يخفى على المتابع الدقيق، لتحولات الخطاب الشعري العربي المعاصر بعامة، وليس في العراق وحده، أنه حقق الكثير من الرسوخ الجمالي، من خلال قدرته على الانسلاخ وتغيير الهيئة، بما يتناسب مع المتغير الثقافي والجمالي، الذي يحيط بظروف إنتاجـــــه؛ للوصول على مرحلة واعدة من الاستقرار واكتشــــاف الهوية، ولعل عودة سريعة بالذهن إلى تلك التحـــولات، منذ بزوغ فجر حداثة القصـــيدة مع السياب ومَنْ معــــه ممثلا بـ(قصيدة التفعيلة)، وصولا إلى المظاهر شديدة التجـــريب التي تحققتْ مع (قصيدة النثر) تؤكد مدى قدرتها على التواصل والتطور والتفرد، في إنتاج نص مغاير ومختلــــف؛ بل منقطع عما سبقه جميعا.
غير أن هذا الانقطاع كون بالضرورة نوعا من بنية خاصة في الشعرية العراقية المعاصرة، يمكن أنْ نطلق عليها اسم (بنية تفرد) ليس في الشكل أو البنية فقط؛ لأن التحولَ والتجدد وتجريب المغاير والجديد والمختلف وحتى الغريب، أمرٌ صحي تماما، بل هو الذي يجب أنْ يكون، كونه من أهم سمات الأجناس الأدبية، أقولُ: إن هذا التفرد ليس بالبنية الجمالية والتكوينية للنص، بل بالوعي الفني نفسه، ولكي لا أفهم خطأً هنا، أعني بالوعي وعي المرحلة والانتماء والدلالة التي يكتسبها عالم الفنان، من خلال وعيه الثقافي ليس بمرحلته التأريخية فقط، بل بالمراحل (السابقة/اللاحقة – عليها/لها) أيضا، للوصول إلى وعي فني مستقر قادر على التطور والانسلاخ من كل اليقينيات لتجارب سبقتْ، بعد هضمها وتجاوزها لما هو أكثر معاصرة، أي ذوبان هذا الإدراك في المرحلة الثقافية وكتابها وأجيالها، للوصول إلى أسلوب خاص يميز أي تجربة مهمة، خلافا لظاهرة التفرد والانقطاع، التي تجعل من المبدع سليلا وحده، كأنه ظاهرة أنتجتها المصادفة الفنية المحضة، والحقيقة أن الأمر غير معني بتحولات الأجيال الأدبية المعروف، وفق قاعدة (ما إنْ يولد جيلٌ جديد، حتى يعلن عن موت سابقه) كون هذه القضية ذات بعد معرفي تأريخي، مرتبط بالتطور الكلي لبنية الشعر وخطابه في مرحلة ثقافية كاملة، نمتْ عن رؤى ومفاهيم وبنى ثابتة، تقاسمها أدباء وعبروا عنها فنيا، لكنه معني بأُفول (الوعي الفني الجمعي) ورسوخ (الوعي الفني المتفرد) ـ ليس (الفردي) ـ بدلا منه، كون الفردي جزءا من أي ظاهرة فنية أو تجربة راسخة، بمعنى رسوخ الوعي الفردي المنقطع الرافض، لأي تجربة مختلفة عنه حتى إن كانت من الجودة بما يكفي لكي تضاهيه أو تتعداه، لذا يتأكد أننا أمام فكرة (قطيعة ثقافية)، بالمعنى الحرفي الذي تُلغى ضمنها تجارب كثيرة مهمة، سبقت أو جايلت أو لحقت، فالإشكالية واحدة سبق أن تجذرت في وعي الشاعر المتمسك بالقصيدة العربية ذات النكهة والثقافة الكلاسيكية والشاعر الحداثوي المواكب للتجديد والمغايرة، محاولة منه لتفكيك المستقر والمتعارف عليه في وعي المراحل الفنية السابقة لمرحلته، وطموحا لإنتاج وعي فني منتمٍ إلى مُعاصَرة راسخة في مقولات ما بعد الحداثة.
لقد أكدتُ في مقال سابق بعنوان «صنعة الشعر ومأزق التجديد»، أن «إنصاتا دقيقا لما يجري اليوم من اختلاف في الرأي، في ما يخص مدى جدية الأساليب الشعرية الجديدة في التعبير عن روحية القصيدة، كفيل بمعرفة عمق المأزق الذي وقع فيه الشاعر الذي لا يحسن الجمع بين وعي الأساليب القديمة ووعي تحولات البنية المعاصرة»، فالشعر العربي عموما ينتمي باختلاف أصنافه وتحولاته إلى شعرية واحدة، تنطلق من غنائية جسدتها خصوصية اللغة وكينونة الرؤية وفاعلية التنويع والانزياح؛ لخلق وهم مغاير لما هو كائن، أي أن الإشكالية لا تكمن في (النص الشعري) بوصفه خطابا، وهي حتما ليست في نمطية (المتلقي) وذائقته المختلفة حسب ثقافته ووعيه، إنما تكمن في ذهنية (الشاعر) ووعيه المركب وفق سايكولوجية خاصة، وميكانزمات فنية ذاتية توحي له بذلك التفرد الغريب، عما قبله أو بعده، رفضا للريادة والتأسيس والمجايلة؛ وصولا لانقطاع كامل وتفرد خاص واعٍ بتجربته الذاتية، ما أدى إلى اضمحلال (الوعي الجمعي)، الذي كان يميز الأجيال الأدبية بما فيه من نزعات معرفية وثقافية، جعلت من الخمسينيين واقعيين والستينيين مُجربين وهكذا، فالثقافة نواميس معرفية تقوم على أساس التراكم والتكامل والتطور، وهذا ما لم يدركه أصحاب الذهنية المتفردة.
لقد حققت قصيدةُ النثر اليوم نجاحا باهرا، كونها جعلت لغة تعتمد الوزن المبني على
تركيب الأصوات والحركات، قادرةً على مغايرة أصولها الجمالية، بأن ناغمت إيقاعها مع
المقطع والنثر بشكل هارموني معبر عن الذات والعالم، غير أن هذه الحقيقة لا تعني
أفول ما سواها من أشكال القصيدة الحديثة مثل: القصيدة العمودية وقصيدة الشعر
وقصيدة التفعيلة؛ لهذا نجدنا متمتعين متناغمين مع تجارب شعرية كثيرة يجمعها الشعر
والنغم والموسيقى واللغة الجميلة، ويفرقها الشكل أحيانا على اختلاف المرحلة والجيل
والثقافة والتقانة الفنية، كما في استماعنا/ قراءتنا لتجارب مثل: السياب والبياتي
ونازك والجواهري وعبد الرزاق عبد الواحد وسعدي يوسف ولميعة عباس عمارة وكاظم
الحجاج وخالد الداحي وإنمار الجراح وآمال الزهاوي وأمل الجبوري ووفاء عبد الرزاق
وأجود مجبل وعلي الإمارة وإبراهيم الخياط وعارف الساعدي وعمر السراي وعلي فرحان
وغرام الربيعي وأمير الحلاج، وغيرهم الكثير، كون عملية نجاح تجربة، لا تعتمد
الأسلوب أو البنية فقط، ولا تعتمد على ذهنية القطيعة والتفرد، بل تعتمد على مدى
تأثيرها بالمتلقي، ما يجعلها راسخة مؤثرة في مرحلتها وزمنها والمراحل التي تليها،
سواء أكانت ذات شكل تقليدي أو تجديدي، فالأمر هنا منوط بالمتلقي وشروط تلقيه للنص
من ثقافة ووعي خاصين. ولعل هذه القضية برأيي ــ شروط التلقي ـ هي التي تمثل رمانة
الميزان في تحديد أهمية التجربة الشعرية وأثرها، ففي الحديث الشهير لرولان بارت عن
لذة القراءة، التي تولد متعة خاصة لدى المتلقي، ثمة تأكيد على الكتابة بلذة مطلقة
عند المبدع، وهذا بالضرورة لا يعني ضمانا لتحقق اللذة ذاتها عند المتلقي؛ لهذا
يشخص بارت ما يطلق عليه (فضاء المتعة)، وهو لا يضع شروطا كتابية فيه، كون الأمر
مرهون بمتلقي العمل الإبداعي وليس مرسله، ما يذيب فكرة جمالية وأهمية الاختلاف
الإجناسي أو البنيوي، أو حتى الشكلي للنص أي نص، وهذا أمر يمكن إثباته، من خلال
اللجوء إلى قوانين سوسيولوجية التلقي ـ وهو أمر غفل عنه بارت تماما ــ فلو منحْنا
أشخاصا مختلفين في الذائقة والثقافة، نماذج شعرية مختلفة في النوع والشكل، لوجدنا
شرطَ المتعة متحققا عند نصوص معينة وأخرى لا، وعند قراء/متلقين معينين وآخرين لا،
وهذا ـ الاختلاف ـ لا يعود حتما إلى سبب المغايرة في الشكل الفني أو اللغة أو حتى
حداثة النص، بل يعود إلى ظروف التلقي ووعيه، فتعلو بذلك نصوص وتنتشر وأخرى لا تحقق
ذلك، ما يؤكد بقوة هنا بأن الشعر على مختلف أشكاله وأساليبه، تقليديا كان أم
حداثيا أم ما بعد حداثي، ما زال ينصتُ إلى تلك الشفوية التي انطلق منها؛ لأن
أهميته مرتبطة دائما بمدى تفاعل متلقيه الآني حتى لو كان مقروءا، وهذا مائز للشعر
دون غيره من الأجناس الفنية الأخرى، وهو ما يُعول عليه كثيرا في تحديد أهمية
القصيدة وشعريتها دائما وأبدا.
٭ ناقد وأكاديمي عراقي
* القدس العربي
إرسال تعليق