ربما يقودنا الحديث عن تداخل الأجناس إلى المتغيّرات التي طرأت على كلّ شيء على وجه هذه البسيطة، فالبنية التخصصية التي كانت سائدة في فترات سابقة، أصبحت تعاني من خلل التفكيك، وخلل الوحدة النفسية، إضافة إلى الخلل الذي أصاب البوصلة وقامر بجهاتها الأربع، نحن إذن نعيش زمن المتغيّرات، زمن الرويبضة الذي يتحدث بكل شيء، ولا يخاط بمسلته ثوبٌ، زمن التداخل الغريب غير الممنهج، مع التأكيد على أن هذا التداخل جاء نتيجة لوعي ناقص ومنقوص، كان لا بدّ من هذه السردية الموجزة عن زمن المتغيّرات، الزمن الذي لم ينجُ منه أيّ كائن، وأية موضوعة، وعليه، فإن الناقد لا يخرج عن هذه الدائرة، فهو ابن بيئته، وابن زمنه، ولكن هذا التوجّه الذي أصاب كَبِدَ النقد، جاء مثلوماً، واعتباطياً، وناقصاً من حركة الإشعاع الذي تنشدهُ ثورة المتغيّرات، فهام على وجهه، وساهم بذلك هذا الانفتاح التكنولوجي الذي لا رقيب عليه.
يبدو أن هذه الاعتباطية بالتعامل مع الأجناس الأدبية، رافقت المصطلح الذي قرَّ في ذهنية الأجيال الجديدة الذي جاء محمولاً على بنية الخلل الفكري والمعرفي لدى النشء الجديد الذي ولِدَ مع الحركة العلمية السريعة التي يشهدها العالم، فنحن إذا ما التفتنا إلى الماضي القريب، فسنجد أن الناقد العربي قد أسس لنفسه مداراً فضائياً ومعرفيا واحداً، فهناك من تعامل مع الشعر ومدائنه الفاضلة، وهناك من ذهب إلى حدائق السرد وبهجتها، وهناك من اشتغل على الدراما بتفرعاتها، وإذ ما ضيّقنا الدائرة، فهناك من تعامل مع شاعر واحدٍ، أو راوٍ واحد، بمعنى أنه لم يشتغل نقديا إلا على مبدع واحد تتدرّج معه منذ البدايات حتى كهولة رؤيته.
ومن هذا الباب علينا أن نفرّق بين الموضوعة النقدية التي تتعامل مع التجربة كحالة تتخلّق في عوالم لا نهاية لها، وبين الاتجاه السائد في الندوات والصحف والهيئات الثقافية، فالناقد في أيامنا هذه، إذ يقدّم قراءة نقدية في ندوة ما، بالتأكيد لن يأتي على هذه التجربة، لأنه لم يضع مقاليده ومفاتيحه في سلّة واحدة، بل تعدّاها إلى إبرام صفقة من المصالحات مع الكليشيهات الجاهزة، ويجوز أن نعكس هذه على الصحف وأنشطة الهيئات الثقافية، وبالخلاصة الناقد هنا لن يكون موضوعياً لأنه يستثمر حالة الوقت وليس معارج التجربة.
الحقيقة التي لا مفرّ منها، هي، أنّ الفعل النقابي الذي تقوم عليه مؤسسات المجتمع المدني، بهيئاته المختلفة، هو فعل استعراضي، فعل يمارس شهوته لقتل الوقت، وليس بخافٍ عنك، أن تعدد الأنشطة الإبداعية وتنوّعها التي تحملها الهيئة الثقافية الواحدة، قادنا إلى تأطير ما تسميه " النقاد تحت الطلب"، فالهيئة الثقافية لا تنظر بعين واحدة، فهي هيئة غير متخصصة بنوع معين، لهذا لن تجد الناقد المتخصص، بل ستذهب الهيئة إلى تفريخ مثل هذا المُسمّى.
كثيراً ما تحدثنا في مجالسنا عن التخصص بالفعل النقابي، ليكن مثلاً، هيئة متخصصة بالشعر، وأخرى بالسرد، وأخرى بالفن، وهكذا، عندها فقط، سنجد الناقد الذي لن يكون جاهزاً وفق برمجة الندوة والوقت الذي تفرضه الهيئات الثقافية، أما إذا بقيت جعبة الهيئات الثقافية مليئة بالكراريس التي تقدمها، عندها فقط، سيتناسل ( النقاد)، ويفرّخون كمّاً هائلاً من اللاشيء، يحدوهم بذلك ما نلمسه في وقتنا الحاضر من شللية وتجمعات أدبية عشائرية ومصالح، تنهض مع كل فعل ثقافي إذا ما جاز لنا أن نطلق عليه ذلك.
الخطورة التي يشكلها هؤلاء على " شرعنة" الأدباء والفنانين، تقع في مسار تغيير الذائقة، أو الهجوم على الذائقة النوعية التي يجب أن تتربّى عليها الأجيال، إضافة إلى تجسيم الهالة العبثية التي يلصقونها على المبدع الذي ما زال في بداية تلمسه لطريقه، وتسويقها وكأنها ملكية خاصة، كالألقاب، والمقاربات مع شعراء كبار، وتحميل النص ما لا يحتمل، ومن خلال العمل الوظيفي الذي أقوم به في مجال التغطية الإعلامية للنشاطات، تحسست ذلك الانحدار، أو الشرخ، الذي أحدثه مثل هؤلاء " النقاد"، فهم يجهدون لتسويغ الرديء، عبر تلك الخلطة الغريبة والمليئة بالغثاء النقدي.
ربما تتوجّس الصحف والمؤسسات الإعلامية من الاقتراب من هذه الحالة، لأسباب أهمها، أنها تنقل رؤية خبرية، وليس نقداً، هذا في مجال التغطية الإعلامية الثقافية للأحداث التي تُنظم كل يوم، أما في مجال ملاحقها الثقافية أو برامح المؤسسات الإعلامية المتخصصة، فبالإمكان تأطير هذا الفعل، بحيث تبني عالماً جديداً من النقد الموازي، أو نقد النقد، بحيث لا تسيل المياه في مجراها دون أن تصفو مشاربها، تماماً مثلما يتابع النص الإبداعي مبضعُ النقد، على هذا المبضع أن يتابع أيضا النقد الإبداعي والثقافي، وأن يؤشّر على موطن الخلل في العملية النقدية، أو ردّ عملة الناقد إلى جيبه، أو عدم استضافته في ملاحقها الثقافية أو منابر الإعلام المتنوعة، ولكن هذا يحتاج إلى " من يلقي حجراً في الماء الراكدة".
في مطلع ثمانينيات القرن الماضي وما قبله، ، لم تكن الصحافة الثقافية، أقصد الملاحق الأدبية، والبرامج الإعلامية، تستضيف على صفحاتها وفي منابرها غير التجارب الناضجة، وكانت تتعامل بحذر شديد مع النص الأدبي، فلا يمكن لها أن تمرّر نصاً إلى صفحاتها المقروءة آنذاك، إلا إذا خاط ثوبه بمسلة الإبداع والابتكار والتجديد والمغايرة، أما إذا كان غير ذلك، فإما يُهمل النص إذا كان عالةً على الإبداع، أو يحوّل إلى الصفحات الخاصة التي تُعنى بالأقلام الجديدة، مع متابعة حثيثة للنصوص التي تنشر في الملاحق أو الصفحات الخاصة، وإذا ما اكتملت شروط الإبداع عند أحدهم في الصفحات الخاصة، تستضيفه الملاحق الثقافية على صفحاتها، كلّ هذا كان مشفوعاً برؤية نقدية تعمل على تأسيس جيل إبداعي، لهذا يمكن لنا أن نقول: جيل الستينيات، جيل السبعينيات، جيل الثمانينيات، جيل التسعينيات، أما بعد ذلك فلا أعتقد أننا نستطيع أن نطلق عليه ( جيل) مع وجود بعض الكتابات المبدعة هنا وهناك، ولكنها لا تشكّل جيلاً، وأعتقد أن السبب الذي يقف وراء ذلك هو مدعو النقد الذين عكسوا مرآة ثقافتهم الناقصة والمنقوصة على دروب الفعل الإبداعي، لهذا أصبح المبدع الحقيقي فعل نفسه، محاطاً بذاته وقراءاته ومتابعته للحركة الإبداعية العربية، وليس للنقد عليه منّة، كما كان سابقاً، وأصبح يعيش في شرفة الوحدة لا جيل يعضد مساراته، ولا نقد يأخذ على يديه إيجاباً وسلبا.
وفي الخلاصة، إذا ما تصفّحنا خارطة الحركة الإبداعية في العالم العربي، سنجد أن النقد استطاع أن يؤسس لأجيال إبداعية، ومنها الأردن، لأنّ التخصص كان ملاذ الناقد، وهناك أسماء عديدة من النقاد ترتبط بهم الأجيال الإبداعية السابقة، ارتفعوا معاً، وعاينوا هوية الإبداع معاً، وانشغلوا معاً بمراقبة فعل التجديد على المستوى الإبداعي والثقافي والمعرفي، ودخلوا في مساجلات أثرت كتاب النهضة الفكرية والثقافية والإبداعية العربية، أما في يومنا هذا فالناقد يشتغل على مراده هو، ومراد من يتابعه من الكتاب الشباب، أما الناقد السيئ والمجامل، ولأنه كذلك، بحث عن تحصين نفسه بما يمتلك من وريقات معرفية قرأها على صفحات النت، وربما لم يقرأ كتابا واحداً، بالخلود إلى تشكيل جماعات تصفّق له، فيصفّق لها، لهذا تحطّمت فكرة الأجيال، لتحلّ محلها فكرة الشللية، وما تبعها من مساوئ مواقع التواصل الاجتماعي، بما يعرف ب " اللايك"، وتوزيع الشهادات، والألقاب المجانية، والجوائز التي يحكّمها أشخاص غير مؤهلين.
إرسال تعليق