قصيدة بصرية عن بلدة تسكنها الأسطورة
نسرين سيد أحمد
فينيسيا: أحيانا نجد أنفسنا نتأمل فيلما ينساب أمام أعيننا بجزالة قصيدة بصرية، وبإبداع لوحة سخية التفاصيل. هو فيلم ينداح كالحلم عن بلدة تسكنها الأسطورة وصبي كُتب على جبينه أن يحمل على عاتقه كل ما يسكن هذا البلدة من خرافة وإيمان بالقدر وتصديق للنُذُر.
هذا الفيلم، البليغ صورة ونصا هو «ستموت في
العشرين»، الفيلم الروائي الأول للمخرج السوداني أمجد أبو العلاء، الفيلم الفائز
بجائزة أسد المستقبل في مهرجان فينيسيا السينمائي في دورته السادسة والسبعين.
المكان وما يحمله من تراث وإرث ممتد هو منطلق «ستموت في العشرين» وجوهره. والمكان
هو قرية صغيرة يحتضنها النيل في السودان، والنيل هنا جزء من أسطورة تلك القرية،
فهو شريان الحياة فيها، ولكنه أيضا قد يغدر فيغرق، النيل يشبه أيضا ذلك الإيمان
العميق بالقدر، فهو ما يمنح أهل القرية القدرة على تحمل قسوة الحياة، ولكنه أيضا
ما يبقيهم سجناء لقسوة الحياة.
«ستموت في العشرين» يعلن ميلاد مخرج صاحب لغة سينمائية خاصة، مفرداتها مستمدة من السودان بكل ما يحمله من إرث عقائدي إيماني، وصاحب رؤية خاصة تستمد ألوانها وجماليات صورتها من بلاده. الفيلم عن صبي ليس ككل الصبية، فهو صبي يحمل عبء نبوءة أنه سيموت في العشرين، نبوءة تصدقها أمه بإيمان لا يعرف الشك. يعيش الصبي مزمل منذورا لانتظار الأجل، ومنذورا للتطهر من ذنوب لم يرتكبها قط، ومن حياة عاش بمعزل عنها.
«ستموت في العشرين» مقتبس عن رواية «النوم عند قدمي الجبل» لحمور زيادة، وكتب له السيناريو أمجد أبو العلاء بالاشتراك مع يوسف إبراهيم. عند مولد مزمل، الذي يلعب دوره في مراحله العمرية المختلفة معتصم رشيد وأسجد محمد، تحمله أمه ليبارك ميلاده وأيامه ولي من أولياء المتصوفة، ولكن الشيخ، الذي تؤمن الأم كل الإيمان بأنه لا ينطق عن الهوى، ينذر الصبي للموت ويعلن أن القدر آت لا محالة، وأن مزمل لن يعمر بعد عامه العشرين. يمضي مزمل أيامه يخشى الحياة حتى لا يموت، يحرص أن يبقى على قيد الحياة في حياة لم يعشها قط، فهو ينتظر ساعة الرحيل، ينتظر وقد نذرته أمه للتطهر من ذنوب لم يرتكبها قط. هو صفحة بيضاء فارغة تنتظر الفناء، بدون أن يخط فيها خطا واحدا. لكن الحياة تتراءى له بينما ينتظر الموت، تتراءى له في ابتسامة جارته وصديقة طفولته وصباه.
مزمل لا يتحدى الأقدار ولا تسكنه روح التمرد على المكتوب، ولكنه أيضا يدرك أن في الحياة مباهج قد لا يعشها قط. هو يبدو لنا مصدقا للنبوءة، يعيش أيامه في انتظار تحققها. حتى حفظه للقرآن بتلاوتين مختلفتين يبدو لنا جزءا من انتظاره للرحيل، فحفظ الكتاب يأتي كالفعل الوحيد المتاح في حياة تخلو من الفعل، كما أنه فعل يبقي صفحته بيضاء في انتظار الموت. تخلو حياة مزمل من الحياة، وكل ما يشغلها هو انتظار أن تحين الساعة.
لكن كل بِركة راكدة تنتظر ما قد يثير فيها بعض الحركة، وتلك القرية المستميتة في هدوئها الراسخة في معتقداتها، يعود إلى أراضيها سليمان (محمود السراج). سليمان هو القريب الغريب، فهو ليس غريبا تماما كالإنكليز الذين يمر ذكرهم مرورا سريعا في الفيلم كهؤلاء الأغراب الذين جاءوا إلى القرية يوما وعاشوا حياة مختلفة عن حياتها. سليمان هو ابن القرية، الذي رفض ما تحمله القرية من منظور للحياة، وسافر بعيدا ليخبر الحياة ومدنها البعيدة، عاش في صحبة الموسيقى والغناء والسينما. إن كان دين القرية وديدنها هو الانتظار، فإن دين سليمان وديدنه هو اغتراف الحياة، اغترافها متعة وسفرا ونساء وأفلاما وفنا.
يصبح سليمان أبا وعرابا لمزمل، يصبح بالنسبة له التمرد الذي لم يعشه من قبل قط، ونسائم الحرية التي لم يتنسمها قط. إن كان مزمل لم يتساءل يوما عن قدره، ولم يساوره قط شك في النبوءة، يصبح سليمان هو من يدفعه للتساؤل، ومن يدفعه دفعا للحياة، فما جدوى ثوب أبيض لم يعرف يوما بهجة اللون أو حتى تلوث البقع. ولكن يدفعنا الفيلم للتساؤل، لم عاد سليمان إلى القرية بعد كل تلك الأعوام؟ هل عاد حنينا؟ أم هل عاد انهزاما؟ هل عاد راغبا في أن يلقي بذرة تمرده ورغبته في أن يخبر الحياة في تربة تستجيب لهذه البذرة؟ هل عاد بحثا عن ابن وجده في مزمل؟ وماذا عن مزمل ما الذي جذبه إلى سليمان؟ هل أغواه سرده للحكايات عن حيوات أخرى بعيدة؟ هل أغوته الصورة والسينما والأفلام التي كان يشاهدها معه؟
يترك أبو العلاء لنا الأبواب مشرعة لنسأل ما يحلو لنا، ولا يفرض علينا إجابة
بعينها. ولكننا نخرج من الفيلم ونحن يحدونا الأمل أن تنزع هذه القرية التي تسكنها
الأسطورة وتستجيب لسطوة القدر والمكتوب عنها أثواب الانتظار لترى العالم وتعيش
بهجة السينما والصورة والموسيقى.
___
«القدس العربي»
إرسال تعليق