سور الفنون العظيم/ مدحت صفوت
على الرغم من الدور الذي
تلعبه الصين طوال العقود الماضية على مستويات شتّى، ظلّ الاهتمام بفنونها وتاريخها
شحيحاً في الكتابات العربية، وتكاد تفقد المكتبة العربية رفًّا مهمًا خاصًا
بثقافات ما يقارب مليارًا ونصف المليار نسمة من سكان الأرض، وتاريخ حضارة يمتد إلى
بداية القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، وطبيعة الأرض الذي ظهر على رقعتها منذ
ما يربو على مليون وخمسمئة ألف سنة، الإنسان البدائي الذي أطلق عليه اسم «إنسان
يُوانمُو» أو «إنسان الانتيان» ثم «إنسان بكين».باستثناء كتابات محدودة، أهمها موسوعة المفكر
المصريّ ثروت عكاشة «1921-2012» المعروفة باسم «الفنّ الصيني» لا نكاد نذكر كتابات
عربية تتسم بالشمول والدقة والانضباط العلمي تتناول الفن في الأراضي الصينية، بيد
أن الآونة الأخيرة شهدت نوعًا من تسليط الضوء على تاريخ هذه المنطقة، بخاصة في ظل
اهتمام صيني رسمي بدعم الترجمات إلى العربية من اللغة الصينية مباشرة.حسبما يرى «عكاشة»، فإن الفنّ الصيني يتسم بإسباغه
الخيال على كل ما هو جوهري وسام في الطبيعة، وتغليبه لكل ما هو «روحاني» على ما هو
مادي، وتحريكه لخيال المشاهد عن طريق الإيحاء، فضلًا على براعة التكوين ورقّة
التصميم. وما من حضارة تطورت بمثل هذا التكامل المتصل الذي حظيت به حضارة الصين،
فإن هذا الاتصال والتواصل ينعكس على فنونها، التي مرّت عبر القرون المتعاقبة بتطور
لم ينقطع لسببين: أولهما انفساح مساحة البلاد وقدرتها على امتصاص الغزاة الأجانب،
وثانيهما أثر العقيدة الطاوية والبوذية والرؤية الكونفوشيوسية مجتمعة، فإذا الصيغ
الفنية الراسخة تستقر ونادرًا ما تختفي أو تغيب. وما فتئ الفنانون على مرّ الأجيال
يحاكون تصاوير الأسلاف التليدة كما كانت أنفس الأواني الخزفية هي المشققة
اصطناعيًا لتبدو وكأنّها قديمة قدم منجزات الماضي العريق، فيما يمكن التنبيه هنا
على أن الفن الصيني نشأ، إلا فيما ندر، كي تكون منجزاته في حوزة الأثرياء والعلماء
والرهبان والأباطرة عونًا لهم على الاستغراق في تأمل الموضوعات الدينية والشاعرية.
6 أجيال فنية
في دراسة بعنوان «السينما
الصينية.. نظرة عن قرب» ترى الباحثة شيرين ماهر، أن السينما الصينية استطاعت أن
تثبت قدرتها التنافسية وأن تحجز لنفسها مقعدًا خاصًا في عالم صناعة السينما، على
الرغم من وجود منافس «هوليوودي» قوي يصعب تجاهله. فيما تناولت تقارير إعلامية عربية
وأجنبية سؤال «هل تهدد صناعة السينما الصينية عرش هوليوود؟» خاصة بعد زيادة نفوذ
الصين وتأثيرها المباشر في صناعة السينما العالمية في السنوات الأخيرة، وباعتبار
أن الصين ثاني أكبر سوق للأفلام بالعالم، وكشفت شركات الإنتاج الأمريكية استعدادها
لتعديل محتوى أفلامها كي ترضي المشاهد الصيني والرقابة الحكومية ببلاده، بينما
ارتفع الاستثمار الصيني بهوليوود مع دخول التكتلات الاقتصادية الصينية في تمويل
وصناعة الأفلام الأجنبية.
واهتم مهرجان القاهرة السينمائي
الدولي في دورة عام 2016 بالسينما الصينية، وأصدر ضمن مطبوعاته كتابًا للناقد
الفرنسي جان ميشيل فرودن «نظرة على السينما الصينية» الذي ألّفه خصيصًا للمهرجان
وترجمه إلى العربية أسامة عبد الفتاح. كما عرض المهرجان 15 فيلماً صينيًا أنتجت في
الفترة من 2001 حتى 2015، صنعها مخرجون مثل جيا زانجكي، الذي سبق أن كرمه المهرجان
عن مجمل أعماله.
ويشير
«ميشيل» إلى أن الاعتراف بالأفلام الصينية لم يأت عن طريق عشاق السينما أو
المهرجانات أو النقاد، بل جاء باستيراد نوعية شعبية، قد يعتبرها كثيرون تافهة،
خلال أعوام السبعينات وهي أفلام «الكونج فو»، أو أفلام فنون الدفاع التي أسفرت عن
مولد أول نجم عالمي صيني بروس لي. وبعيدًا عن رؤية الناقد الفرنسي، فإن تاريخ
السينما في الصين يتطلب منا عرضًا لمسيرة التي تمتد إلى 1896، بداية العروض
السينمائية هناك، بينما شهدت سينما الصين ميلادها بإنتاج «معركة دينج جون شان» أول
فيلم تسجيلي 1905 والمقتبس عن مقطوعة غنائية «لأوبرا بكين».
وبدءًا
من 1913 ظهر جيل الرواد الصينيين الذين تلقوا تدريبهم في الولايات المتحدة
وأوروبا، ليشكلوا ما يسمى لدى دارسي الفنّ الصيني ب«الجيل الأول»، وهي مرحلة
السينما الصامتة، وكان من أبرز الأسماء في ذلك الوقت «زانج سيشوان» الذي قدّم
فيلمه الأول «زوجان قليلا الحظ» 1913، كأول فيلم روائي، وقتما كان الاعتماد على
الشركات الأجنبية في الإنتاج، وقبل أن تترسخ السينما المحلية 19161 في شنغهاي.
وبظهور السينما الناطقة مع «الجيل الثاني» اشتبكت الأفلام بالسياسة كتجسيد الصراع
بين الحزب القومي الصيني «الكومنتانج» والشيوعيين والغزو الياباني للصين، وظهرت
أسماء «كينج فيدور» و«فرانك بورزاج» و«فرانك كابرا».
وبالتزامن
مع إقامة جمهورية الصين الشعبية 1949 ظهر «الجيل الثالث» المسمى ب«جيل الثورة
الصناعية» الذي حاكى النموذج السوفيتي وأسس على التوالي ثلاثة استوديوهات، وأسست
البلاد معهدها السينمائي 1956 تحت إشراف وزارة الثقافة، لتخريج جيل أكاديمي،
وأنتجت منذ تأسيس الجمهورية حتى 1965 نحو «603» أفلام روائية و2300 فيلم قصير.
وفي
أواخر السبعينات ظهر «الجيل الرابع» أو «جيل التضحية» نظرًا لاهتمامه بإعادة إحياء
السينما الصينية في توقيت حرج وفي ظلّ أزمة اقتصادية طاحنة ورقابة سياسية صارمة،
الأمر الذي ترتب عليه اختيار المخرج «وي تيانمنج» رئيسًا لاستوديو «تسيان» 1973
وقرر أن يدخل الشباب عالم الإخراج بأنفسهم دون رقيب وأعادوا فتح الاستوديوهات، وفي
طليعتهم «زي فاي» و«زانج نوان زين» أول وجه نسائي بارز في هذا المجال، وتميز
منتجهم بكونه الأقرب إلى محاكاة موجة الواقعية الإيطالية الجديدة.
ومع
إعادة فتح أكاديمية بكين للسينما 1978 وتولى «ني زن» التدريس بها، ظهر «الجيل
الخامس» الذي اطّلع على السينما العالمية واقترن مضمون أعمالهم بالطبيعة وصنعوا
أفلامًا ريفية تظهر تقاليد الصين وتاريخها الطويل، ولمعت أسماء «تشن كايجي» صاحب
فيلم «الأرض الصفراء» و«تيان زوانج» وفيلمه «قانون أرض الصيد» و«زتانج ييمو»
الفائز بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين عام 1987 عن فيلم «الذرة الحمراء».
وفي
التسعينات والألفية الجديدة، استفاد «الجيل السادس» مما وفرته التقنية الرقمية، إذ
بدا الجيل الجديد متمردًا ومتطرقًا إلى مواضيع مختلفة مثل حياة الشباب والثقافة
الرائجة ومناقشة الرومانسية والحياة اليومية بأساليب مختلفة عن السائد، وبأنماط
تخلط بين الواقعي والخيالي وفق خيار فني وسياسي في ظلّ رغبة جامحة لتسجيل وتوثيق
ما يعيشه المجتمع.
استفاد
الجيل السادس من الطفرة التي أحدثها سابقه «الجيل الخامس» في عالم السينما، وأكمل
المسيرة في المنافسة في المحافل الدولية والفوز بكبرى الجوائز الفنية لعل أهمها
جائزة الأسد الذهبي بمهرجان فينسيا ٢٠٠٦ لفيلم «البقاء على قيد الحياة» من إخراج
«جيا تشانج كه».
وفي
إبريل 2017، دشنت الصين مدينة ضخمة للسينما بمنطقة «تشينجداو» الساحلية شرقي
البلاد، بهدف دعم صناعتها السينمائية والمنافسة على استقطاب الإنتاجات الأجنبية
التي اجتذبتها بالفعل قبل استكمال تجهيزاتها، وصوّر النجم مات ديمون أحدث أفلامه The great wall
هناك
2016 كذلك فيلم «باسيفيك ريم ابرايزينج» 2018، وبلغت كلفة بناء مدينة السينما
الجديدة 7.86 مليار دولار.
دراما
الاحتفالات التقليدية
على صعيد الدراما، ارتكزت
الفنون الصينية شأنها شأن الدراما الهندية على «ثالوث السنجيتة» الهندي القائم على
الشِّعر والرقص والموسيقى، لكنها تختلف جذريًا عن الدراما الهندية بقلة اعتمادها
على الرقص الذي هو السويداء من قلب الروح الهندية، فيما يغلب على دراما بكين
الطابع الكونفوشيوسي أي الطابع اللا أدري والعملي الدنيوي وإن انطوى على أخلاقيات
سامية ومشاعر نبيلة، كما لا تنغمس الدراما هناك كثيرًا في قصص عشق الآلهة
وصراعاتها شأن نظيرتها الإغريقية، وينصبّ اهتمامها الرئيسي على أمور البشر.وإن رجعت أصول الدراما الصينية إلى الاحتفالات
التقليدية في القرن الثامن الميلادي حين أنشأ الإمبراطور «منج هوان» «713-756م»
أكاديمية «بستان الكمثرى» لتدريب الممثلين وصقل مهاراتهم، حسبما يشير ثروت عكاشة،
فإن المسرح الصيني المعاصر واسع وعريض يمتد أفقيًا ورأسيًا في كل جنبات البلاد،
يعمل في العاصمة بكين 14 مسرحًا كلاسيكيًا، إلى جانب مسارح عصرية تداني المسارح
الأوروبية.وحسب كمال الدين عيد، في دراسته «جذور الأدب العالمي.. المسرح الصيني
المعاصر»، فقد جاءت الخطة الثقافية بعد التحرير «1945م» لتفصح عن اقتناع الحكومة
بضرورة تطوير المسرح، والحركة الثقافية ككل. وفي تركيز على إنتاج المسارح الشعبية
فانتعش مسرح خيال الظل الذي يستهوي جماهير بكين، ويوجد 30 مسرحًا من هذا النوع في
بكين وحدها. وهناك أكثر من فرقة مسرحية عاملة في المدرسة العليا للفنون التطبيقية،
بجانب مسارح للعرائس تجوب أقاليم البلاد. كما ازدهر فن الرقص الشعبي وخُصصت
الميزانيات لتصميم الأزياء وتنفيذها، سواء في الرقص التعبيري أو الرقص الشعبي الذي
يرضي جنسيات آسيوية تعيش على أرض الصين «من كوريين ومنغوليين ومن التبت».والحديث عن الدراما الصينية لا ينفصل عن فنّ
الأوبرا التقليدي، بوصف الأخير التمثيل الشامل، الذي يتنوع حد أن يسجل قاموس فن
الأوبرا التقليدية الصينية 287 أوبرا، فيما يرى «تشنج يوي تشن» في سفره الضخم
«لمحة عن الثقافة في الصين» الصادر عن مشروع «كلمة» للترجمة، أنه في الواقع يوجد
360 نوعًا من الأوبرا، ويشمل ذلك رقصة اليانكو وأوبرا خيال الظل ومسرحية عرائس في
أنحاء البلاد كافة، فيما عرفت البلاد مذهبين في الأداء الأول مذهب بكين والثاني
يخص شنغهاي، ويعتني الأخير باستيعاب النماذج الجديدة، بينما يتسم المذهب الأول
بالتدريب على المهارات الأساسية ويحرص على مقاييس الفنّ حرصًا شديدًا.ومن جهته يذكر «فون جين» في كتاب «المسرح الصيني»
أن ما يشيع اليوم في البلاد هو الأوبرا التقليدية «شيتشيوي» الذي يجمع بين الغناء
والتمثيل، الشكل الفني الأكثر تفردًا وتمثيلًا للمسرح الصيني، وتعود جذور الأوبرا
التقليدية إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وتأخر ميلادها نسبيًا مقارنة بالمسرح
الإغريقي ودراما السانسكريت الهندية، لكنه بدا أكثر نبضًا بالحيوية، وحافظت على
التقاليد الصينية طوال ما يزيد على 800 سنة على حالتها الأساسية، لذلك يمكن أن
تكون الأوبرا التقليدية الصينية هي الأعرق تاريخيًا في أنواع المسرح المنتشرة في
العالم اليوم.وبرغم أن ممثل الأوبرا مغنٍّ قبل كل شيء، فإن مهارته بوصفه مهرجًا
وممثلًا إيمانيًا لا تقل أهمية عن موهبته الغنائية، كما تتسق حركاته بدقة مع
الإيقاعات الصوتية للغناء والتمثيل الخطابي، وتقع مسؤولية العرض كله على عاتق قائد
الأوركسترا الذي تؤدي طبلته ومصفقاته الخشبية دور النبض في المسرحية.وتتسم الأوبرا الصينية بالالتزام بأعراف التمثيل
الصارمة، في إطار الدمج بين الحقيقة والخيال، والخيال ينطوي على الحقيقة، ويعتمد
الاختلاق في الأوبرا التقليدية على حقيقة الحياة المحددة، وتمثيل الاختلاق لا يمكن
أن يفتقر إلى المعايير ويسير على هداه كما يحلو له، بل هذه المعايير تمثل أعراف
التمثيل، وهي تعتبر الحياة النموذج الأصلي الذي يخضع للمعالجة الفنية، ويكون
هيكلًا شكليًا بصورة تدريجية.
سينما
هائلة
تفوق مساحة مدينة السينما
الصينية 500 ملعب لكرة القدم، وتضم حتى اليوم 35 استوديو يراعي المعايير الدولية،
بينها واحد ضخم يمتد على 10 آلاف متر مربع وسوف تضاف 10 استوديوهات أخرى خلال
السنوات الخمس المقبلة. ويضم المجمع الذي يسعى إلى منافسة هوليوود، قاعة عروض
ومدرسة ومستشفى وفنادق فخمة
وناديا لليخوت مستوحى من
نادي موناكو
__________
إرسال تعليق