الإشارات الأولى للكتابة الإبداعي
تستنفر الموهبة كامل طاقاتها التي تخفق في مجرى الجينات،
وتكاد تشكّل مفرقاً واضحاً لصيرورة المبدع وهو يتأمّل التحولات التي تطرأ على
بنيةالتجربة، أثناء تشكّل المراحل منذ الإشارة الأولى وما يليها من إشارات، حتى
اكتمال دوائر الإبداع، يختلف في نظرته للأشياء ويعرّيها كما لو أنه وُجِد مع
كينونتها في لحظة واحدة، أو استدرجها من بناء معرفي وفكري، ويختلف مع محيطه في
النظر إلى الطارئ منها والمُحدَث والمتحوّل.
الإشارة الأولى ربما تشكّل البذرة الأولى للموهبة وحضورها في الأرض القابلة للخصوبة، ولكنها تفرض على صاحبها إشارات كهرومغناطيسية، إلى جانب أنها تكاد تشكّل الضاغط الرئيس على إرادته في قراءة الحيوات التي تتناثر في كل مساراته، ومعها تبدأ المسيرة، مسيرة الوقوع في فخّ المتناقضات والتحولات، فما هي هذه الإشارات، وكيف شكّلت ملامح النص الأول، وما هي السبل التي وطأها المبدع للذهاب إلى مواجهة الجمهور في الأمسية الأولى، وما هي المفردات التي اختارها لتحمل غلاف كتابه الأول، ضمن هذا السياق، التقت " الرأي" نخبة من المبدعين للوقوف على نظرتهم وقراءتهم لهذه الإشارات وكيف ساهمت في تقبّل النص الأول، وملامح الأمسية الأولى، وكيف أثثت عتبات الكتاب الأولى.
تهتموني: المجادلة مع النص الإبداعي
تتمثّل الإشارة الأولى في التجربة
الإبداعية كما يرى الشاعر غسان تهتموني بالخطى الأولى فوق مربع الطين الثري
وتوسلاتنا الكبرى لبريق تعثر أو قلّ، مسحته رياح الصبا في غفلة منا ومنه، حلمنا
المسبوق بسمسم الحنين، ودفاتر خاب ظنها بين طيّات الغبار، ولم يكن الزقاق سوى
سلّماً للمكوث النحيل للرحيل نحو عوالم متداخلة بالمرايا.
وفي تناوله للإشارة الأولى يقول لقد
كنّا حديثي الأنامل، ندفع عن أرواحنا سأم الجغرافيا، أسرى حروفٍ وحدب حبٍّ لا
ينتهي، أسعفتنا لا شكّ شقوق الجدار وحدود السهل المزنّر خيبةً خيبة، وزهرة زهرة،
أسعفتنا لا ريب بساطة النظرات إذ ألقت على شجر التوت بياض حكمتها من غير سوء،
وأسعفتنا اللغة البكر، ولم نتوخ الحذر من حبيباتنا، يرمقن غرامنا وقد توجس خيفة،
كما أسعفتنا تقاسيم التراب، والشهيد المطلّ شطرنا تهجّانا عتاباً عتابا.
ويؤكد بأن النص الأول جاء صدى لهذه
الإشارات، ولما أرهق من نشيد، عندما كان وأقرانه طلاباً آنذاك فوق مقاعد الدرس،
كان مزداناً بالأول من كلّ شيء، تعقّب الخفق وزلة الخطأ، حين رسمنا ما يشبه الخط
تحت أرنبة الأنف الصغير، منوهاً أنه ارتعش أكثر مما باح وأفصح، إذ لم يكن النشيد
عالياً، حيث كان كمن يقرأ لنفسه، يعود للنص بالقراءة حيث بدأ، والدمع طازجاً كما
يشير آنذاك، وإحساسه سبق تورد الحرف في فضاء المخيلة.
لم يكن الديوان الأول " ما كنت
نسيا"، بعيداً عنه كما يؤكد، بل كانه بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كان جديد
العهد بفراق أمّه، حضورها الطاغي أسبل على النصوص مسحة الألم والحنين، فأخذته
الدمعات تباعاً، إذ تهشّم ما عداها، فبات رهين دقائقها المشكولة بالوداع.
وبعد ربع قرن أو أقل في المجادلة مع النص الإبداعي، يؤكد الشاعر تهتموني بأن الشاعر يصبح بعد كل ما مضى أكثر حذراً وتريثاً، ويود لو يمحو ما كتب، حيث عرف فلزم بعد ديوانه الأول " ما كنت نسيا"، فأصبح أكثر إصغاء للأصدقاء، ما الذي حدث بالفعل سؤال يطرحه على نفسه، هل هي حكمة الخمسين وما بعدها، أم هي كلمات قالها الطفل لنفسه ذات خريف، فقالوا له وبغير علم منه، عمتَ مساءً يا شاعر.
رضوان: مراحل التطور الطبيعي
لم تكن إشارة بقدر ما كانت كلمات
تحفيز من مبدعين لهم باعهم الطويلة في الإبداع، هكذا يرى الروائي والشاعر أيسر
رضوان، تلك الإشارة التي تبدأ قبل احتدام تفاصل التجربة، مؤكداً أن التشجيع هو
الديدن الذي جعله يضع يده على باب الإبداع، فولجه بالكلمة محاولا رسم الخيال جملة
والجملة حلما نحو الارتقاء.
ومن خلال بحثه عن عوالم لا تنتهي،
جاء النص الأول الذي مهّد بداية الطريق لتمدد الإشارات نحو الأفق، معتبراً أن
العوالم تتسع إلى ما لا نهاية، فكانت الرواية هي الرغبة الأولى نحو انطلاقة لرفع
سوية التراكيب اللغوية، فصاح الحلم معها، وحلّق مثل أسراب الحمام نحو السماء بكامل
أزرقها، فكانت القصة والرواية والقصيدة حتى إذا ما اكتملت، صار بقصة عاشقين هزمهما
الشيطان، فظلت الكلمات غريبة حتى عن ذاتها، وعن ما تلاحق من نصوص ومنشورات.
أما الأمسية الأولى فيسرد حكايتها
التي بدأت في فرع رابطة الكتاب الأردنيين بإربد، حيث كان المطر ينهمر بكامل فضته
الرائعة، وكان الجميع يتحلّقون حول مدفأة صغيرة، للمرة الأولى يقف خلف منصة
الرابطة وقلبه يرتجف برداً بانتظار ردة الفعل ممن يتلقون الكلمات، فإذا ما وجدوا
ما سرّهم هدأ القلب وهدأت رجفته، هنا كما يقول: كبرت الكلمة وصارت القصيدة، صارت
قصائد، هكذا بدأ انطلاقة أخرى لملامسة الواقع وتطبيق الخطة المكتوبة منذ البدء،
لافتا النظر إلى أن الأمسية الأولى رغم ما فيها من برد الشتاء إلا أنها أحاطته
بدفيء من أحبوا قصيدته وأخذوها نحو المزيد من الخيال والارتقاء.
ويتابع فصول الحكاية، فيؤكد أن
الرواية الأولى " مثلث العشق والتيه" رغم تحفظ البعض على أنها رواية إلا
أنهم أجمعوا على جماليتها، حيث تمت طباعتها في دار تالا للنشر والتوزيع في دمشق
بعد عدة أعوام من كتابتها.
ويرى الروائي والشاعر رضوان أن لكل
شيء في هذا الكون مراحل لا بدّ أن يمر من خلالها، فيبدأ متواضعاً ثم ينمو ليتطور،
فالتطور كما يرى سنة كونية، وهو ما زال يطوّر أو بمعنى أدق يحاول ويمشي نحو التطور
في كتاباته ونصوصه، فما سبق كما يرى من مراحل هو شيء طبيعي رغم حاجته الدائمة
لتمزيق وإنهاء ما كتب في هذه المراحل رغم الفرحة والسعادة التي رافقتها في تلك
الآونة والتي ما عادت تتواجد حالياً رغم نضج وأفضلية النصوص الجديدة.
ويضيف بأنه يحب النصوص القديمة ويحب الخلاص منها فهل فهذا أمر طبيعي أو أنه أمر صحي، يتساءل، ويجيب بأنه ليس يدري، معتبراً أن تلك الازدواجية في الشعور مزعجة أحياناً ومحببة أحياناً أخرى.
نعيم: مقاربة بين النص الشعري الغربي
والعربي
يرى الشاعر أحمد نعيم بأن المرء يقف
على عتبات جمّة في طور نشوئه الإبداعي، في عالم الأدب، فيجد نفسه رهين ضرب أدبي
ما، يستطيع من خلاله التعبير عن ذاته، واهتماماته، ورؤاه المجتمعية والفلسفية،
والفكرية كذلك، لافتاً النظر إلى أن العبور إلى فضاءات الإبداع قد يكون وليد تلاقح
فكري ما، أو تأثر أدبي لنمط لافت الشكل والمضمون.
وفي ظلال النقد والأدب يعتبر أن
مرحلة الاطلاع المكثف على أنماط أدبية مختلفة في الأدب الغربي، وخاصة أدب ما بعد
الحداثة أثناء دراسته للأدب والنقد الغربي، جعلت الإبداع ينضج على نار هادئة،
مشيراً بهذا السياق إلى دور شعراء العصر الرومنطيقي ومنهجيتهم في الصورة الفريدة
وقدرتهم العجيبة في تجسيد الرؤية الشاعرية عن المكان والزمان والإنسان والطبيعة
والحيوان، ففكرة الشعر لدى وليام ووردزوورث بأنه " فيض من المشاعر العفوية
الجياشة" دفعت بالإبداع إلى ردهة الخلق بالكلمات والموسيقى وبلورت الغريزة
الداخلية، لتصبح رسماً بالكلمات، وكانت الرؤية الذاتية للبيئة المحيطة والاطلاع
على الثقافة الغربية والأنماط الغربية التي ابتكرها شعراء الغرب في فترة ما بعد
الحداثة قد استفزت القريحة الإبداعية لديه وجعلت الكتابة " شرّا لا بدّ
منه" وشعراً لا مفرّ منه.
ويؤكد الشاعر نعيم بأن الشكل الأول
للعتبة، عتبة النص الأول جاء على هيئة محاولات للمقاربة بين النص الشعري الغربي،
والنص الشعري العربي من حيث الصورة والموسيقى الداخلية والإيقاع البنيوي، مشيراً
إلى أن الجانب الذاتي لعب دوراً محورياً في هذه المرحلة الإبداعية، فالخبرات
الذاتية من الألم والبعد والفراق والخيبات واللقاء، جاءت على هيئة محاولات نصية عن
مواضيع قد تبدو عادية، لكن كان لها الأثر في رسم ملامح ذلك النص.
ويقول صاحب ديوان " يمام على
نافذة مُنهكة" بأن الأمسيات الأولية لم تكن إلا على شكل قراءات للنصوص على
مستوى ضيق، وذلك لعدم اتضاح ملامح النصوص المكتوبة، أو ربما خشية الاصطدام برفض
المستمع لهكذا نوع، مما أدى إلى الحاجة لجمع النصوص المكتوبة وتبويبها، حيث كانت
النصوص جميعها مرتكزة على خاصية " النّفس" في السطر الشعري وحتى القصيدة
كلها، مؤكداً أن العتبة الأولى الحقيقية كانت المحاولة التي قام بها لنقل "
الشعر المفتوح" أو " شعر النّفس" إلى الشعر العربي حيث نجد أن
قصيدة الشكل هي آخر ما وصل إلى الشعر العربي في الآونة الأخيرة
ويؤكد أن الخلق الإبداعي قد لا يمرّ
بمراحل متعددة، فقد ينفجر المرء بوجه الحياة ويحمل الدنيا على كتفيه " ثوراً
هائجاً" بما فيها من فرح وحزن، حب وكره، فقدٍ ولقاء، بعدٍ وجفاء، حياةٍ وفناء.
ويخلص الشاعر نعيم إلى أن المرء يكتشف نفسه وجهاً لوجه مع الحاجة للكتابة والتعبير عن الذات، لافتاً النظر إلى أن نظرته الذاتية لعملية الخلق الإبداعي تتطلب بالضرورة وجود أطر معرفية ولغوية، لجعل عملية الكتابة الإبداعية نسجاً جميلاً مؤثراً، ويظن أنه على الرغم من تنوع الأذواق للعملية الإبداعية تبقى فكرة الإبداع رهينة مبدأ المتعة والتعليم، فكما قال هوراس "وظيفة الشاعر هي أن يُخبِر ويمتع"
إرسال تعليق