هاجس الهجرة في شعر
نادية القاسمي
" الجسد
هو ما يبقى
من كُلّ ما يؤسّسه الشعراء
من كلام " (1).
يمثّل الجسد ، بمفهوم ميتا/ لغوي، الخيط الناظم للعبة الكلامية، في
منجز الشاعرة المغربية نادية القاسمي، يُضاعف من رمزيته ، كون استحضاره يتمّ على
نحو فلسفي،تحاول باعتماده ،الذات الشاعرة ، ترجمة النبض المجتمعي، إزاء ظاهرة
فجائعية ، ما تنفكّ ترخي بكامل ثقلها، على الثقافة الحياتية المتوارثة بتعاقب
الأجيال.
تلكم ظاهرة " الهجرة السرية" وغير القانونية، أو ما يعرف
في القاموس المغربي الدّارج بمفردة " لحريك" ، وكيف أنها، أي
هذه المعضلة ، استحوذت بالتمام ،على العقول والقلوب وأضحت هاجسا ثقيلا، منذ فجر
الاستقلال ولحدّ الآن ، تلك المرحلة التي عُرفت بما يمكن تسميته عهد التصالح وبسط
صفحات بيضاء للتعاون وتبادل المصالح ،بين دول أوروبا ومستعمراتها المغاربية
والإفريقية " المستقلّة " ، بشكل خاص.
ولو أن حاجة القارة العجوز، وافتقارها لليد العاملة والأدمغة
العربية، فرض أسلوبا انتقائيا مدروسا آنذاك، وتطبّع بجوانب البراءة وإنصاف
المهاجرين ماديا ومعنويا ، تبعا لسياسة استقطاب ممنهجة ومقصودة ومرتّبة جدا، خلافا
للحاصل فيما بعد، وقد أخذت معه الظاهرة توجّها جحيميا وإجراميا ملأ المنافي
الطوعية انتهازية وعنصرية واضطهادا، ,وإن بسبل خارج دوائر القانون، وغاية في
السرية المتعارف عليها،وغطّى بلاد المهجر بجثث الغرقى ومشاكل الناجين.
إن هذا الجسد المقدّس، إبداعيا، ههنا، المؤطر برؤى موسوعية لشاعرة
آثرت الانتماء لنصوص الهجرة المحرّمة ، بكامل سلبياتها وحالاتها المرضية ، بما
يُجبر الكائن المغاربي ، على عقّ المنبت وعصيان التراب، جراء جملة من الضغوطات
النفسية والاقتصادية وغيرها من الخلفيات الوجودية القاهرة ، المتسببة بخفوت الحس
الهوياتي إجمالا.
هذه المغادرة التي تُمليها، في الغالب ،ذاكرة الجلْد، تتقنّع
باللاشرعية، ضدّ واقع الانكسار والقمع والحرمان، مزيّنة مقامرة ركوب البحر ،تأمما
لضفّة الوهم، ولأجل حياة الرغد والفضيلة والكرامة والعدالة والحريات.
وهي مناقب تغلّفها أمنيات كاذبة
مؤجلة، بالطبع ، ليس تعشّش في سوى المخيلات القاصرة والسّقيمة ، من لدن جيل أعمته
فوبيا البحث عن بديل، جيل قلق متخبّط في أسئلته، يتلاعب به ضياعه، وشتى ما يغذي
فلسفة الغروب في لا شعوره ،كضرب من هلامية تسكنه، بشأن ما يتطلع إليه هناك،ما وراء
قوارب الموت ، ويغزوه من انطباعات عن الفردوس الموعود.
"
سألتقط كلّ العظام
التي
سبرها غور سباحة،
تلاعب
بأحلام
الماء
أيها
الفرح
تلبّس
بي" (2).
جيل
جان مجني عليه في آن، مصيره أن يتعثّر بأبجديات ووصايا فلسفة الغروب ،التي تغويه
وتضلّله ولا تدع له خيارا أو إرادة، بحيث تجرّده من حسّ الانتماء،لتحقنه بمركبات
نقص يحرّضه على الجنون كل هذا الجنون والانتحار بهذه الشاكلة.
هذا
النعت ،على حدّ تعبير شاعرتنا، فلسفة الغروب في عمق صلتها بمفهوم الخيانات المائية
، وهي ترفع الجسد فوق الروح، وتقلب المعادلة جملة وتفصيلا.
"
ما الفائدة
من
كومة الرّماد المعلّقة
بتابوت
أمير أسطوري
إذا
كنّا سنقيس العناقيد اليافعة
ببقايا
الرّماد؟ " (3).
إن
خطاب مكر الماء، والذي طغى على نظير هذه المناولة ،تأسيسا على سياق قِناعي، ينأى
عن المبالغة والمباشرة، ليغرق المتلقّي بدوال الاستعارة القادرة على نسج المرثاة
في أقصى مستويات استنزاف المتن الجوهري،من حيث درجه في حيز تاريخي معيّن ، يتوسّل
المراوحة في العبور النرجسي المخملي الخاطف، ما بين الخاص والعام، نزوعا صوب ما هو
إنساني انتهاء.
"بين أصابعي
الأخطاء
تعلن تمرّدها،
كقائمة
طرائد
من
وجهة برية
تنتهي
عند
قنّاصي الأرواح" (4).
باعتبار
الخسائر البشرية واحدة ضمنيا ،وإن تعدّت الأسباب و الألسن والعقائد والجغرافيات،
سواء عند العرب أو غيرهم من العجم، ومهما تنوّعت أدوات الفتك بأيادي القناصة
وتباينت أهدافهم.
فضحايا
التطرف والإرهاب ، لا يختلفون كثيرا عن قرابين آفة الهجرة السرية فيما تحصده من
أرواح يوميا.
"
أغامر في الورد
ليورق
بين يديك
وأتهشّم
في مزهريته" (5).
هو
في الحقيقة سأم وضجر قصيدة ، أيضا، من هول المعضلة، تنسج ملامحه ذات مثقلة بهواجس
جيل ، باتت تستعبده الخيانات المائية.
قصيدة
تترع من كل ملمح ومعنى يغري بتقديس الحياة، قسطا يُدغدغ بالوهم الأذهان ، ويؤكد الهيمنة على جيل بأكمله، يدفعه
إلى أفق فرص النجاة ويعزز لديه ثقافة الانتصار على الموت، ويتيح له بديل تلمظ
معسول الولادة الثانية ، على حساب فناء وتبدد القصيدة وتحولها إلى رماد.
يفسّر
هذا المعنى ، حجم الهدية التي تخصّ بها الذات المبدعة، مخاطبها ، كجيل اغتال
أحلامه خيار الهجرة بوصفه إذعانا لمادية العالم المتحضّر أيضا ،كما عارا
تتلطّخ له إنسانية المغاربي بدرجة أولى ، قبيل إسدال الستار عن آخر فصول المرثاة.
"
لك من الضوء
ما
يستحقّ الحياة " (6).
من
هنا نستشفّ قيمة المنجز الشعري لدى هذه الشاعرة، نظرا لتركيبيته وتفشّيه باتجاه
العام و مشاتل التلبّس بمفردات الهوية الإنسانية، من خلال ديوان " رياح
بليلة" طبعة 2015 ،عن دار التوحيدي، الرباط ، ثمّ مجموعة " متلبّسة
بالتراب" الصادرة حديثا عن بيت الشعر في المغرب.
ختاما،
نلفي الشعرية في هذا المشروع المنذور لقضية الهجرة،كاستثناء زاده نكهة هذا
الانثيال بصوت الأنثوي، ودبّجه بتصوير فنّي جريء ومباغت ،أقرب إلى الوشايات
الأنيقة والربط الميتافيزيقي ،ما بين الذاكرة وواقع الانكسار،على درجة عالية من
الاحتماء بمعاني الحياة وألوان المنظومة القيمية، برغم تفشّي تيمات هذه الشعرية في بعدي
الجلْد الجسدي والاغتراب الروحي، ذلك أنها كتابة واعية ، استطاعت أن تبق على الأمل
في جيل متّهم، متروك لمراياه الكاذبة، بدل الأخذ بيده والاستثمار فيه استثمارا
صحيحا، يتحقق معه خلاص الكائن والحياة.
كتابة
تصون الرّهان على جيل منهزم مهووس ب"نعيم" الضفّة الأخرى.
هامش:
*أنظر مجموعة " رياح بليلة"
طبعة 2015، منشورات دار التوحيدي، الرباط.
*أنظر مجموعة " متلبّسة
بالتراب" طبعة2018، بيت الشعر في المغرب.
شاعر
وناقد مغربي
إرسال تعليق