بسرد
سهل ممتع، وعبقرية بسيطة ولغة سلسة رصينة، تزينها مفردات وحوار عامي،
يعكس خصوصية البيئة ،طرحت الكاتبة في نصها أزمة الجسد والروح بالحديث عن الأجساد
التي تضيق عن استيعاب أزماتها وظروفها القاهرة غير العادية.
هذا
ما يحملنا إليه عنوان النص – عتبة الكتاب الأولى- أما الغلاف
فيلخص المضمون الذي يتمحور حول دقائق حياة الطفلة "فردوس"
وما آلت إليه في محطاتها عمرها، غلاف يزينه الرمادي والأسود وصورة طفلة غير واضحة
الملامح وفي خلفية الصورة نفس الطفلة بملامح واضحة تحمل لعبتها .
ثالث
عتبات النص الإهداء، وعلى غير المتوقع، تُهديه الكاتبة للأب والمأمول
أن يكون للأم الأقرب للبنت أولا، والمؤلفة تتبنى التصدي للإقصاء
والتهميش والحقوق المنقوصة التي تواجه المرأة ،وانتصارها لها ولقضاياها
التي يتغّول عليها الرجل والمجتمع وبنات جنسها .
تطرح
الكاتبة الكثير، كعدم قدرتنا على اختيار من نحب نتيجة مواضعات اجتماعية وعقائدية،
وتضيئ أحوال المرأة في الصعيد وما يقع عليها من ظلم، راصدة اشتباكات المرأة مع ما
يحيط بها ويتقاطع مع تفاصيل وجودها، فكرا وإحساسا ووجودا، وكشف العوالم السرّية
لحيوات النساء في مجتمع الصعيد والكنيسة، لتعرية قبح الواقع ، والوقوف على المشاعر
المصادرة الدفينة التي تحاول المرأة وأدها ،وتلامس أحوال شخصيات مأزومة
قلقة تتنازعها أهواء وقناعات متباينة، راسمة أفق العلاقة بالآخر،
ونفيه، كما تقف على مفاصل الأزمة الطائفية وجذورها في الأسرة
والمدرسة والجامعة، ومكان العبادة ، مما يتلقاه الإنسان
طفلا وبالغا، ورصد ما ينبني عن ذلك من صراعات اجتماعية
ونفسية وطائفية، وانعكاس ذلك على الفرد، سلوكا وقناعات، فالنص وثيقة سسيولوجية لعادات
الصعيد ومخزون تراثه الشعبي.
في
فصولها القصيرة الثلاثين، وعناوينها التي جاءت بكلمة/ اسم شخص أو جملة
أو قولا مأثورا أو عبارة من الكتاب المقدس، رسمت الرواية بدقة أعماق شخوصها
وملامحها النفسية ، وكتبت بجرأة لافتة ، تعرية المغيّب الذي نحاول تناسيه والسكوت
عنه، سواء أكان ذلك في إشكالية قبول الآخر أو حرية الارتدادعنالمعتقدأو حالة
الاحتقان بين الطوائف، أو عمليات الإقصاء والإخصاء التي تمارس ضد
الأنسان، حتى في دور العبادة، أم الحب المُصادر الممنوع أو مطلق تهميش المرأة .
...جلست
مترقبة دخول الفتيات. في اليوم التالي دخلت أول فتاة تبدو من أصول ريفية مثلي،
وترتدي طرحة طويلةعلى فستان واسع وطويل. قالت لي في لغة فصيحة السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته، فرددت بابتسامة وعليكم السلام. سألتني عن اسمي فقلت نرجس، فأردفت:
–أيوه
يعني نرجس إيه؟
ابتسمت
لأنني أعرفأن اسم نرجس تسمى بها لفتيات مسلمات ومسيحيات، وحتما هي تريد أن تحدد
هويتي الدينية من اسمي، فرغم أنها وجدتني غيرمحجبة، لكن حتما هناك بنات مسلمات غير
محجبات فلجأت لحيلة الاسم، قلت:
–نرجس
حنا عبد المسيح.
غارت
الابتسامة من وجهها تماما، وقالت بصوت كأنها تشده بحبال من بئرعميقة:
–أهلا
وسهلا.
وجلست
صامتة تماما، كأنها نزل عليها سهم الله.
ثم
دخلت البنتان الأخريان، وكانتا أيضا مسلمتين، لكن مظهرهما عصري، وملابسهما تدلان
على أنهما من وسط اجتماعي مختلف. وبدأنا التعارف. لكن الفتاتين أصيبتا بخيبة أمل
حين عرفتا أنني مسيحية. قلت في نفسي، سوف يبدأ الآن القلق والحذر، كنت أمني نفسي
بعلاقة ودية مع زميلات حجرتي، لكن من الواضح أنهن غير مستريحات لوجودي...".
بخيط
سردي متنام يبدأ من طفولة "فردوس" شخصية الرواية المحورية الرئيسة ،حتى
نضوجها وعيا وعمرا، والانتهاء بما آلت حياتها إليه في الرواية التي
تستدعيها بكل تفاصيلها عبر المونولوج الداخلي، بكل ما يحمله التداعي من
حميمية البوح، وبكل ما يتضمنه النص من ثراء معرفيّ وتوثيق دقيق لحياة المسيحيين
وطقوسهم، في الأديرة والصعيد، حتى محاولة الهروب من سوأة الواقع ولو بالحلم .
هذه
الفصول التي تعتبر متتاليات قصصية متماسكة فنيا، تداخل فيها السرد بالحلم، ورصدت
قسوة الواقع ومرارته ، ونقدت نظام الرهبنة، وكشفت العوالم الخفية للراهبات
"فيبي" وعلاقة عجوز الدير بفردوس" مثالا، بتنوع في
أساليب السرد بضمير المتكلم أو المخاطب أو توظيف تقنية الاستذكار أو
الاسترجاع أو تيار الوعي أو توظيف تقنية النص المدوّر أو تقنية الحذف
أوالرسم المشهدي أو توظيف الراوي كلي العلم أو الأسطرة،
وبلغة ظهر عليها بوضوح أثر الكتاب المقدس، والحوار المطعّم
بالعامية وتوظيف الحلم، والثراء المعلوماتي الذي ظهر
بجلاء في فصل "حين بكت قبرة".
"
فردوس" المسيحية وعلاقتها ب"محمود" المسلم، مثّلت رمز
الأمل، والمرأة التي عضّت على جراحها من أجل تحقيق حلم في محاولة لكسر
المألوف بالسير في منطقة ألغام العادات والقناعات السلبية المترسخة .
هل
هذا النص خطوة في مسار تمرد الأنثى، أم تنبيه على خطورة فقدان الطائفة لحقوقها، هل
هو الرصد و التأريخ لبداية تشكّل الجماعات المتطرفة في صعيد مصر من النصارى
والمسلمين على حد سواء في ثمانينيات القرن الفارط ، أم الصوت المقاوم لهيمنة ما هو
ذكوري يتلفع بالتقاليد والموروث التربوي السالب، وبالتالي المناداة
بهدم السلطات والبنى التي تعمل على تفكيك وتفتيت المجتمع ؟
إنه
كل ذلك ، مع فرادة الغوص للجوهر الإنسانيّ، ورسم النص بواقعية
اجتماعية، تماهى فيه السياسي بالعقائدي بالاجتماعي، الذي كانت نتيجته
تأسيس بناء من القمع، والهيمنة، والتطرف، وفضح ما يعتور علاقة الرجل
بالمرأة من سلبيات، لا تنهض على المساواة والنديّة والاحترام والتفاهم،
تؤطر حدودها علاقة المالك للمملوك والسيد
بالمسود، وامتلاك الجسد، بعيدا عن أشواق الروح.، ليسجل النص
من ثمّ وبإختصار: انتصار لوجع الإنسان .
مدهش
أن تتولى كاتبة مسلمة، الوقوف على تخوم هذا الفضاء الشائك من العلاقات، واقتحام
هذه الأسلاك الشائكة، وتدخل عالم طائفة أخرى فتتبع ما فيه من
سلبيات وتعرض ما يواجهه من تحديات، بطرح جاد متميز جريء .
هذه
الرواية محاولة مخلصة لهدم التاريخ الرسمي من أجل بناء نص
وواقع جديد، أكثر عمقا وصدقا ووعيا على الحاضر المسكوت عنه، مما نحاول جميعا
تناسيه وغض أبصارنا عنه، كيف لا وأزمة الأنسان العربي تتزايد كل يوم؟
وكل صباح يفقد الإنسان انتماءه ويزداد إحساسه بالاضطهاد ؟
منجز
فكري جمالي رائد هذا العمل، مضمونا وأسلوبا، أوصل لنا وعي الدكتورة "هويدا
صالح" المبدعة والمفكرة والباحثة، في تتبعها وقراءتها للواقع الذي يتشكل،
سلبا أمام الفرد.
لعل
الملفت في النص، تلك اللمسة الإنسانية التي توحّد وتقرّب، ولا ترضى بالتقسيمات بين
مكونات الوطن، ذلك قرار "فردوس" المسيحية بنقل ملكية الجمعية
الخيرية لصالح الشؤون الاجتماعية، وليس
لأبرشية "المنيا " فهي تعالج المرضى جميعا، مسلمين
ومسيحيين.
كل
التقدير للرؤية الإنسانية الشمولية العميقة للكاتبة ، التي تعمّقت في الجوهر
الإنساني، وأخذت بعقولنا وأحاسيسنا للتفكير بمصيرنا كأحياء نتنفس
قهر
السياسة غير البريئة، والتاريخ المزوّر، والثقافة الهجينة ، والتقاليد المتهالكة ،
والتدين السطحي، والرضى بالامتهان، وتصنيف الناس ضمن تقسيمات باتت قدرناالمحتوم.
· سمير أحمد الشريف
الأردن
إرسال تعليق