقوشة على المعادن الثمينة فوق الورق في كل من فلورنسا والبندقية
النهضويتين. أما بالنسبة للتقنية التي اعتمدها بيرانيزي لأجل كافة أعماله المحفورة
والمطبوعة فكانت»الماء القوي»،والتي تعرف أيضاً بـ«التنميش» (aguafuerte, etching)، وهي نفس الطريقة التي درج
على ممارستها بعض الفنانين، مثل دورر (1471-1528)،رمبرانت (1606-1669)، تيوبولو
(1696-1770)، غويا (1746-1828).
تقوم هذه الطريقة على النقش الغائر فوق لوح نحاسي، وفي حالات نادرة استخدم
بيرانيزي الزنك، وتجري عملية الحفر بواسطة أداة المنقاش buril، ذات الرأس الفولاذي المضاء
(المنقار) بمقاطع وثخانات مختلفة؛ فبعد تنظيف صفيحة الماتريكس المصقولة بشكل جيد
ودهنها بالورنيش الشمعي، يحفر الفنان أثلام الرسم الذي في ذهنه ومخيلته على السطح
النحاسي،لتمكين الحمض في المرحلة التالية من الوصول إليها، وتتعدد أعماق هذه
الأثلام المحفورة على نحو تقني تستطيع معه أن تحمل المؤثرات التعبيرية الخاصة التي
يريدها الفنان من تدرجات في قيم الظلال والنور، وتحولات «الفضاء الأثيري» الـsfumato إلى ما هنالك من
مؤثرات. ويتم كل ذلك على نحو مقلوب، حتى الكتابة المرفقة إن وجدت، كما هو الحال في
النصوص المرافقة لرسوم العمارة الرومانية التوضيحية، والتي كان على بيرانيزي حفرها
بشكل معكوس كي تستوي بعد الطباعة.
وفيما يخص الظلال، لاسيما في رسوم الأطلال والمدافن الرومانية ودهاليز السجون، فلم
يعمد بيرانيزي على ترداد حفر ثلم مواز لخط الرسم الأساسي، للحصول على الظل المرافق
له بقوة ملازمة، بل قام بحفره بميلان مبتكر خاص به، مما ولد بعد التحبير والطبع
ذلك الإحساس الذي ميّز الرسوم البيرانيزيّة، وأقصد به الإحساس باهتزاز أو رجفة
متوترة ومقلقة للخط وللشكل النهائي بالمحصلة.بعد ذلك تأتي مرحلة تغطيس الصفيحة
المحفورة في مغطس حمض الآزوت الذي ينسرب في الأثلام ليسري مفعولة التفاعلي مع
المعدن. وكلما طالت مدة التغطيس وشدة تركيز الحمض، كانت الخطوط المحبرة لاحقاً
أكثر دكانة وظلمة. أخيراً، تغسل الصفيحة وتجفف وتحبّر، ثم تمدد ورقة الطباعة
فوقها، وبالضغط بواسطة مكبس خاص ينطبع الرسم المحفور والمحبّر على سطح الورق.
مرجعيات بيرانيزي الفنيّة الأولى
في فترة اضمحلال سياسي واقتصادي، فتح بيرانيزي عينيه على الثراء المعماري لماضي
«جمهورية البندقية» النهضوي، ففيها تعرف على الأعمال الكلاسيكيّة، لاسيما تلك التي
أشادها مواطنه المهندس أندريا بالاديو Andrea Palladio (1508-1580)، كما درس مؤلفات الروماني
ماركو فيتورفيو (80/70 ق.م-23 ب.م) حول قواعد الهندسة المعماريّة. وقرر احتراف
هندسة العمارة، بعد تلقيه مبادئها الأوليّة على يد خاله، واحتكاكه مع معنى كتلة
الحجر الخام والمصقول في المقالع التي اشتغل بها والده.بداية، تعلم الرسم على يد
الأخوة فاليرياني Valeriani في
مدينة مولده، وتعمقت ثروته الفنية الأولى مع مجايليه من أفراد عائلة بيبينا Bibbiena، خاصة Ferdinando Galli Bibbiena (1657-1743)،
ليس فقط فيما يتعلق في تصميم العمارة المسرحيّة فقط، وإنما فيما يخص السينوغرافيا
وتصميم المشهديّة، وتقنيات خداع البصر (الترمبولي)، والتوظيف الجديد للمنظور
التصويري، والذي لا يقتصر على رؤية البناء المعماري المرسوم في اللوحة جبهياً، كما
هو الحال في المعياريّة الهندسيّة الكلاسيكيّة لـ«المدينة المثاليّة» لبيرو ديللا
فرانشسيكا، وإنما من زوايا متباينة خلقتها تنويعات فن الباروك (مثل «المنظور
القطري»)، وكان لهذه الطريقة أثرها فيما يعرف تاريخيّاً بـ«الرسام-السينوغراف»؛
الأمر الذي سيكون له أكبر الأثر فيما بعد على عمق مشهديّة نقوش بيرانيزي عامةً،
ورسوم الخرائب والمقابر الرومانيّة الأثريّة و«السجون المختلقة»خاصةً.وفي هذا
المجال لا يمكن إغفال أثر أستاذ المنظور في «أكاديمية فرنسا في روما» الرسام
والمهندس المعماريGiovanni Paolo
Pannini(1691-1765)، والذي عزز في بيرانيزي الشغف لرسم أطلال
وصروح أثريّة ونزوات تطغى عليها الروح الفانتازيّة؛ كما وداوم على محترف الرسام
والنقاش جيوفاني باتيستاتيوبولو Giovanni Battista Tiepolo، الذي يعتبره البعض الفنان
الباروكي الأخير وأهم من يمثل الروكوكو الايطالي، إضافة لأنه مؤسس الجنس الفني
الـ«منظر» Vedute في
البندقية؛ وبرفقته سيتأثر بيرانيزي بتدرجات أو تناقضات النور-الظل
(الكياروسكورو chiaroscuro) على
مساحة لوحة الحفر، كما وسيتعرف على تقنيات خلق الـ sfumato» الفضاء الأثيري» الذي
وصل لأوج نضجه في التصاوير الباروكيّة.
وباستعراض أسماء من أثّر على بيرانيزي، لا بد من ذكر المهندس المعماري
النمساوي Fischer von Erlach
(1656-1723)، والذي حرّض فيه توق القرن الثامن عشر لتخيّل
وإعادة خلق أبنية جليلة قديمة، وتأثر بدراساته التاريخيّة المقارنة الرائدة حول
العمارة، وتعاطفة مع عظمة الهندسة المعماريّة في الشرق الأقصى ومصر
الفرعونيّة،خاصة في مؤلفه الأهم: «دراسة في هندسة العمارة التاريخيّة والمدنيّة»
(1721)، فانعكس هذا التأثير بوضوح على تصاميم بيرانزي وديكوراته الداخليّة لاحقاً.
كما تتوضح مؤثرات لسجاله في سنوات النضج مع مؤسس تاريخ الفن فينكلمانWinckelmann (1717-1768) حول المصادر
المعماريّة للحضارة الرومانيّة، والمفاضلة بين المعيارية الإغريقيّة والرومانيّة
الخاصة بإنشاءات العالم القديم؛كذلك نقاشه مع المهندس المعماري وعالم الآثار
الفرنسي Julien-David Le Roy
(1724-1803) المدافع عن إعجاز ثقافة وفن وعمارة
الماضي اليوناني على ما عداه من أزمنة راحلة في تاريخ البشريّة.
في حقيقة الأمر، لم تترك الحياة المعماريّة الخامدة في روما المجال لبيرانيزي كي
يمارس مهنته كأي مهندس معماري يتلقى عروضاً تمويليّة لإنجاز مشاريع ومخططات تصميميّة،
فكان عليه أن يتحايل على مشيئة القدر، ويجد لنفسه عملاً يعتاش منه، ويعبر به عما
يجول في دخيلته الفنيّة الفتيّة، فوجد في انتعاش مهنة الحفر، فرصة للانزياح عن حظه
المتعثر في الهندسة نحو ممارسة النقش على النحاس.وعليه كان ما كان، وقضى فكان، إلا
أن بيرانيزي داوم على رؤية نفسه في مرآة أعماله على أنه «مهندس معماري من
البندقية» كما تمت الإشارة سابقاً. وحينما استقر في روما بشكل نهائي، أخذ بالتعمق
في دراسة فن الحفر، وتتلمذ على يد الفنان الأشهر حينهاGiusepe Vasi، الذي تميّز بمناظره لمدينة
روما؛ورأى الأستاذ في تلميذه «موهبة عالية في الرسم تفيض عما يلزم فنان حفرٍ جيد».
وتستبطن وجهة النظر هذه سلّم القيم في ذلك العصر، والذي ترك لفن الحفر درجة
أدنى من غيره من الأجناس الفنيّة، ونظر لمساره الفني نظرته للمنتج المربح
اقتصادياً، والذي لا يشترط عميق الموهبة، ويمتاز بالسرعة في الإنتاج لمضاعفة
وتكرار طباعة الصفيحة الأم (المتريكس) ميكانيكياً.تعلم بيرانيزي من جوزيبي فازي
أسرار الحفر بـ«الماء القوي»، وتأثر بأسلوبه الخاص في توظيف النور وتدرجاته
المختلفة على تشكيل سطح الحجر في الأبنية المنقوشة على صفيحة النحاس، قبل أن تأخذ
مسارها للطبع.
وفي سنة 1743 أنجز بيرانيزي الشاب مجموعته الفنيّة الأولى، المؤلفة من 13 لوحة،
تحت عنوان: «الجزء الأول من العمارة والمنظور»Prima parte di archotetture e prospettive. وتشير
رسوم هذه المجموعة لدلائل نضج مبكر مدهشة، وقلق جمالي ومعرفي لا يخرج فيها
بيرانيزي عن التقاليد العقليّة المستقرة، ولكنه -رغماً عن ذلك- يتجاوزها من
داخلها، يفككها دون أن يلغيها، يقول لها «نعم» -»نعم للعقل»-، في الحين الذي
يستبطن فيها الـ«لا» على كامل مساحة الفعل الفني، فتصبح هذه الـ»نعم» قابلة للشك
والجدل والتمحيص، وتبدو معلقة .. دائماً معلقة برسم الزمن القادم.من حينها لم
يتوقف بيرانيزي عن الإنتاج الفني والبحث، ورغم الأمثلة على المؤثرات الفنية التي
لعبها كل من الفنانين السابق ذكرهم، إلا أن بيرانيزي استطاع أن يخلق علامته
الجماليّة الفارقة في سيرورة الحفر الذي أنتجه، ويمكن القول أنه أبدع حتى في
الحالات التي كان ينسخ فيها الواقع، أو حينما كان على تناص مباشر مع مرجعياته.
حيز لبيرانيزي في حلبة صراع المدارس الفنيّة
غالباً ما يجري التعميم الفني على أن المدارس الجماليّة الأوروبيّة التي تواجدت
على مدار القرن الثامن عشر تتمحور حول فن البلاط الروكوكو، والكلاسكيّة الجديدة
وبعض مخلفات الباروك من القرن السابع عشر. وتركز كليشة هذه الدراسات النقديّة
المتحزبة، على أن تصارع المتناقضات جرى بين قطبي الثنائيّة الضديّة المتشكلة من
القوى العقلانيّة التنويريّة المتحدّرة من المنطق الديكارتي، والقوى المعبرة عن سلطة
البلاط المضادة للعقلانيّة، الأمر الذي حسم مع أواخر القرن لصالح الكلاسيكيّة
الجديدة بانتصار «العقل المجيد»، وتحديداً مع تبني نابليون للمدرسة الكلاسيكيّة
الجديدة كممثلة رسميّة للثورة، بعد انجاز دافيد لوحته «قسم الأخوة هوراس»(1784)،
على اعتبار أن هذه المدرسة صالحة لتمثيل الأيدلولوجيا القائمة على فكرة السلطة
المركزيّة، بغض النظر عما يستبطنه جديد الكلاسكيّة من روح محافظة.
ليس بخاف على من يهتم بتفاصيل الحدوث الجماليّة، أن هذا التصنيف التبسيطي السائد
في تاريخ الفن، والذي يتعامى عن تعدد الظواهر الفنيّة، ويميل نحو توحيدها وتجميعها
تحت مفهوم البند العريض، يتغافل عن ممارسات مغايرة، قامت بفعلها الفني، وخاضت في
التاريخ صراعها الجمالي الذاتي بمفرد لغة جدليّة أثبتت أنها كانت قادرة على تمثيل
زمنها، وزمنها البديل، وما يفيض عنهما، رغم استعصائها على التصنيف الرسمي الأكاديمي
الآنف الذكر، فتركت طي الإهمال من قبل الخطاب التصنيفي المهيمن، أو ألحقت تجاوزاً
بقطب من أقطابه. هذه النزعة لم تستثن بيرانيزي، فنراه مشمولاً ضمن مدرسة الباروك
مع مؤثرات من الروكوكو أو ترك منجزه للمدرسة الكلاسيكيّة الجديدة.كما هو معروف،
تبنت الأرستقراطيّة الأوربيّة فن الروكوكو كبديل عن فنها الآخر: الباروك. بمعنى
أنها انزاحت عن مبدأ «الذوق الرفيع» Grand gout، المرادف للفخامة
الشعائريّة والحسّ البطولي المشتبك بتصاوير وعمارة قصور الملوك وأسر النبلاء
الحاكمة في القرن السابع عشر، كما وهجرت خطوط التكوين التصويري الثابتة اليقينيّة،
وأشاحت الوجه عن النظرة الباروكيّة الأسيّة التي تتمحور حول الخطيئة والموت نحو
رؤية شكليّة عكسيّة تمثلت في فن الروكوكو البهيج، الرقيق، الأبيقوري الشهواني
اللعوب، بألونه المخففة، وظلاله الحسيّة الرهيفة.
من جانب آخر، لابد من التنويه أنه رغماً عن هذه التحولات بقي الروكوكو وفياً
لمنبته الاجتماعي، فلم يتحرر وينجرف إلى العفويّة والتلقائيّة في التعبير الفني،
بل شدّد على التمسك بنموذجه الفني، واعتمد على البراعة وتقانة الصنعة وتكرار
المنتج الجمالي، ولم يترك المجال للانطلاق أو هجران النموذج، رغم أن جموع واسعة من
الفئات الوسطى الكبرى المرفهة تهافتت على الروكوكو من أجل تزيين بيوتها وزخرفتها
واقتناء اللوحات التي تنضوي تحته، هذا إن لم نتحدث عن رعايتها الماليّة لبعض فناني
هذه النزعة الفنيّة(5).
ضمن هذه التيارات الفنيّة والمعماريّة كان على فنان البندقيّة بيرانيزي أن يطرح
قوله ورؤياه حول الفن!!للوهلة الأولى، تبدو رسومه لمختلف الأبنيّة في مشهديّة
اللوحة وفيّةً للمناخ العقلي المألوف في دائرة الراهب الرياضي كارلو لودولي Carlo Lodoli (1690-1761) في البندقية، الموالي
للكلاسيكيّة الجديدة والذي رأى في الهندسة المعماريّة خير ممثل لـ«العقل»؛ ولكن مع
التدقيق فيها ينحسر هذا الانطباع بفعل آثار تقنيّة تعود لملامح الباروك المهيبة،
ولكنها ليست بالباروكيّة، كما أن رهافة الزخرف الحسي في ديكوراته وتصاميمه تشير
للروكوكو وليست من الروكوكو بشيئ. في نهاية الأمر، لا يلبث أن يتعزز لدى الناقد
المتأمل في رسومه وتصاميمه الإحساس المومض بعدم جدوى التوصيف المدرسي المسبق
المعرفة، وخطل البحث عن مبرر تحققها لصالح تلفيقيّة تبسيطيّة لا نقديّة، فمفاتيح
قراءة أعمال بيرانيزي واستيعاب مسالكها تتطلب نظرية فن خاصة بها تختلف عن تلك
المكرسة رسمياً لمرحلتها الزمنيّة؛ ذلك أن بيرانيزي ينتمي للمناخ الذي خاض فيه
سجاله الفني والمساءلة فيما لو كان من الواجب إعطاء الأسبقية للعقل أم للوجدان،
لعالم الموضوعات أم للذات، للإدراك أم للحسّ .. وما هو دور الخيال والانفعال في
عملية الخلق؛ لعل هذا ما يبرر وجود البناء المحكم القواعد في «المناظر»
البانورامية للمدينة، إلى جانب التفكك والانحلال التصويري كما هي في «النزوات» أو
«السجون المختلقة».
نظرة توصيفيّة عامة لأعمال بيرانيزي
مع بزوغ تصورات «التقدم الخطيّ» نحو الأمام، شغف القرن الثامن عشر الأوروبي بالخطف
خلفاً نحو التاريخ القديم وجميله، وتحديداً نحو جميل الحضارة الرومانيّة(6)، وحرص
أغلب الفنانين،حين تناولهم لصروح وإنشاءات هذا الماضي الهندسي في أعمالهم الفنيّة
على إضافة هالة من رفعة بائنة للنموذج هم الرياضي. ويرى بعض النقاد في هذه العودة
النوستالجيّة للعتيق من الزمن حساسية «ما قبل رومانسيّة»، وإن اختلفت قِبلة هذه
العودة الماضويّة، ذلك أنها تمحورت لدى رومانسيّة القرن التاسع عشر حول الطواف
بكعبة العصور الوسطى القوطيّة ومدينتها الغبشة غير المنظمة ذات الأزقة المتعرجة
الملتوية.
من جانب آخر، ترافقت الاكتشافات الأثريّة المذهلة والأبحاث الأركيولوجيّة
الرومانيّة في ايطاليا مع بدئيّة روح قوميّة وجدت تعبيرها في الاهتمام والتشديد
على الجذور الأتروسكيّة للحضارة الرومانيّة، بالتعارض مع مناصري الأصول الإغريقيّة
لها، من مثل المؤرخ الألماني فينكلمان Winckelmann والمهندس المعماري
الفرنسي Julien-David Le Roy.
بالمجمل، لم يبتعد بيرانيزي، الفنان والمنظّر، عن
ذائقة ما هو روماني، ولا عن ريادة التأكيد على الأصول الأتروسكيّة لما هو روماني،
وإن اختلف تفسير مرامه من مجرد حسّ قوميّ مغلق، إلى قصديّة تتغيا استعادة هذا
الماضي وبلاغة هندسته المعماريّة بمنحى يذكرنا بطروحات مواطنه جيامبا تيستا فيكو
حول فلسفة التاريخ، والتي سأفردها على بساط التوضيح مع المضي قدماً في تعمير
دراستي هذه.
تقنياً، يمكن التعرف على «فن الشعر» والقول الخاص ببيرانيزي من خلال أعمال الحفر
التصويريّة،وتصاميم الديكور، والأغراض التزينيّة التي تغرف على كيف كيفها من
جماليات الحضارة الرومانيّة.هذا قد يقود البعض للقول أن مقاربة أعمال بيرانيزي
تظللها رؤية شكليّة، تسلط بقعة الضوء على الصنعة والمهارة وتقانة عمل الحفر أثناء
«نسخ» الموضوع الروماني، ولكن الأمر ليس على هذا النحو بأي حال من الأحوال، ذلك أن
بيرانيزي وضع على كاهل محمول صنعته،ودربته العقليّة، ودراسته العلميّة، الطاقة
الانفعاليّة، والجمال التجريبي emmpirico، والخبرة الحسيّة التي
تعايش معها أثناء نقل موضوعه المديني والأثري من فضاء المكان الواقعي إلى فضاء
التشكيل الفني، وعمد على إبراز قنطرة الجدل المحايثة بين موضوعه وبين التاريخ
التطوري؛ بمعنى أنه ركّز على إبراز دراميّة عمران وانحطاط الماضي المفقود، مع
محاولة فهم سببيّة الفقد والاضمحلال من خلال مجمل اللوحات التي تتناول الأوابد،
والمنظر المديني، ومحافل الأعمدة، والأسقف الاتروسكيّة المقببة، والمدافن
الرومانيّة، والأطلال المتشابكة مع عمارة الحاضر، والنزوات الفانتازيّة، والسجون
المتخيلة.. الخ؛لكل ذلك عشّق بيرانيزي الضوء الذي ورثه عن أسلافه من فناني البندقية
مع مؤثرات «المنظور القطري»، المستقى من الباروك، كي يمنح المشهد سحنة غير مستقرة
ونوراً مذرراً، كما شدد على البعد «التصويري» (pintoresco, pittoresque, picturesque) في
مقام البناء المرسوم، ونقل مفهوم «السامي» «العليّ» «الجليل» sublime إلى الفنون التشكيلية
فكان الأول في هذا المضمار.اعتمد بيرانيزي ما أدعوه هنا بـ«مقياس الجلالة»، أو
«مقياس السمو»،والذي تبدو معه الشخوص التصويريّة ضئيلة الحجم أمام شواهق الإنشاءات
المعماريّة.. شخوص لا بد من الاقتراب من اللوحة لتمييزها؛ وهنا لا يجب أن يفهم من
تصغير الحجوم البشرية في اللوحة على أنه دلالة على صَغار الإنسان، كما هو الحال في
القصديّات الفنيّة اللاهوتيّة، بل على العكس من ذلك، فالإنسان هو مهندس وخالق
عوالي المعمار الحداثي وأشبه ما يكون بـDemiurgo أو صانع العمارة (كما
هو صانع التاريخ لدى جيامباتيستا فيكو)..هو معيار بيان بنيانه المشاد.
وبتضخيم البناء على مساحة التخييل في اللوحة، بما يخالف الواقع الأثري والنموذج
الهندسي الفيتورفي على حد سواء، يتحاور بيرانيزي مع حاضره عبر تصوّره الخاص
للماضي، فهو لا يروم ترديد الجمال القديم حَرفيّاً من الواقع (كما هو)، أو (كما
كان)، ولا الوفاء له كشهادة وثائقيّة مستنسخة، بل يرغب بإضافة بعدٍ فني يأخذ
بجماليات اللوحة إلى تخوم «السامي» أو «السمو» بمقتضى رؤيته، مما جعل أعماله تنضح
بمعنى مبتكر خاص عبر الطريقة التي يحاكي بها الموضوع، ممهداً الدرب أمام المتلقي
كي يستقبل سمو رسوم عمارته من الإحساس بالغموض في التكوين السنوغرافي لروما
القديمة، أومن الشعور بالرهبة أمام تصاوير الحجرات القبريّة، أو من الانقباض من
مشهديّة الرميم المبعثر بين الأطلال البائدة، أو من الكرب أمام مضارب الرموس وحطام
التماثيل المتناثرة على مرمى من زواحف حيّة، أومن التمزق والألم بسحيق السجون، أو من
تمثّل سخرية القدر في رسوم خرائب طافية من أمواه ظليلة، أو مقاربة جبروت الطبيعة
الغوليّة وهي تقتفي أثر البشر الموتى في التاريخ وتستولي عليه..
إلى جانب كل ذلك، تتعايش دوافن الآثار وتمظهرات الطبيعة الاعتباطيّة في بعض
اللوحات مع أناس رعاة يعبرون مساحة الرسم بفنيّة غنائيّة تذكر موحياتها بـ«الجنس
الرعوي» لدى رومانسيي القرن التاسع عشر الباحثين عن أركاديا البعيدة.
يموضع بيرانزي كل مؤثرات التلقي المتنوعة هذه في مشهديات يغيب عن اجتماعها وتأملها
معاً الإحساس بالسكينة، فلا تسمح بالاسترخاء حين استقبالها بصرياً، بل على العكس
من ذلك تثير المشاعر وتحرض المخيلة لصالح توترٍدرامي يحايث «المتعة السامية» التي
يثيرها الشعور بالرهاب والهول والذهول والهيبة لدى مستقبل العمل الفني.
ولاكتمال مرامه، اختار بيرانيزي لتشكيلاته المحفورة العنصر التزييني المتناغم مع
تجربته الجماليّة، فنزع الزخرف من حيزه الشكلاني المطلق، إلى حيز الاختيار
والابتكار والمحاكاة الواعيّة المدركة. وبالمجمل فإن التوقف أمام العمارة
التصويريّة التي تفيض عن إطار اللوحة، والمحملة بطاقة التجربة الذاتيّة الحسيّة
لبيرانيزي، لا يدع مجالاً للامبالاة، بل تورط المتلقي المهتم في فلك شيفرة جماليات
المعرفة الحدسيّة فيها.
إن فعل بيرانيزي الفني السابق على عصره، لم يأت كصدفة عابرة غير مقصودة، بل قام به
وهو بكامل قواه المدركة لشعريتها الصراعيّة وعوامل فنيتها، وهنا تأتي أهمية
أسبقيته الجماليّة التي لم تمنح التقدير الواجب في زمنها، فكل اللوحات الفنيّة
التوضيحيّة التي خصصها بيرانيزي لعناصر الهندسة المعماريّة الرومانيّة، والمصاغة
بصبر وتأن كبيرين، ليست إلا سجال في حفريات المعرفة و«فن شعر» العمارة كما أبصرها
وتبصرها؛ فنراه يخصص لوحات جمّة لتصوير التفاصيل التخطيطيّة والبنيويّة للأعمدة والتيجان،
ومحمول البناء، وقنوات المياه والجسور، وأساسيات الشوارع الرئيسيّة، وهيكليّة
القناطر والأقواس والأسقف الحجريّة، ومختلف عناصر البنيّة التحتيّة للعمارة
الرومانيّة من مساقط عدة، ولا ينسى أن يترك دلائل في لوحات خاصة أخرى على الكيفيّة
التي شيدت بها الأبنية، إضافة لتصوير أدوات البناء ووسائل إنتاج العمارة في لوحات
أُخَر.بمعنى أنه فكّك عمران المدينة الرومانيّة القديمة، وحللها لعناصرها الأولى
في الحين الذي ركبها فيه على ضفاف زمنه بعد أن جعلها تتكئ على فكرة «السمو» من
وجهة نظره في القرن الثامن عشر، ويمكن القول أن عمله التفكيكي هذا للعمارة
الرومانية يذكر بتشريحيّة ليوناردو دافينشي (1452-1519) للجسم البشري في عصر
النهضة.
التأمل في التراكم التصويري في اللوحات التوضيحيّة التفكيكيّة يقود للاستنتاج بأن
بيرانيزي يقول بدورة التاريخ وحركته، ولكنها ليست دورة سكونيّة مغلقة بل منفتحة
وبشروط أكثر رقياً وتعقيداً. من هنا يرى بيرانيزي أن أصول العمارة الرومانيّة تعود
مباشرة للحضارة الاتروسكيّة لا الإغريقيّة.
(البقية بموقع المجلة على الانترنت)
وقد خاض نقاشاته حول هذه الفرضيّة البحثيّة مع
فينكلمان، الذي ردّ عليه بأنه رغماً عن ذلك فإن الإتروسكيّة كانت الوسيط في نقل ما
هو يوناني للرومان.
يشيح بيرانيزي وجهه عن القول بأن الحضارة الرومانيّة هي استنساخ للحضارة
الاغريقيّة، لأنه يفترض كما فيكو بتعدد المراكز الحضاريّة، وبأن عمارة بعض
الحضارات تأخذ مسارها في التاريخ بعد أن تكون قد استوعبت منجز مرجعيتها البعيدة
(عمارة الحضارة السابقة المنهارة)، لتنطلق في مسار عبقريّة وإبداع هذا المنجز من
جديد بما هو أكمل وأكثر تطوراً، وعليه فإن ما أضافته العمارة الرومانيّة إلى ما
وصل لها عن طريق الإتروسكيين يؤكد على عبقريّة روما التي دفعت علوم البناء والفعل الهندسي
وتنظيم المدن ومبادئ الإنشاءات إلى حدود مفارقة تؤكد على استقلاليّة هويتها
وخصوصيتها بآن معاً.
من هنا تأتي عناية بيرانيزي في نقل هذه الفكرة وعرضها في رسومه، حتى أن المتلقي
يحتار أمام المبرر لعمله الحثيث في هذه اللوحات التوضيحيّة التي تصوّر كيفيّة الإنتاج
المعماري الروماني، إضافة لرسم أدواته ووسائل إنتاجه المختلفة، إلا أن الباحث
المتأمل يدرك أن فعله هذا لم يكن أكثر من سجال فلسفي جمالي وجد وسيلته في فن
الحفر. فعندما يرسم بيرانيزي التجديدات التي استحدثها الرومان على لفائف تاج
العمود الروماني على سبيل المثال، فإنه لا يكتفي بما قدمه أهل روما في الماضي، بل
يقترح تنويعات واحتمالات وابتكارات متعددة من بنات خياله للفائف تيجان (يمكن أن
تكون) في زمنه، وكأنه يعود للقول بأن ما طوره الرومان من خصوصيّة حضاريّة
معماريّة، يمكن أن يطوّر في سياق حداثة القرن الثامن عشر بشكل أكمل أو أكثر
تنوعاً. وهكذا تتعدد الأمثلة في التصاوير التوضيحيّة لبيرانيزي والتي تشير بمجملها
للالتقاء مع فيكو ضمن مضمار القول الفكري.ونستبين كذلك أن بيرانيزي، مثله مثل
فيكو، كان على وعي بمعنى «الانحطاط» في المسار الحضاري، وبأن المدنيّة تحمل عوامل
انهيارها في داخلها، وتجلى ذلك من وجهة نظري في فعلين لسلسلتين تصويريتين قام
بيرانيزي بانجازهما، وتشكلان طباقاً فكرياً وتشكيلياً مفرداً في تاريخ الفن قاطبة:
-مجموعة «النزوات» الغروتسكيّة وعددها أربع.
– مجموعة «السجون المختلقة» («المتخيلة»، أو «المخترعة»، أو المبتكرة) وعددها
16لوحة.
-8-
بين «النزوات» و»السجون
المختلقة»
يظهر التجاور الطباقي لجموع لوحات «النزوات» مع
«السجون المختلقة» وعياً تاريخياً لدى بيرانيزي،ومساءلة مستبطنة حول الحاضر،
وإدراكاً منه بأن القيم الحضاريّة والجماليّة الجوهرانيّة القبليّة المكرسة في
عصره، لها مصدر تاريخي نسبي، وعليه فمصير المدنيّة كما هو في «النزوات»، أو كما هو
محتمل في «السجون المختلقة»، يتبدى كسيرورة ديناميّة تطوريّة لها طابع تاريخي في
أساسه، وهذا التطور التاريخي لا يسير ويتقدم بخط مستقيم، لما يمكن أن يشوبه من
تدخل «لا منطق عقلاني»في السياقات التاريخيّة المختلفة.
يقود البحث النقدي في لوحات «النزوات»، و»السجون المختلقة» للقول بأن سلسلة
«النزوات» تصوغ محتواها من عدميّة كليّة كونيّة تأتي على الأدوار الزمنيّة
المتعاقبة؛ في الحين الذي تقتفي فيه «السجون المختلقة» الأثر المحتمل لمعطيات
التاريخ الجدليّ.والسلسلتان معاً تنير إحداهما المعنى في عتمة الأخرى.
تُقرأ فانتازيا «النزوات»كتصوير غروتسكي يستبطن عبثية سوداوية ساخرة تستعرض مستقبل
الماضي (الحاضر/ زمن بيرانيزي)، ومآل السلطة المهيمنة سواء كانت لـ«الطاغيّة»، أم
لـ«خطاب القوة».
ففي اللوحة المعنونة «قبر
نيرون» تكمن موحيات غير مرسومة تذكر المتلقي بشهوة المستبد اللاعقلانيّة لحرق روما
في ما وراء اللوحة، في الآن الذي تلتقط فيه حاسة البصر صورة الطبيعة وهي تثور
وتندفع نحو ناووس الطاغية الحجري كحزمة من لهيب شرس، فتُرى الأوراق النباتيّة
والطحالب المتعربشة، التي تعود بمرجعيتها لزخرفة فن الروكوكو، وقد تحولت إلىلفيف
من تشكيلات عنيفة التمظهر، متأكلة عطنة متعفنة، تحاصر قبر القيصر برفقةٍ دخان
ضبابي وحطام المدينة وأفاع زاحفة.
والاستدال نفسه يمكن أن يقال بالنسبة للوحة «قوس
النصر» الدال على الهيمنة والمجد والانتصارات العسكرية؛ ففي هذه اللوحة ما يشبه
ستارة مسرحية تكونها العناصر المرسومة من نباتات تتغلغل بين خرائب وهياكل بشرية
مبعثرة، وأعمدة مكسورة، وتماثيل مترنحة، واسفنكس صامت.. هذه الستارة الموحيّة
تنحسر ليظهر قوس النصر في العمق الضبابي. هنا يترك بيرانيزي أمام المتلقي شواخص
تصويرية تقوم على التلاعب بالأزمنة، لتساعده على التقاط دلالة قوس النصر في البعد
الماضي، وخرائب الحاضر في البعد الأول المرسوم على الستارة المفترضة، مما يسهل
عليه إدراك مصير عسكرة السلطة.
وكأن بيرانيزي يحلل في لوحتي «قبر نيرون»، و»قوس النصر» عوامل انهيار وانحلال
الحضارة الرومانيّة،ويجملها في أقنومي تطرف «الطاغية»، وعسكرة «الخطاب
التسلطي».ومن غروتسك بقايا العمران البشري وشظايا الموت والأموات، تتلبس التشكيل
في «النزوات» روح سرابيّة تقول بـ»باطل الأباطيل الكل باطل» آن تحيق الطبيعة
(الحقيقة الكونيّة المطلقة)،بما لها من سلطان،بكل موجود فَعَلَ فِعْلَ «واجب
الوجود»،وكأنها تسترد ما كان لها من برهة حياة أو حيوات فانيّة؛ وبناء عليه يمكن
القول أن سلسلة «النزوات»تستبطن فكرة الصراع بين الطبيعة والمستبد من البشر في
محاولته لترويضها وإخضاعها للإرادة السلطوية، أما حلبة اللوحة المرئيّة فتقدم
نتائج هذا الصراع كانتقام من الطبيعة وهي تتفجر، وتدمر المهابة، لتحولها إلى هشاشة
وركام ولحظة عابرة، مع كل ما تنطوي عليه الأوابد والنصب التذكاريّة من خطاب
خلود،وسرديّة أبدية، وتاريخ تليد.في معرض الحديث هنا، وقبل أن أقارب «السجون المختلقة»
بالنقد، لابد من التنويه إلى أن البحث عن مرجعيّة لسجون بيرانيزي، سواء في الواقع
العياني للسجون المعروفة في زمنه، أو حتى في المخططات السينوغرافيّة المسرحيّة
لمرحلته باء بالفشل، مما دفع أغلبية النقاد للاعتقاد بأن تصاوير السجون هي كما
وصفها خالقها: «مختلقة» تماماً، ومتناسلة من بنات مخيلة الفنان الفانتازية، رغم أن
الذاكرة الجمعية التي اكتسبها بيرانيزي من ثقافته الأم تحفظ بمرويات وحشية سجون
البندقية، وتهويمات «جسر الزفرات»، والحسرات التي كان يطلقها السجناء، قبل
اختفائهم في آخرة الظلمات عند عتبة الطرف الثاني، لاحتمال عدم إبصارهم نور الشمس
مرة أخرى؛إلا أن سجون البندقية تحضر في دخيلة بيرانيزي بمعناها المجرد لا كنموذج
أولي قام بمحاكاته في لوحاته، الأمر الذي يترك مساحة تلقيها مفتوحاً على قراءات
متعددة حرّة في أبعاد الزمان والمكان.
مقابل «النزوات» الغروتسكيّة، تستنطق سلسة «السجون المختلقة» مستقبل الحاضر
(مستقبل زمن بيرانيزي) تحت ظلال الطغيان عامة، والذي كان يتخذ في زمن فنان
البندقيّة، هيئة عقلانويّة تعلي من بتوليّتها الرياضيّة المجردة كمرجع أوحد
للحقيقة البشريّة.اعتباراً من هذا التوجه تتجلى تصاوير هذه السلسلة كقول رؤيوي
للمستقبل، إضافة لكونها وسيلة لتحليل ذاتي للجمال، وتحرر إبداعي انعتق به الفنان
عن القوانين الكلاسيّة الجديدة المشرعنة من قبل «الأكاديمية الفرنسيّة» حول الفن
والعمارة المعاصرة.
يقوم بيرانيزي بنزع النقاب عن واجهة «مدينة الغد»
المفترضة، فتحضر السجون، ومعها يحضر الغياب بالمطلق، غياب النبات والحيوان، حتى
الطير يعلن الغياب، ولا نرى إلا جماد الحجر والخشب والمعدن وبضعة تشكيلات إنسانيّة
واهية منعزلة في غيبوبة غامقة تتوزع على المساحات التشكيليّة.يغوص بيرانيزي في
العالم السفلي لـ»المدينة العقلانويّة»، يخلع عن هامة «العقل الخالص» هالة
القدسيّة، يفقده هيبته المتعاليّة بعنوة مضاءة وهو يحفر هواجسه على صفيحة النحاس،
فيطفو ألق تصميم السجون المعماري على اللوحة المحبّرة المطبوعة في أجواء قتامة
حلميّة هوسيّة موترة للنفس، بلا عقد توصيل مفصليّة، ولا أسّ أرضي داعم أو سقف سماوي
تستقر إليه؛ مما يجعل باطن «مدينة العقل المجيد» المحتملة سجناً محايثاً للكآبة،
ولرهاب الداخل المنفتح على حصر وحصار متاهة خوائيّة يحضر معها الحدس بأن ثمة أنقاض
للروح بشريّة مدفونة في كل ركن من الأركان.مع عودته سنة 1761 لمتابعة العمل على
سلسلة السجون،يحطم بيرانيزي «وحدة المكان»، فيتبدى البعد الأول على نحو مشوش غير
واضح، ويزداد التناقض حدة في الطبقات اللونيّة المكونة للأسود والأبيض، وتتعين
بدقة أكثر خطوط التشكيل المحفورة، مما يكثف حضور الحبر الأسود في ظلال يتسلط عليها
النور عند بعض المفارق، كما تتعملق العناصر المعماريّة والنحتيّة ضخامةً على نحو
مهول، ويتجذّر الإحساس بانعدام القدرة على التنفس في فضاء من الغموض، وتتناقض
النسب المعمارية مع مقاييس اقليدس الهندسيّة، كما يتم تجاوز القوانين الجماليّة
المكرسة منذ عصر النهضة بشكل قطعي، وتضاف أجزاء معمارية لا معنى لها،وسلالم
متقاطعة وحلزونيّة بلا وجهة محددة،وعوارض خشبية لا يمكن المرور عبرها،وقناطر وقبب
متصالبة، وقضبان زنازين وأروقة وأبهاء تعترض خطوط المنظور وتشظي عمقه في مناخ
دخاني مبعدة المتلقي عن إمكانيّة تعيين»نقطة الفرار»، وتاركة إياه في مواجهة قلق
واضطراب التلاشي في لا نهائيّة مهددة أثناء عملية الاستقبال. وبواسطة ذلك يكون
بيرانيزي قد وصل إلى ذروة رحلته مع «السامي الجليل»، فواقع الحبوس المفرغ من
الزمان مقيت كلياً، يتزايل على جدران مضمونه لا إمكانية إنتاج الجمال؛ ثمة إضاءة
متجهمة بائسة نائيّة عن النور الطبيعي، تجعل ظلمات السواد مثقلة بحندسيّة الأفكار
وبهستريا مرضيّة مجردة.
يستعين بيرانيزي في التعامل مع «المرعب القبري»في سجونه بالأسلبة، وعليه تحضر
دلالات القيود والأصفاد والمشنقة وأدوات التعذيب مبعثرة هنا وهناك، محملة
بمؤثراتها البصرية والسمعية في واقع السراديب.وتنتشل تقنية الأسلبة البيرانيزية
المحتوى من التركيز على تصوير العناء البشري المباشر، لصالح رموز العذاب ودلالاته
الاستعاريّة، مما يدفع المتلقي للحدس بزفير موت أسود ورائحة انسحاق تفوح من تجاويف
الدهليز وشتات الأبهاء والمتاهات المتوالدة، وبأن في كل غباشة دامسة هناك نفس
بشرية تختنق دون أن تقضي وتستريح.
إذن، لا تصوير للعذاب والتعذيب المباشر، ولكن «روح الشرّ» تحوم في (ما تحت) هذا
الكون العقلي المجرد الشاهق المبهر،والمحتمل كنتيجة لاحتكار السلطة (سلطة المعرفة
العقلانويّة في حال بيرانيزي) لـ«الحقيقة».. أية حقيقة.
وهذا الـ(ما تحت)الذي يطلق عليه بيرانيزي اسم «السجون المختلقة»، ليس إلا كياناً
ظلاميّاً، منحطاً، شريراً، محكوماً عليه بلعنة الأسود في ذروة طبقاته
اللونيّة.بمعنى أن القمم العقلانويّة المفترضة بهيمنتها الشموليّة على «مدينة
التنوير»، لن تخلق في العمق وأسفل العمق إلا «الجنون» واللاعقلانيّة، وكأن عرافة
بيرانيزي في سجونه ترى المصير الحالك اللاعقلاني لـ»المدينة» على ضوء «العقلانيّة
الخالصة» الشموليّة. وبأن التقدم الرياضي والفيزيائي المادي التي بدأت سلطته تسود
في عصره الأوروبي لا يعني بحال من الأحوال تقدماً روحيّاً وأخلاقيّاً.
إنطاقا من هذه الفكرة نستطيع فهم الكثير من رسوم فراثيسكو دي غويا» السوداء؛
فالفنان الاسباني الذي آمن بـ«حقوق الإنسان والمواطنة» المعلنة على جناج فلسفة
الثورة الفرنسيّة، كان شاهداً على واقع القتل والدمار الذي لحق ببلده بفعل الغزو
الفرنسي تحت ظلال حجج «الاستنارة»(7). حينئذ أعلن غويا بيانه الاحتجاجي بعبارة
نسخها على عمل فني: «حلم العقل ينجب المسوخ»؛ وضربت رسومه قولها في أرض الانحياز
للانتفاضة الشعبيّة لأهل مدريد في الثاني من أيار 1808 ضد العسكر الفرنسي، وهي
الانتفاضة التي يوصّفها البعض كـ «أول الانتفاضات الرومانسيّة» في التاريخ
الأوروبي.
كما هو معروف، شغف رومانسيو القرن التاسع عشر بتصوير عوالم الحضيض السفليّة
والاحتكاك بها، فانشغل بعضهم بسمو الوصف الشعري لما هو «دنيء ومنحط ومنحل»،
وهنا يحضرنا فاوست غوتة، وأزهار شر بودلير،وبؤساء فيكتور هوغو، واعترافات توماس دي
كوينسي، وتصويرية وليم بليك الشعرية، ومسخ فرانكينشتين ماري شيلي،وتعيس جيرار دي
نرفال، وغيرهم من الشعراء والفنانين الذين حملوا «الأبلسة»، و»اللعنة»،و»مسوخية
العقل الخالص»، وسوناتا «التعاسة» على كاهلهم فاقترنوا بها في منجزهم الجمالي..
بناء على ذلك تبدو بصيرة بيرانيزي في سجونه إبصار سبّاق «ما قبل رومانسي»، وانهماك
فني رائد ينتمي للبحث الجمالي في تناقضات «العقيدة العقلانويّة القويمة»،حيث لا
تغيب الهندسة الرياضيّة تماماً من أساس البناء وكلية الوحدات الحجرية التي يرسمها،
إلا أن شطحات أخلاق نزعته الفردية ومخيلته الخلاقة، المتواشجة مع تجربته الحسيّة
العمليّة، والطاقة الانفعالية والرمزية لموضوعه، تضفي عليها بعداً رؤيوياً يرجح
احتمال إفضاء الطغيان سواء كان لـ»مدينة التنوير الرياضيّة»، أو أي طغيان ويقين
استبدادي آخر، إلىأزمنة لاعقلانيّة قائمة على فقدان الحرية وعلى العنفو الاستلاب
والبربرية. من هنا نستطيع فهم تأكيد بيرانيزي الأسلوبي على توسيع مروحة «الحقيقة»
في فنه لتشمل إلى جانب العقل وحسابات العقل ملكات الإنسان الأخرى؛كما وتبوح
ممارسته الإبداعيّة هذه بنوع من التماهي الكلي لذات الفنان مع «المدينة» الواقعة
على أعتاب المستقبل من جهة، والاغتراب الكلي عن مآلها المحتمل من جهة ثانية، وهذا
الحس التاريخي والتدفق الجدلي بين ذات الفنان المندمجة والمغتربة على حد سواء هي
التي جعلت بيرانيزي ينغمس في عرافة القول حول المستقبل: «مستقبل الماضي» في
«النزوات»، و«مستقبل الحاضر» في «السجون المختلقة». وعليه استطاع أن يقدم لتاريخ
الفن مشاهداً لم تكن جميلة بحد ذاتها، وإنما جاء جمالها العظيم من تقنيات إشراق
النور المعرفي والعرفاني الذي يشع من الحجر الحبري ومن العنصر الإنساني الكامن
فيه. بهذه الطريقة أماط بيرانيزي القناع عن وجه المدينة الحديثة المحتملة، إلى أن
طال قلبها الحزين الكئيب في الواقع الفني المسمى «السجون المتخيلة».
حسناً، بالوصول إلى هذا المنعطف في الدراسة يمكن
إجراء المحاكمة التالية: إن وضع اللوحات البانوراميّة المخصصة لـ»المدينة» (واقع
فني/ وهم)بحذاء لوحات «السجون المختلقة» (واقع فني/ وهم) على التوالي، يجعل من هذه
الأخيرة كما لو أنها «ما فوق» الواقع التصويري لمناظر «المدينة»، أي أن مجمل عملية
التلقي أشبه ما تكون بحركة تنقل المشاهد من استقبال «وهم أول»تمثله المناظر
المدينيّة إلى «وهم ثان» مجاور له ظاهرياً وفيزيائياً، إلا أنه مستبطن في داخله
مجازياً؛وعليه فرسوم السجون هي «ما فوق واقع»المدينة المصورة، هي الحقيقة الحلميّة
للمدينة،أو «حلم عقل المدينة العقلانويّة»في حال استهدينا بعبارة غويا «حلم العقل
ينجب المسوخ»؛ الأمر الذي يبرر خلاصة القول أن بيرانيزي هو فنان «ما قبل سوريالي»
أيضاً.. سبق الجماعة السوريالية وبياناتهم المشهورة.قبل الانتقال إلى الفقرة
التالية من هذه الدراسة، أشير إلى أن وجهة نظري حول منجز بيرانيزي بالمجمل
و»السجون المختلقة» تحديداً، لا تتفق مع ملاحظة ميشيل فوكو حول حبوس بيرانيزي في
كتابه «المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن»، ذلك أن فوكو رأى في السجون «الخربة
الزاخرة المأهولة بالتعذيب»تصويراً «ما قبل حداثي»، مما يعني تموضعها كنقيض لسجن
البانوبتيكو، الحلولي الرؤية والانضباطي، الذي صممه جيرمي بنثام، والذي وجد فيه
فوكو قابليّة للتعميم من حيث تمثيله لجوهر السلطة الحداثيّة(8).
وخلاصة اختلافي مع فوكو تتأتى من أن مقاربتي التفكيكية تقودني للقول بأن «السجون
المختلقة» هي مسوخ سجنيّة منسربة من «حلم يدّعي الحداثة»، أي هي حلم البانوبتيكو
نفسه. بمعنى أنها تمثيل لجوهر سلطة العقلانوية الحداثيّة على طريقتها التصويرية
الخاصة.
من جهته رأى ادوارد سعيد في كتابه»الاستشراق»، أن «السجون المختلقة» هي مادة
فنيّة»يمكن أن يرتبط بها «التمثيل الشرقي في بعض الحالات»(9).
في حقيقة الأمر، لم أجد أي مبرر لملاحظة سعيد الخاطفة في كتابه، فصورة السجن لدى
بيرانيزي لا تتضمن أي بعد،سواء مباشر أو رمزي،إلى رؤية استشراقية، بل على العكس من
ذلك، فالتفاصيل التي تحاكي النقش على حجارة الخرائب تدل على شخوص ذات سحنة تتلاقى
مع طغاة من الحضارة الرومانية،وفي ذلك إشارات دالة مجازية على استبداد الطغيان..
أي طغيان.. لا «الشرقي» منه على وجه التحديد كما رأى سعيد.
من كل ما سبق يمكن فهم الاعتبار، الذي أولاه أهل الأدب والفن لاحقاً، من التيارات
الرومانسيّة، والانطباعيّة، والطبيعية، والرمزيّة، والصوفيّة والميتافيزيقيّة،
والسورياليّة(10)، وما بعد الحداثة في الأدب والفن، إضافة لمنظري المونتاج
السينمائي والإخراج والسينوغراف المسرحي .. لعمل بيرانيزي كمرجع من مرجعيات
تواترات حبالهم الصوتيّة في تاريخ الفن.
-9-
بيرانيزي بين «المعرفة
العقليّة» و»علم الجمال»
خلال هذه الدراسة تم تداول مفاهيم «الجمال
التجريبي» و»السامي» و»دورة التاريخ الحلزونيّة»، ولتوضيح الخلفية التاريخية لمبرر
هذا التداول وعلاقته مع بيرانيزي وعصره، أجد من الضروري وضع شبكة وصل تعقد بين
الما قبل والما بعد لزمن بيرانيزي الواقعي، إضافة لمؤثرات جدل الداخل الايطالي
والخارج الأوروبي على وجهته الفنية. من هنا أعود لديكارت الذي فرّق بين المعرفة
العقليّة القائمة على أسس رياضية، وبين المعرفة التي تتوسل الخبرة البشرية كما هو
حال العلوم الأخرى من الفيزياء إلى سرحات الآداب والعلوم الإنسانيّة، ورأى أن هذه
الأخيرة تلقي على كاهل الذاكرة أثقالاً نافلة ضحلة القيمة من الناحية العلميّة
اليقينيّة.وفقاً لذلك نستطيع استنتاج آراء ديكارت في التصوير الفنيّ، وتخيل ارتكاس
الحقيقة فيها ونكوصها إلى الخلف من سلم اليقين، رغم «انتصار القواعد»،بفضل
الكلاسيكيّة الجديدة، والتي يمكن اعتبارها بمثابة عقلنة الفن بتقعيده والرقابة
عليه(11).بالمقابل، وكما رأينا ناقش بيرانيزي الأركيولوجي تاريخ الهندسة
المعماريّة في رسومه المختلفة ومناظره وخرائطه وتصاويره التوضيحيّة، وتعكز في عمله
الفني على تواشج الأسس الرياضيّة والخبرة البشريّة.هذا يعني أن بيرانيزي لم يثق
بمطلق المعرفة الرياضيّة أثناء مقاربته التاريخيّة لعمارة الماضي وحقائقها، فجاء
منجزه الفني كترجمة لمحاولة البحث عن إجابة مغايرة للعصبيّة العقلانويّة .. إجابة
لا بد رفدتها موارد فكريّة تدفقت من حمولة الرحلات الأوروبيّة، إضافة لدفق للذخيرة
المعرفيّة لمفكري إيطاليا وفلاسفتها.
فيما يلي سأتناول مؤثرات الموارد الثقافيّة الإيطاليّة -كما رأيتها- من خلال تعامل
بيرانيزي مع التاريخ وعمارته واحتمال تأثير الفيلسوف جيامباتيستا فيكو في صياغتها،
كذلك موارد الجولات الأوروبيّة، خاصة التجريبيّة الإنجليزيّة في علم الجمال كما هي
متمثلة في أعماله.
9-1-التاريخ وفيكو..
وبيرانيزي
مثلت نابولي بالنسبة لبيرانيزي نقطة انطلاق ومحطة
هامة في رحلته إلى الآثار الرومانيّة جنوباً، وليس بمستبعد أنه تعرف فيها على كتاب
المؤرخ بيترو جانونه Pietro Giannone (1676-1748) «تاريخ إقليم نابولي»
(1723)،واطلع فيه على الجديد في المعالجة التاريخيّة لسيرورة القوانين والنظم
الاجتماعيّة والسلطة الكنسيّة، وترجيح كفة النظريّة النقديّة في تناول التاريخ.من
المؤكد أن منهجيّة هذا الكتاب، والذي كلّف مؤلفه النفي، جاء كاستجابة لسياق ازدهر
فيه التفكير الحرّ، وبوادر المعرفة النقديّة، والحميّة الوطنيّة، إضافة للفلسفات
الأبيقوريّة والنزعة الذريّة في الجنوب الإيطالي.كما ومن المحتمل تعرّف بيرانيزي
على منجز واحد من فلاسفة نابولي الأهم في تاريخ ايطاليا والفكر الإنساني على حد
سواء، وأقصده به هنا جامباتيستا فيكو.
تشير رسوم بيرانيزي لتمثّل فلسفة فيكو في نقد التاريخ وفقه اللغة، آن تنظيره بلغة
فنيّة لتاريخ العمارة الرومانية. بمعنى أن هناك تلاق وتقاطع في النظرة إلى
العمليّة التاريخيّة بوصفها فعل إنساني لدى كل من الفيلسوف والفنان، وإن اختلفت
الوسائل والأدوات المعرفيّة، فالأول عبر عن آراءه كتابةً والثاني رسماً، ومعاً
يشتركان بالطعن بنظرية ديكارت للمعرفة بما تتضمنه من إنكار لتلاوين المعارف الأخرى،
وإن لم يجنحا لإنكار صدق المعرفة الرياضيّة.
بادر فيكو بالهجوم الفلسفي على قواعد المعرفة الديكارتيّة (الكيجوتو، واليقين
الرياضي، ووجود معرفة أوليّة أو فطريّة سابقة على التجربة) كمقياس للوضوح
والبداهة، وبالتالي كمعيار يستبد بــ»الحقيقة». ورأى أن ديكارت طبق المنهج الرياضي
والهندسي على علوم لا تصلح لهما، من خلال بحثيه: «المقال في المنهج» و«قواعد
لهداية العقل»، مما حدا بالخطاب الديكارتي نحو تبخيس قدر الدراسات التي تقوم على
الإرادة والإبداعات الإنسانيّة، خصوصاً تلك التي تقترب من حقول اللغات والشعر
والبلاغة والتاريخ.. إلخ، مفترضاً قلة حيلتها على الحكمة العقليّة، فالعلوم التي
لا تقتصر على التجريد الرياضي، أقل يقيناً من غيرها، فالفيزياء على سبيل المثال
أقل يقيناً من الرياضيات، وعلم التاريخ أقل من الفيزياء، وهكذا..
وبالطبع هذا يقودنا لتكرار التأكيد السابق أن الفن في أحسن حالاته التي يحاكي فيها
الطبيعة عبر «مبدأ محاكاة القدماء» في مذهب الكلاسيكية الجديدة،يقع في أسفل سلم
قيم «الحقيقة»، أو حتى خارج معادلة «الحقيقة» الديكارتية برمتها.
أكد فيكو،ما مارسه بيرانيزي لاحقاً، على أن كثير من العلوم الفيزيائيّة
والإنسانيّة لا تقترب من «الحقيقة» بتطبيق المنهج الديكارتي فقط، بل المنهج
التجريبي، فالعالم الحكيم (أو الفنان في حال بيرانيزي) حين يقوم بتجربة ما،فإنه
يخلق الظروف التي يجمع فيها مشاهداته؛ و«ما نعرفه ونحن على يقين منه هو ما نفعله،
فالفعل الإنساني لا الوعي الذاتي هو مبدأ الحقيقة في علم التاريخ.. المعيار هو صنع
الحقيقة»(12). ولا تقترب جميع العلوم من الحقيقة بفعل المنهج الهندسي الديكارتي بل
باستخدام المنهج التجريبي الذي يخلق فيه العالم (الفنان) الظروف التي يجمع فيها
مشاهداته؛فالمنهج الديكارتي المتعالي والأحادي البعد أغفل التجربة، ورأى في
الإنسان عقلاً محضاً، فألغى بذلك تكامل شخصيته التي تتداخل فيها العاطفة والانفعال
وملكة الخيال إلى جانب العقل.وعليه: كما أكد فيكو كتابةً على البعد التاريخي
للإنسان، أكد بيرانيزي رسماً على البعد التاريخي للعمارة التي أشادها الإنسان
..وكما التاريخ هو فعل بشري كذلك العمارة والفن في التاريخ، وكل ما يفعله الإنسان
يعرفه العقل على حقيقته حق المعرفة.
أخيراً، وعلى هامش احتمال وجود مؤثرات ودلائل رابطة، ثقافياً ومعرفياً، بين
بيرانيزي وفيكو في ايطاليا، أترك في دراستي هذه حيزاً لإمكان كون التناغم المتحقق
بين خلاصة الفيلسوف وقول الفنان، بين فكر فيكو ورسوم بيرانيزي، يعود لمحض صدفة
فرضها تشابه والتقاء تحليلهما وموقفهما النقدي من العالم والعصر في زمنهما.
9-2-في الجلال والجمال
التجريبي لبيرانيزي
لم يتم التمثل الكامل لفلسفة القرن السابع عشر من
حيث أثرها في الأدب والفن إلا مع القرن الثامن عشر، وعليه بدأ تحليل الأعمال
الإبداعيّة، وتفسير عمل الخيال، ودور العقل، وطبيعة العبقرية وعلاقتها بالقواعد
..يعتمل جدلياً ويتفاعل مبتعداً عن الآراء التي تقرّ بسلطان «العقل الشمولي
الخالص».في سنة 1690، عمد جون لوك في «مقالة حول الفهم الإنساني» إلى شرح وظائف
«العقل» في علاقته المعرفيّة بالعالم، فرفض «الأفكار الفطرية» القبليّة على
التجربة الإنسانيّة، ورأى أن الخيال ليس قدرة ثانوية في الإدراك، بل قدرة تصل بين
عالم العقل وعالم الحواس، مما أدى لانفراج زاوية المعرفة الحادة وتوسيعها باتجاه
الذاتي والظاهراتي للفلسفة الحسيّة(13).تشير تحولات المنجز الفني الذي قدمه
بيرانيزي إلى تمثل التجريبية الانجليزية el empirismo inglés، المتحدرة من فكر لوك،
والتي قيدت العقل الرياضي المتوج من قبل ديكارت ولايبنتز وسبينوزا، فضبطته
بالتجربة ولم تعترف له بالهيمنة المطلقة على المعرفة رغم تموضعه المركزي فيها.
وبناء عليه يتأتى مبرر حديثي في هذه الدراسة عن «الجمال التجريبي» لدى بيرانيزي،
والذي فتح الباب على حساسيّة مختلفة، ونظرة متحررة وذاتيّة تجاه العالم وتمظهراته
الطبيعيّة والإنسانيّة.في دراستهAntichit? Romane (1748) أكد بيرانيزي على
المنحى الجديد الذي سار عليه في دراسة الآثار والأطلال الرومانية التي رسمها،
وأشار إلى أن وسائل المعرفة التي توسلها لبلوغ الحقائق الخاصة بموضوعه، تقوم على
الملاحظة والرصد والمشاهدة المباشرة على الأرض، مما زوده بالخبرة التجريبيّة،
الاستدلال، والتمييز، والاستقراء في بحثه حول العمارة القديمة، أو حين وضعت صوّر
جديد لهندسة معمارية تستلهم الميراث الروماني القديم.
بمعنى أن بيرانيزي أثناء مواجهته فحوى الجمالي، فإن سجاله غير المعلن عنه كتابة
والمعبر عنه تصويراً، عارض كلانيّة التقليد العقلي اليقيني والقوانين الرياضية
المطبقة على الفن، وشدد على خبرته وتحليله الفردي والعلاقة الانفعالية التي تخلقت
مع مواضيعه المختلفة.ومن خلال فعله الفني يمكن أن نفهم، أن معادلة الجمال-الخير
النفعية المرادفة للاعتدال والانسجام والتوازن والتناسب الرياضي في جماليات فلسفة
«فن الشعر» الخاصة بالعمارة الكلاسيكيّة المحدثة، لم تكن، بالنسبة له، متعالية
أوليّة، ولا غائيّة، وإنما ممارسة تجريبيّة مصدرها الخبرة التاريخيّة والإحساس،
وبالتالي فإنها قابلة للتغير بتبدل ظروف التجربة.
وبالتالي فإن بيرانيزي عبر خبرته الفنيّة يكون قد
أشاح الطرف عن طريقة التفكير التي تعالج المسألة الفنيّة رياضياً وفق قواعد محسومة
عقلياً فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار الفانتازيا التخيليّة للفنان.تسجل الذاكرة
التاريخية أن بيرانيزي أثناء زياراته المختلفة للمناطق الأثرية لدراسة العمارة
الرومانية، بغية رسمها، كان يقضي الأيام والشهور كراهب ناسك، زاده الحدس والبصيرة
ومعارفه المكتسبة وحفنة من الرز، يقضي الوقت بحالة تأمل نقدي مشتبك بحبائل ما يرى
من مخلفات ودفائن الإنسان في التاريخ.
ويقص عنه نادرة طريفة دالة على شخصية تعيش زمنها وأقاليم زمن آخر،ذلك أنه حين كان
يرسم مخططات أولية للفوروم في روما، صادف صبية جميلة بعينين سوداوين تعبر المشهد
الممتد أمامه، فما كان منه إلا لأن رمى أدواته وأقلامه وأوراقه، وهرول وراء الشابة
ابنة الجنائني، والتي رأى فيها تجسيداً لمثال الجمال الروماني وسط الآثار، فاعترف
لها بحبه وخلف إحدى الأعمدة فض بكارتها، معبراً عن برزخ يتماهى عنده حس الواقع
الفيزيائي مع حس الواقع الوهمي الفني.مع بيرانيزي تتبدى التجربة الحسيّة كوسيلة من
وسائل معرفة جديدة صالحة للتعبير عن الواقع في الفن؛ فتلك الساعات الطويلة من
التأمل والدراسة، وأخذ الملاحظات في مناخات ضوئية متباينة (خاصة في النيكروبوليس
الرومانيّة الدامسة التي برع في رسمها)، حرّضت مخيلته وكانت رافداً هاماً لتنسيق
المعنى الذي يود أن يسرده أو ينتقده، أو يؤرخ له بالتصوير في لوحاته العامرة
بالحجر.مع هذه النقطة أصل لمؤثر من أفكار جماليّة تخص فعل «المخيلة» في العملية
الإبداعية، كما هي لدى بيرانيزي، وأعتقد أنه كان على تواصل دؤوب مع حمولة الجولات
الأوربية إلى إيطاليا، والتي ربما نقلت إليه حيثيات جدال نقدي كان رائده المنظر
الانجليزي جوزيف أديسون (1672-1719)، وذلك من خلال مقال-سجالPleasures of the Imagination» متع
التخيّل»، الذي نشره أديسون على حلقات سنة 1712 في دورية The Spectator «المراقب»، وكان له صدى
واسعاً في الحياة النقدية، وفيه حاول أديسون تطبيق آراء جون لوك وإقامة نظرية
جماليّة في الفن، وتعد محاولته هذه الأولى من نوعها في الفكر الانجليزي.
كما هو معروف لم تثق الكلاسيكية الجديدة بـ«الخيال»، ونظرت له على أنه مصدر خطر
على قيمة الأدب والفن،ودعت «مبدأ العقل» الذي يتصف بالكلانيّة والشمول والثبات،
للسيطرة على «المخيّلة» وكبح جماحها من الشطط بغية تنظيم عملية الإبداع. وعليه ثبت
التعارض والتنافي بين «العقل» و«الخيال» وتم فصل عمل كل منهما على حدة.ورغم أن
أديسون مثِّل الكلاسيكية الجديدة، إلا أنه مثلها على طريقته،فتسامح مع الأعمال
التي لا تتقيد بالمبادئ المكرسة؛ورأى أن «المخيلة» لا القواعد العقلانيّة هي منبع
هام، بل أساسي في النشاط الإبداعي؛ لذلك رصد بعض النقاد في آراء أديسون النقدية
انشقاقاً عن الأكاديمية الكلاسيكية الرسمية والرؤية المحافظة في الإبداع و«الوضوح
الخالص».وارتأى أديسون (كما فعل بيرانيزي إبداعياً) أن محاكاة الطبيعية يجب أن
تكون «عظيمة» رفيعة، «جديدة» مفردة، و»جميلة»، (تصويرية pintoresca في الرسم) قادرة على
توليد المتعة.وأكد أن متعة «المحاكاة» لا يتأتى من خلال أمانتها في مشابهة الطبيعة
فقط، وإنما من خلال قدرة الموضوع المحاكى على توليد شحنة من انفعال تقف بالمتلقي
على شفا النشوة. كما شدد في كتاباته على أهمية «الجليل» «السامي» إلى الحد الذي
يبدو أنه يعتبره الانفعال الأشد تحريضاً وتأثيراً في مخيلتنا.بمقتضى المنطق
الكلاسيكية المحدثة، يفهم السمو والجلالة على أنه البلاغة والجزالة والفخامة؛ من
جهته رأى أديسون أن تأثير اللغة الأدبية الرفيعة على المتلقي لا يكون من خلال الإقناع
وبيان الخطاب، بل في النشوة الانفعالية والشغف المتولدان منها، وبذلك يتجاوز
أديسون زمنه بإحلال إحساس خاص ما قبل رومانسي.
وعليه يقول أديسون: «إن متع التوهم أكثر فائدة للصحة من متع التفهم التي نتوصل
اليها بإجهاد الفكر، ونستخرجها بإعمال الدماغ إعمالاً عنيفاً»(14).وفيما يتعلق
بالعمارة، فإن وجهة نظر أديسون اقتربت من الذائقة الرومانسية حينما أولى عنايته
بالأبنية الإنشائية الشاهقة الجليلة، المضخمة النسب، والتي يقصد منها استنبات فكرة
«السامي»، أو أن تكون مسرحاً للسمو.
من كل ذلك، تدعوني مقارنة تنظيرات أديسون مع منجز بيرانيزي الفني، للقول أن
انزياحات الناقد الانجليزي عن الأسس الكلاسيكيّة المحدثة المكرسة، تلتقي مع
تجديدات الفنان الإيطالي وكيفية انزياحاته هو الآخر عن الهيمنة الفنية الأكاديمية،
إلى أن وصل أوج افتراقه عنها مع «السجون المختلقة» بتحطيمه مبدأ الوحدات الثلاث
وحتى القواعد الكلاسيكية برمتها.من جانب آخر، لابد من التنويه إلى أن توقف كل من
تنظيرات أديسون ورسوم بيرانيزي عند «السامي الجليل»، يتبدى كما لو أنه قراءة
استعادية من منظار القرن الثامن عشر لفكر البلاغي كاسيوس لونجينيوس (بين القرنين
الثالث قبل الميلاد والأول الميلادي)، الذي اكتُشِف مخطوطه «في الجلال» في القرن
السادس عشر (ترجم من اليونانية وطبع لأول مرة في بازل 1554 بإشراف الناقد الإيطالي
فرانسيس روبرتيلو، وترجم للانجليزية سنة 1652)، وله تعود محاولة ترجيح كفة الميزان
لمؤثر اللغة الرفيعة ومتع التوهم في إحداث النشوة على حساب الإقناع ومتع
التفهم(15).فالاهتمام بالسمو الذي يتجاوز المعيار البلاغي للوجينيوس، بقابله
الاهتمام بسمو العمارة التي تتجاوز المقياس العقلي لدى بيرانيزي.
وانتهجت هذه الأفكار النقدية سياقها السجالي الأهم في تاريخ النقد وفلسفة الجمال
مع الكاتب ادموند بيركEdmond
Burke، حين وضع دراسته «استقصاء فلسفي في أصل
أفكارنا عن السامي والجميل» A Philosophical Enquiry into the Origin of Our Ideas of the
Sublime and Beautiful (1757).واعتبرت هذه الدراسة بحثاً
هاماً في كل أوربا، ومرجعاً بارزاً للرومانسية، ولكل سجال حول «الجميل»
و«السامي»(16)، ويمكن القول أن خلاصة هذا البحث التنظيرية تبلورت لاحقاً على يد
عمانويل كانت في «نقد الحكم» (1790) بعد وفاة بيرانيزي، الذي كان فعله الإبداعي
حلقة بارزة من حلقاتها في تاريخ الفن.
-10-خاتمة
وأنا أضع نقطة النهاية لدراستي هذه، تمر أمامي
موحيات زيارتي للمعرض الاستعادي لفنون بيرانيزي في مدريد، فأثناء جولتي الأولى في
أبهاء المعرض أخذ سحر الصورة يشدني إليه، يورطني في أحجية تبغي البوح الكلام،ومع
تنقلاتي بين الأقسام المختلفة وصلت إلى سلسلة «السجون المختلقة» (أو المتخيلة») Carceri d’invenzione، في القاعة المخصصة لها،
حينها وصل حسي إلى أقصى توتره النقدي، فكرت مع فاوست، ولم أقل: «توقفي أيتها
اللحظة».
قطعت سهل المنشأ الكيخوتي بالباص، وعدت لسكني في اشبيلية.حسناً، ما برحت شعوذة
الأسود النبوي تلاحقني، وتحرضني، فتكرر سؤالي والسفر والارتحال إلى المعرض الصور
لإعادة القراءة النقدية.
حيرني بيرانيزي، والسجون الهلوسة!!
ترقرقت في عيني حبوسه المشؤومة بـ»قلب الظلام»، والموت البطيء، وخنق الكلمة،
والجنون المباغت، والجنازير الباردة، والقبور المختفية التي أبصرتها وتبصرتها في
بلدي .. أنا ابنة سوريا المولودة في عصر الاستبداد وصلف الحكام. كما لو أن «السجون
المختلقة» هي الزمن الذي عاشه أهلي، أهل سورية، لعقود قصية.. كما لو أنها الغياب
الذي يحاول السوريون الانعتاق من سكونيته إلى الحضور وكرّ وفرّ التاريخ..
كما لو أنها الزوال الذي نحاول نحن السوريون النشور منه إلى تقلبات معنى الجلال
الأزلي والشعر الذي نخترعه ونؤمن به.. كما لو..السجون كانت عتبتي للتمادي في عالم
بيرانيزي.. والحنو إلى الزيتون وطور سنين وبلد حر أمين!!
الهامش
(1) توجت قدرة «العقل البشري» المطلقة مقابل «العقل الإلهي» المميزة لحقبة
الإيمان في القرون الوسطى، والتي أوجز فيها القديس انسلم (1933-1109) الصلة بين
الإنسان والله بقوله: «أنا لا أعقل لأمن وإنما أؤمن لأعقل».أما فكرة «التقدم»
فبدأت بالازدهار مع نهاية القرن السابع عشر حين أعلن Fontenelle (1657-1757) أنه لا نهاية للتطور
البشري، وبلغ تمجيد العقل والتغني بتحرير الوعي أوجه مع عصر التنوير على يد فلاسفة
من أمثال كريستان فولف (1679-1754) وفولتير (1694-1694) وتورجو وكوندورسيه وسان
سيمون وكونت من بين آخرين. وكان «التقدم» لديهم تقدم علمي يسير بخط مستقيم، حاولوا
إثباته بطريقة استنباطية عقلية رياضية، وهو تقدم متفائل تنتهي فيه الحروب ويسود
السلام.
(2) يعود التناول التحليلي الواعي لمحايثة الفلسفة للتاريخ لابن خلدون (ت
808هـ)، حينما قصد به «التمييز بين الظاهر والباطن في التاريخ. في ظاهره لا يزيد
على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق
وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك
أصيل في الحكمة، عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق» (ابن خلدون، المقدمة، دار
القلم، بيروت، 1978، ص3). أما في الثقافة الغربية فكان فولتير أول من استخدم مصطلح
«فلسفة التاريخ»، وقصد به تخليص سرد التاريخ من الخرافات والرؤية الغيبية
والميتافيزيقية. ويعتبر جيامباتيستا فيكو (1667-1724) المؤسس الحقيقي لعلم فلسفة
التاريخ في الفكر الغربي.
(3) كان لـ»أكاديمية روما»، و»أكاديمية فرنسا»التي تأسست عام 1666 في العاصمة
الإيطالية دور كبير في هذا التوجه.
(4) Serguei Eisenstein,
Piranesi o La fuerza de las formas,(En. Aldous Huxley, Las carceles de
Piranesi, Casimiro, Madrid, 2012), p.45-62.أترك للقارئ المهتم العنوان
الالكتروني لفيلم تم إنجازه في مؤسسة «فاكتوم فيلم»، إنطلاقاً من لوحات «السجون
المختلقة»، بأبعاد ثلاث وبرفقة موسيقا لباخ:
(5) لمزيد من المعلومات حول الروكوكو راجع أرنولد هاوزر: «المجتمع والفن عبر
التاريخ»، ج2، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971،
ص7-42.
(6) اعتبر الراهب الرياضي البندقي كارلو لودولي Carlo Lodoli، المناصر للكلاسيكيّة
الجديدة والذي تأثر به بيرانيزي، أن العمارة المثالية هي العمارة الاتروسكيّة. ومن
الشخصيات المفضلة له جاليليو، وبيكون، وفيكو.
(7) الأمر نفسه يمكن أن يقال عن منشور نابليون للمصريين والذي افتتح به حملته
الاستعمارية على «أم الدنيا» بقول التسوية (المساواة) والحرية بين البشر.
(8) ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن، تر: علي مقلد، مر: مطاع
الصفدي، مركز الانماء القومي، بيروت، 1990، ص213-214.
(9) ادوارد سعيد: الاستشراق، تر: كمال أبو ديب، مؤسسة الابحاث العربية،
بيروت، ط4، 1995، ص141-142.
(10) يقود التأمل البحثي لتلمس مرجعيّة شكلها بيرانيزي بالنسبة للوحات تعود
لكيريكو. ولعل تحسس دالي لـ»ما قبل سوريالية» بيرانيزي كان وراء حرصه على اقتناء
سلسة «السجون المختلقة» كاملة، والمحفوظة في مؤسسته حالياً.
(11) يبدو أن مرجعيّة الرقابة على كيفيّة الإبداع تأسست تاريخياً في العصر
الحديث مع أكاديمية الكلاسية المحدثة، لتعرف بأسماء مختلفة مع تنويعات التسلط
كالجدانوفيّة والغوبلزية والمكارثيّة..
(12)عطيات أبو السعود: فلسفة التاريخ عند فيكو، المعارف بالاسكندرية، 1997، ص34.
(13)قبل لوك نجد آثار لهذه النزعة التجريبية والحسية الجديدة لدى هوبز (1588-1679)
في «اللفياثان» Leviathan (1651)،
حين أشار إلى أن الأسس التي تؤثر على الرؤية المعرفية للعالم تتأتى من «الإحساس»
و»المخيلة».
(14) وليام. ك. ويمزات، كلينث بروكس: النقد الأدبي (2)، تاريخ موجز النقد لدى
الكلاسية الجديدة، تر: حسام الدين الخطيب، محي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية
الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة دمشق، 1974، ص 374.
(15) وليام. ك. ويمزات، كلينث بروكس: النقد الأدبي (1)، تاريخ موجز النقد
الكلاسي، تر: حسام الخطيب، محي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب
والعلوم الاجتماعية، جامعة دمشق 1973، ص 141-162.
(16) وفيها اتكئ بيرك على تنظيرات أديسون، وآراء الشاعر الإنكليزي ادوارد ينج
في بحثه النقدي Conjectures
on Original Composition «خواطر عن التأليف الأصيل»
(1759) حول الجوانب اللاعقلية واللاشعورية لمفهوم العبقرية.
—————————-
باحثة سورية
أثير محمد علي
___
نزوى
إرسال تعليق