-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

حميد سعيد في ما تأخر من القول والإحساس بالزمن / د. إبراهيم خليل

  

بعد دواوينه «شواطئ لم تعرف الدفء» 1968 و»لغة الأبراج الطينية» 1970 و»قراءة ثامنة» 1975 و»ديوان الأغاني الغجرية» 1975 و»حرائق الحضور» 1978 و»طفولة الماء «1985 و»مملكة عبدالله» 1987 و»باتجاه أفق أوسع» 1992 و»فوضى في غير أوانها «1996 و»من وردة الكتابة إلى غابة الرماد» 2005 و»مشهد مختلف» 2008 و»من أوراق المورسكي» 2012 و»أولئك أصحابي» 2015 تصدر للشاعر الكبير حميد سعيد مجموعة شعرية جديدة بعنوان ما تأخر من القول (دجلة للنشر والتوزيع، 2019) واللافت لمن يقرأ هذه القصائد أن الشاعر حميد سعيد يتحدث في أكثرها، إن لم نقل فيها كلها، عن شخصيات تتصف باقترابها من مشارف العمر، وهذا ما قد يفسر اختياره هذا العنوان «ما تأخر» أو «ما  تبقى» من القول، مثلما ذكر في إحدى القصائد(ص82).


د. إبراهيم خليل

 ففي القصيدة الأولى ، وهي في رأينا من أكثر قصائد الديوان دلالة على هذه الحال التي تتجاوزها الشخوص، وعنوانها « رجل في السبعين وسيدة في ... « في إشارة لتأدُّب المتكلم الجمّ في حديثه عن تلك السيدة، إذ لا يريد أن يقول وهي أيضا في السبعين.. نجد حوارا متقطعا، بين الرجل السبعيني، والسيدة، وفي هذا الحوار تتوافر الإشارات التي توحي لنا بوجود عبارات يفترض أن يتفوه بها كل منهما للآخر، فعندما تسأل السيدة السبعيني لا يجيب بل يفترقان، تقول المقطوعة الأولى

 

رجل في السبعين وسيدة في.. 

 

يلتقيان.

 

بمشفىً في عمّان 

...

أتعرفني 

...

 

   

يفترقان

وهذا الحرص من حميد سعيد لتقطيع الحوار بفجوات تمثل كلامًا محذوفًا، يُفترض أن يجري بين المتحاورين، يؤكد على الملاحظة السابقة، وهي أن المتكلم لا يريد أن يفجع القارئ بالحقائق عن هؤلاء الذين ناهزوا السبعين، أو تجاوزوها، فهو يقول في مقطوعة أخرى من القصيدة تاركًا حيزًا من الفراغ للجزء غير الملفوظ من الحوار:

كان يراقبها 

وهي تحرك جمر الأرجيلة

هل هي؟ 

أم تلك امرأة تشبهها ؟

...

غادرتِ المقهى 

فتذكرَ خَفْقَ عباءَتها

ابتعدتْ، 

شِخْنا وتغيرت الدنيا 

إلا خفق عباءتها ... 

ظلَّ كما كان 

ومن اللافت أن حميدا يقترب من إجراء حوار بين السبعيني والسيدة ،فجاءت عباراتهما مجزأة. والملفوظ منها يوحي بالمضمر، والمسكوت عنه. فالمفاجأة التي يشعر بها السبعيني أنه لا يستطيع التعرف على السيدة، أو بكلمة أدقّ، ليس على يقين من أنها هي التي يعرف. وبعيد هذا الحوار يتضح أن السيدة هي هي، ولكن الأخرى تفاجئه بما لم يكن يتوقع، فهي تكاد لا تتعرف عليه لتغيره مع أنها كثيرا ما تتحدث عنه لأحفادها:

في دائرة الهجرة

فاجأه صوت امرأةٍ يأتي من زمن جدِّ بعيد 

أأنتَ 

بلى ...

أوَ أنتِ .. 

–  لقد كنتُ أحدث أحفادي عنكَ 

وهذا أوسَطُهم

سيزورك في المقهى ذات صباح

فمن سخرية الزمن أن هذه السيدة التي كان قد عرفها، وعرفته، في الماضي البعيد جدا، قد أصبحت ذات أحفاد، وعوضا عن زيارتها هي له ستنتدب حفيدها الأوسط لذلك، ومن سخرية الزمن أيضا أن سيدة أخرى تجاوزت هذا المقدار من العمر تسخر من سيدة أخرى، لأنها لا تزال تتظاهر بالصبا والشباب اللذين وليا على الرغم من أنها تقبع منذ زمن على طرف من العمر ، تقول هذه السيدة لجارها السبعيني

بالأمس، وكنتُ أمشِّط شعري 

في صالون للتجميل

شاهدتُ امرأة بغدادية

وهي عجوز عجفاء .. تكحِّلُ عينيها

وتلوِّن خديها وأظافرها وشفتيها

مثل صبيَّة

تبادلنا القول 

ذكرتُ لها اسمكَ 

قالت:

-    كانْ...

ويكتفي السبعيني بهذه الـكلمة (كان) وهو الفعلُ الذي يعني، في هذا السياق، كأنَّ السبعيني لم يعد موجودًا. ومن المفارقات التي تشعرنا بما يؤول إليه الآن – وقد بلغ هذا الحد من العمر – أن المتكلم في القصيدة يلتقي سيدة في مثل عمره تمامًا في مطعم بأحد أحياء عمان (الدوار الرابع) ففوجئ بها وهي تصيح

يا ... 

أنتَ هنا؟

منذ سنين

فتعلق قائلة :

وأنا أسكنُ هذا الشارع منذ سنين 

وتشير إلى بيتٍ غير بعيدٍ بعصاها

لماذا يستخدم الشاعر، ها هنا ،كلمة بعصاها ؟ الجواب هو الإيحاء بأن هذه السيدة أصبحت هي الأخرى على طرف قصي من العمر، لذا تتوكأ على العصا، وتقول مع ذلك زرني حين تشاء، يقول الشاعر عن السبعيني

وبعد أسابيع .. يجيء ليسأل عنها

يخبره البوابُ بأنّ الله توفاها 

واقعُ الحال أن هذه القصيدة – إذا تجاوزنا ما تعبر عنه من أسى على ألسنة هذه الشخوص، ومن إحباط، ومن خيبة – تعد من حيث البناء الشعري، والنسيج الفني اللغوي، وما فيها من تعدد الأصوات، ومن نبر وتنغيم، وما بين مقاطعها من اتساق حينا، وتباين حينا آخر ، من أروع ما كتب من شعر في هذا العصر الحديث، فالقصيدة توازن بين المضمر والملفوظ، في الحوار، وتوشك أن تكون بهذه الموازنة كالسيناريو القصير الذي يذكرنا بجنوح بعض الشعراء الكبار للإفادة من هذه التقنيات في بناء القصيدة، وهذا ما كنا أشرنا لأمثلة منه في بعض أشعار مريد البرغوثي(ينظر: الفصل4  من كتابنا: حاضر الشعر وتحولات القصيدة، دار الآن، عمان، ط1، 2016 ص 65- 78). ففي هذا اللون من القصائد مشاهد يجري التعاون فيها بين الشاعر، والمصور، والفريق السينمائي أو التلفزيوني الافتراضي..وتذكرنا قصيدة « العجوز اليساري « بالأجواء ذاتها، التي تذكرنا بها القصيدة المذكورة، فهذا اليساري لم يعد لديه ما يتذكره، وقد بلغ من العمر عتيا، يكرر روايته لماضيه المتخيل على النحو الذي يتمناه لا مثلما كان فعلا، ومن سوء حظه أن الجارة التي يكرر لها هذا الماضي فقدت سمعها منذ عامين اثنين:

يتخيله مثلما يتمنى لا مثلما كان

مُذْ جفَّت الذاكرة

منذ أطلَّ الصباح

أعاد حكايته .. حين كان.. 

على جارة فقدت سمعها منذ عامين 

للمرة العاشرة

وتتكرر هذه الأجواء في قصيدة أخرى اختار لها الشاعر الكبير عنوان « العُكَّازة «. فالمتكلم في القصيدة يروي لنا مشهدًا من حياة رجل على حافة العمر، يتوكأ محدودبًا وهو في الطريق نحو صاحبه الذي سيحدثه عن العكازة، مُسْهبًا في وصفها، ونعْتها، بكلمات مكرورة، معادة. فهذا الرجل لم يعد لديه ما يتذكره، إلا القليل جدًا من ماضيه المندثر، لذا لا يجد ما يتحدث عنه سوى هذه العُكازة، مثلما لا يجد من يحاكيه، ومع ذلك يصغي لوقع العصا على بلاط الرصيف، وهذا الوقْعُ يشعره بوحدته القاسية، وبأنه لا أنيس له في هذه الحياة، ولا رفيق، سوى العكازة :

وحيدا كما اللؤلؤة

في ظلام المحارة

إن هذا الفضاء الرماديَّ 

مأواهُ

يحمله الوهم نحو مدىً لا يراهُ 

ويوهمه بانتظار الإشارة 

وهو يعرف أن زمان البشارة

لم يعد يتوقف حيث يكونْ

وفي (تحوُّلات) يدرك الرجل أن قطار العمر يمضي به سريعًا من غير توقُّف، فهو من بداية القصيدة يتابع الطفلة التي أصبحت أمًّا في آخر النص:

لقد كبرت 

حيث يجلس كل صباح 

تمرُّ الصبية، يسألها، أو يكاد

عن طفلة الأمس..

تشغله ببضائع .. لا نفع فيها 

تبيع له ما تشاء

لا ما يشاء

فمنْ لحظة لأخرى تكبر الطفلة، وتنْمو، وهي تبيع أشياءَ لا قيمةَ لها، ولا نفْع، وتغدو في رمشة عين سيدة تكتنزُ الكثير من مفاتن النساء، وتأتيه في المقهى مرة أخرى، وقد ثقلتْ:

يجلسُ كل صباحٍ

وتأتي، لقد ثقلتْ

وهي تحملُ طفلا تشير إليه 

تقول لهُ: ولدي

فمنْ كانتْ بالأمس طفلة، أصبحت الآن سيدة، وأمًّا، وهو ما يزال على ما هو عليه، جليسَ المقهى، المضطرَ لشراء ما لا نفع فيه، ليرضي تلك الطفلة التي تكبُر في غفلةٍ منه، ومن الزمن، الذي كاد الرجل السبعيني لا يشعُر بمروره، لولا ما يشهدهُ من أمر هذه الفتاة، وما يطرأ عليها من تغيير. نحن إذًا أمام شاعرٍ يحاولُ بما أوتي من قدرة فنية، وبما يمتلكه من رؤية شعرية، أن يقدِّم لنا نموذجًا شعريّا جديدًا، وفريدًا، في تعبيره عن الإحْساس بالزمَن، وهذا النَموذجُ، علاوة على جوْدته، قلَّ نظيره في الشعر العربي؛ قديمه وجديده.


المصدر: الدستور

 

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016