الأردن/ لندن 

يعدّد الشاعر الأشياء التي ستبقى من بعده: الباب، الجدار، مشجب الثياب، القبعة والعصا وقفص الكناري، ولن تبقى اليد التي فتحت الباب، واعتمدت الى الجدار، وعلقت الثياب على المشجب ووضعت القبعة على الرأس وحملت العصا ورمت حَبَّاً في القفص. اليد. هذه اليد التي حملت، ربتت، صفعت، صافحت، لوَّحت، كتبت، أنذرت، عانقت، أعانت على الكلام، ستزول. لكن المشجب والثياب والجدار والباب والقبعة والعصا والمسمار وأكياس البلاستيك والمفاتيح والأقلام والولاعات، ستبقى. هذا ما أتذكره من قصيدة لشاعر يتأمل، منذ الثلاثين، أشكال الحياة المراوغة وأشكال الغياب التي لا تتزعزع. هذه الأشياء التي نصنعها، نحملها، نستخدمها، نمرُّ بها كل يوم، ستبقى من بعدنا. أقل الأشياء شأنا تبقى بعد صاحبها الذي سيعيده الزوال الى مادته الاولى. الشاعر الذي كتب عن الأشياء التي ستبقى بعده لم يمت. لكن لا بدَّ أنه عاين، عن قرب، بقاء الاشياء بعد زوال أصحابها. كأن يموت والده، أو والدته، مثلا. سيرى كرسي الغائب حاضرا.

وعصاه، أو مظلته، في الركن. ثيابه لا تزال تتنفس رائحة صاحبها في الخزانة. حذاؤه الذي قطع به ألف كيلومتر، أخذه الى العمل والمقهى والحب والسينما وتمشى به على الشاطىء، موجود. مُغْبرٌّ ربما، لكنه لم يختف، فجأة، من الوجود. لم يصبح ترابا. ها هو جلده، صباغه، كعبه، وربما ماركته ومكان صنعه على حالها. ماكينة حلاقته، فرشاته، مشطه، زجاجة الكولونيا، معجون أسنانه كلها على رف صغير أمام المرآة. لكن أين من حلق ذقنه، ونظف أسنانه، ورطَّب خديه بماء الكولونيا، وارتدى ثيابه وحذاءه وتطلع راضيا، أو ساخطا، إلى صورته في المرآة؟

رأيته قبل يومين أو ثلاثة، على شاشة تلفزيون. فلم تعد رؤيته وجها لوجه ممكنة بعد أن اختار، كما فعل دائما، الطريق إلى حياته أو موته. كان حيا. بكامل أناقته التي تسرَّه قبل أن تسرَّ غيره. كان يقرأ قصيدة. الكاميرا تصطاد طرائدها من حضوره المفرط: وجهه الأمرد النحيف، جفاف شفتيه، يده التي ترتفع لتدفع المعنى بعيدا في هواء سامعيه، كأس الماء، كمّ قميصه، ساعته الذهبية. الكاميرا، مذ وجدت، جعلت الغياب يبدو افتراضيا. سجلت نقطة، مؤقتة، ضد الموت. فكيف يغيب من نراه ونسمع صوته ونكاد نلمسه باليد؟ لكن الكاميرا لا تقول الحقيقة كلها. إنها حقيقة اللحظة نفسها. لا قبلها ولا بعدها. الحقيقة التالية على لحظة الأبد المضللة تـــــلك أن من رأيته على الشاشة يقرأ قصيدة ويحرك يده فيظهر كم قميصه وساعته الذهبية لم يعد موجودا بيننا. لقد دفنوه على ربوة وزرعوا شجرة قرب قبره. استعدت قصيدة الشاعر الذي عدَّد الأشياء التي ستبقى بعده. فكَّرت أن يد الشاعر التي أعانت المعنى على مقصده الصعب لم تعد موجودة، فيما زر قميصه سيبقى طويلا بعده. عمر زر القميص أطول من عمر صاحب القميص. الساعة تلك ستظل تتكتك. ربما تحتاج بطارية بعد عامين أو ثلاثة ولكنها ستعود الى التكتكة من جديد. لا أعلم من سيـــرثها ولكنه أيضا سيذهب وستبقى الساعة.

تلك اللمبة تعمل منذ مئة وسبعة أعوام. لم يطفأ نورها مذ وضعت على عمود نور عمومي. لم تتغير بقعة الضوء التي تنهض بعبئها في وجه الليل. اللمبة التي تضيء فلذة من الظلام في شارع جانبي تجاوزت عمر الذي صنعها وركّبها ومشى تحت نورها ورأها من بعيد. الرجل الذي تقع في ناحية عمله يقول، من دون أن يستنتج حكمة أو امثولة، إن الشركة التي انتجتها لم تعد موجودة، ولا الذين تحدثوا عنها أو مروا من تحتها.

قد تتوقف تلك اللمبة عن العمل. ينطفىء نورها. قد تتحطم، لكن سلكها سيظل. زجاجها المحطم قد يُرمى في مكبٍّ ولكـــنه لن يندثر. ربما تبــــــقى منه شظيـــة تجرح يدا. ستزول تلك اليد وتبقى شظية الزجاج المحطم لتجـــــرح يدا أخرى. المصباح بجانب سرير الشاعر لا يزال موجودا في شقته التي لم يعد إليها. كان الشاعر يأرق أحيانا. يضيء المصباح. يقرأ في كتاب كي يغالب الأرق الذي وصفه في مديحه للنوم بوصفه هدية الليل. ذلك المصباح في الشقة التي لم يعد إليها الشاعر بعد أن فتحوا صدره لا يـــــزال موجودا. الكـــــتاب الـــــذي تركه بجـــــانبه على المنضدة موجـــــود كذلك. إن كان من الـــــذين يظمأون ليلا فكأس الماء هناك أيضا. الأقلام التي اشتراها، أو التي اهديت إليه، في علبتها على يمين المكتب، بجــــانبها دواة الــحبر الأسود. كل شيء هناك. كل شيء على حاله. إلاَّ مَنْ وضع تلك الأشياء في أماكنها. لكن الشاعر يعرف أن للجسد فترة صلاحية محددة. تاريخ الانتهاء مكتوب في الدورة الدموية أو في الحجاب الحاجز، أو في ذلك اللوح الغامض الذي لم يره أحد. تاريخ انتهاء الصلاحية يسمونه الموت. لذلك قال له، لا أدري بأي ايمان فَعَل، ستهزمك أيها القادم، لا محالة، قصيدتي. كان يمكن له أن يقول، أيضا، ساعتي وزر قميصي.