-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

خطاب صوفي يفكك الحياة ويصوغها من جديد/ جلال برجس



جلال برجس  -  


  في مجموعة أحمد الخطيب الشعرية "لا تقل للموت خذ ما شئت من وقت إضافي" الصادرة عن دار الجنان للنشر والتوزيع، بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، نمت للكلمات أجنحة حلقت في فضاءات بلا حدود، واتسع المعنى فاتسع التأويل: وقلت انزل من دمي، وأعيد للعضلات يوماً حقلها / لكنها لم تدرك المعنى .

المعنى يُلَوِّح به الشاعر في طقس قصيدته ومساحاتها الشعرية الواسعة من بعيد، كما لو أننا نلمح أحدهم يلوح بالماء من وراء السراب. قصائد المجموعة تختطف اللحظة لتحولها إلى عالم بتفاصيل ورؤى ودلالات قفزت على سطح نفس الشاعر كصوره الفنية التي تؤشر لحزن شفيف، كما عرّف باشلار الصورة الفنية بأنها كائن متوفز على سطح النفس فقد اختزل الشاعر اللحظة وحوّلها إلى حالات شعرية لها لذعة النصل في جسد فتي وهو يرى في الليل كثباناً من الكلمات كما جاء في قصيدته تتكرر الأسماء في أسمائه التي ابتدأ بها مجموعته الشعرية التي ضمت سبعاً وأربعين قصيدة، بدت كما لو أنها مشروع قصيدة واحدة ونحن نلمح الخيط الخفي الذي يربط تلك القصائد بحالاتها وتوهجاتها ومقولاتها النورانية التي تفرد في نفس المتلقي مجازات وتلميحات وترميزا واعيا يسحب ذائقتنا كمتلقين نحو باحة السؤال لنطرح أسئلتنا في متتالية الحياة ومزاجها الوجودي: الولادة، الحب، الحرب، الموت.

وإذا ما عدنا الى المتتالية السابقة (الولادة، الحب، الحرب، الموت)، وأمعنّا التأمل في انعكاساتها على المجموعة كبنية متكاملة سنجد عالما صوفياً يتماها بالعوالم الأخرى، وسنجد أن ما أنجزه الخطيب من وجهة روحه المترعة بالشعر يسلك طريق تلك المتتالية الوجودية لتولَد من رحم تأملاته وشطحاته قصائد حملت على كاهلها تفكيك الحياة -التي رآها الشاعر مفككة، وأعاد لملمتها بما يتوافق مع رؤاه التي تشكلت بوعيها الكشفية الواضحة في النصوص ومن خلال تاريخه الثقافي الذي أعلنت عنه مجموعاته السابقة ومكانته كشاعر أفردت له مساحة مهمة في الوسط الثقافي الأردني والعربي.
إذ يداهمنا وهج تلك المتتالية ابتداء من العنوان -الذي فضّل الشاعر استطالته تلك- لا تقل للموت خذ ما شئت من وقت إضافي الذي استلهم موضوعة الموت والذي هو النقطة الأخيرة في مجاز المتتالية الوجودية كصرخة تحدي لمقابلة الموت بالحياة ورهانه على استمرارية الحياة من جانب آخر وحثه على ابتكارها بأكثر من طريقة والوقوف على شروطها التي لها أن ترفد حلم الحياة بحد ذاته بشرط الخلود كما تؤكد ذلك قصيدته ونهضتُ من نفسي لأعبر فسحة النارنج (ص 183). إذ قال متحدياً الموت وأنا أُفرغُ محتوى جسدي / من الماء الذي عطش السحابُ له، وقام الى الرياح/ ليبتلي شجراً اعد نكاية بالموت، هل في الموت من عصبٍ صهيل؟ .
من وجهة أخرى يقترب الشاعر من كينونة الموت ليرى الحياة بشكل آخر كما في قصيدته لا تقل للموت خذ ما شئت من وقت إضافي (ص 139). يقول: يا مرجئاً للنص شهوَتُه القديمةَ، في مرايا الوقتِ، هل وازنت بين الأنثيين، كما توازن بين ماء الروح والشفتين، أم إن الفصول تغيرت بعد احتباس الغيم على جسد الجفاف؟ ،فهنا يأتي الإسقاط بمزاج شعري واع يعرف ما يريد قوله، كما لو أن الشاعر هنا يهذو برغبة كلكامش في نبتة الخلود، لكن الرغبة هنا تأتي من باب السؤال أو من خلال ما يسمى الطرح الاستفساري الذي يعلن الإجابة بثوب السؤال نفسه، كثوب الصوفي الذي نما في القصيدة نفسها ليثير القلق والتضاد، لكن الشاعر أراد طرق الحياة من أكثر من باب وهو يهمس بأنشودته: لا لست ابني من خرائط كنتُ قد أجلتها قصراً، وأهديه إلى وقت إضافي، وأنا الذي خلع السقوف، ودار بالمعنى على كأس يروقُ لها الترابُ، وقد تجلى تحت ظل الوجد صوفي ينام على حصيرة حبهِ .
تأتي المرأة في هذه المجموعة رديفاً للحياة ورمزا للخصب والنماء في الوقت الذي يبحث فيه الشاعر عن معنى آخر غير نمطي يستحضر التكامل البنيوي ما بين الحياة والمرأة. الحياة التي رآها كما يليق بصوفي يبحث عن المعنى بأدوات كشفية تتسق مع الآخر، والمرأة التي في ظل المعنى تفيض عليه خمرة التلذذ وهو يراها قد اختلطت بالحياة، ويريد لذلك الاختلاط صيرورة الخلود رغم أن الموت سادر ويواجهه الشاعر بالتحدي. ففي قصيدته وأذنت أن تحيى معي (ص 43) يقول: في رمشِ رمش العين....... والأنف القصير مساحة للموت / وتنذر للحنين ترابها، في رمشِ رمش العين.... والأنف القصير رياشُ وشمِ الأرض / تشرح للفتى أسبابها .
في مكان آخر من المجموعة تتزاوج المرأة بالماء وتصبح عند الشاعر مهبط الحب ومصعده، ولكن من إناء المرأة المكلومة بوجع الحياة. ففي قصيدة دمُ الأم الفلسطيني (ص 135) يصعّد الخطيب الحب ضد الموت وضد المنافي، حيث يقول: فعدتُ إلى دم الأم الفلسطيني /... لأصعد طاقةَ الحب القريب من البنفسج نحو روح الماء، كان الموت مرجعنا إلى تهذيب سنبلةٍ، وكان الزيت في الزيتون يشعل خلف دكان الصدى نصفَ الأيائل .
هنا يدرك الشاعر أن الحرب وما تخلفه من دمار على الخارجي -الذي لا يختلف كثيرا عن الخراب الداخلي للجوانية الجمعية الإنسانية وذاكرتها- جزء واضح في متتالية الوجود والفضاء الكوني، فنراه في قصيدة إيقاع نفْسي (ص 51) يستقرئ حال العرب الذي رآه الشاعر قد آل إلى حال مزرية، بحيث أن شمسهم التي كانت تسطع في كل مكان تغيب الآن ويجيء مكانها شموس وحشية تعيث بالكون نارا تأتي على الأخضر واليابس: الله من شمس العرب! / نامت بغير لسانها زمن الكسوف، فضاع منها الوجد والإيثار . ثم يتساءل الخطيب في القصيدة نفسها: من راوغ الشمس الطريدة عن فتاها، ثم خولها ولوجا في ضباب نعاسها الأبدي، من سمى شعاع الصمت في ملكوتها، ودنا إلى المعنى المقيد في الكلام .
إنها مجموعة تفيض بالنزعة الإنسانية والبحث المستمر عن الوجه الأنصع للحياة وتدحض الموت بالثيمة الإنسانية وبالحب، الذي يأتي هنا كشفيا ونورانيا يعطش لماء المعنى، حيث يأتي الخطاب الصوفي في هذه المجموعة رقراقاً صافيا كالقصائد نفسها، ذلك الخطاب الذي يضع الحياة الأفضل بكل شروطها الإنسانية نصب روح الشاعر المضيئة بشعر أوجد الاتصال مع المتلقي الذي ارتقى إلى سوية الشاعر وأصبح يردد معه: لا تقل للموت خذ ما شئت من وقت إضافي

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016