مهدي نصير
الروايات العربية الست التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية البوكر
لعام 2019 مثَّلت مناخاتٍ روائيةً لطيفٍ واسعٍ من الجغرافيا العربية، فمن المغرب
العربي كانت رواية محمد المعزوز « بايِّ ذنبٍ رحلتْ «، ومن مصر كانت رواية عادل
عصمت «الوصايا»، ومن العراق كانت رواية انعام كجة جي «النبيذة»، ومن لبنان كانت
رواية هدى بركات «بريد الليل»، ومن سوريا رواية شهلا العجيلي «صيف مع العدو»، ومن
الأردن رواية كفى الزعبي «شمس بيضاء باردة».
في هذه العجالة ساقرأ ملامح عامة لمناخات وتقنيات هذه الروايات الست وكما يلي:
اولاً: رواية اللبنانية هدى بركات «بريد الليل» هي روايةٌ قصيرة تقع في 129 صفحة
موزعة على رسائل موجهةٍ من شخصياتٍ مبهمةٍ وبائسةٍ وهاربةٍ من جحيم بلدانها
العربية المأزومة بالحروب والتسلط والدموية إلى أوروبا، الشخصيات بلا أسماء وبلا
ملامح وبلا أوطان واضحة ولكنها كلَّها تنتمي لبلداننا العربية - سوريا، لبنان،
مصر.... - الرسائل المبهمة كانت تكنيكاً سردياً يفصل أحياناً بين هذه الرسائل
ويعزل مرسليها ومن ثم يعود ليقيم علاقاتٍ عابرةً بين مرسليها من خلال علاقاتٍ
عابرةٍ مع هذه الرسائل، احتوت هذه الرسائل على خطابات موجهة من هذه الشخصيات للأم
والأب والأخ لتعطي القاريء عبر هذا التكنيك جزءاً من مناخات القهر والتخلف
والوحشية التي دمَّرت شخصيات هؤلاء الهاربين وحولتهم لمجرمين ومومسات بائسين
ومسحوقين.
انها كوكتيل من القصص والموازييك لعالمٍ عربيٍّ يسير باتجاه الكارثة ولكنه عالمٌ
بلا ملامح بلا شخصيات بلا أماكن وبلا أمل، جميع الرسائل التي شكَّلت جسد الرواية
لم تصل لمن أرسلت إليهم ولكنها وصلت إلينا عبر هذا التكنيك الممتع، وكأنها إشارة
أن رسائل هؤلاء المسحوقين ورسائل هذه المجتمعات التي يتم تدميرها لم تصل بعد
لأهلها التائهين.
تكنيك الرواية السردي تكنيك بسيط ومطروق وتم استخدامه في الرواية العربية كثيراً،
لغة السرد كانت لغةً يوميةً عكست واقع الشخصيات التي كتبتها.
ثانياً: أحسست وأنا أقرأ رواية الروائي المصري عادل عصمت «الوصايا» أن هذه الرواية
روايةٌ مدَّجنةٌ وعرجاء، فهي تتناول فترةً زمنيةً طويلةً في حياة مصر من ثلاثينيات
القرن العشرين حتى عام 2008 دون أن تحضر التغيرات السياسية العنيفة التي عاشتها
مصر في أحداث الرواية ودون أيِّ موقفٍ سياسي يشير لأزمات مصر الكبرى، بل كانت
الرواية وصايا وجوديةً لفلاحٍ طنطاوي منعزل وكأن طنطا والفلاحين المصريين لا مواقف
سياسية لهم حول ما يدور ويعصف بهم.
القدم التي كانت تسير عليها الرواية كانت قدماً سويةً ساقتنا للريف المصري
وشخصياته وبساطته وحزنه العميق وارتباطه العميق بالطين والأرض والخرافة في سرديةٍ
عاليةٍ وممتعةٍ ومؤلمةٍ ترصد التغيرات في هذا الريف عبر أجيال عائلة السليم ومصائر
أبنائها دون ربطها بالتغيرات السياسية والاقتصادية الكبرى التي قادت مصر لهذا
الخراب الذي مثّله خراب الدار الكبيرة - دار الشيخ عبد الرحمن السليم راوي الوصايا
لحفيده في هذه الرواية -.
ثالثاً: رواية «النبيذة» هي الرواية الرابعة للعراقية المقيمة في باريس انعام كجة
جي، في هذه الرواية التي يتناوب على السرد فيها شخصيتان رئيسيتان هما تاج الملوك
عبد المجيد الايرانية الأصل والعراقية النشأة والثقافة والصديقة المقرَّبة من نوري
باشا السعيد ومن وصي عرش العراق الأمير عبد الإله والمهاجرة إلى باريس لتتزوج من ضابط
مخابرات فرنسي كبير وتشارك في محاولة اغتيال بن بلة في القاهرة، هذه المرأة
الجميلة والمثقفة والصحفية اللامعة والتي تكره عبد الناصر وتعشق نوري السعيد
والأمير عبد الإله والعشيقة العابرة لعشرات العشاق والتي تعشق رجلاً واحداً هو
الفلسطيني منصور البادي والتي تعيش ايامها الأخيرة في باريس برفقة وعناية الشابة
وديان الملاح - الساردة الثانية - الموسيقية اللامعة والهاربة من جحيم سنوات حصار
العراق وجحيم ابن الشيخ الذي تسميه الرواية «الأستاذ» بجنونه ومغامراته واستهتاره
والذي قام بتدمير سمعها وتحويلها لفتاة طرشاء، امرأتان من عهدين عراقيين مختلفين -
الملكية والجمهورية العراقية - تعيشان في باريس وتتذكران حياتهما في ذينك العهدين،
تتذكره تاج الملوك على أنه الزمن الجميل المفقود وتتذكره وديان على أنه القهر
والدموية والتخلف الذي افقدها الرجل الوحيد الذي تحبه ( يوسف الأستاذ الجامعي الذي
يضطهده ويهزؤه ويسلب شخصيته الأستاذ ابن الشيخ المُقعد على كرسيِّه
المتحرك ).
لغة الرواية لغةٌ عاليةٌ تتقاطع معها أمثال شعبية عراقية وكلمات وأغانٍ بلهجة
عراقية محببة ترد في ثنايا سرد تاج الملوك ووديان الممتع.
شارك في السرد في متن الرواية كلٌّ من منصور البادي وأحياناً كان يبرز الراوي
العليم ليسرد بعض التفاصيل.
لم تأتِ الرواية على سردِ أيِّ شيءٍ عن فظائع الاحتلال الامريكي للعراق مع أن هذه
الفترة كانت ضمن فترة احداث الرواية التي تشهد قتل الامريكان للأستاذ ابن الشيخ
والتي تعلق عليه وديان بشتمه والتشفي بموته.
تحولات تاج الملوك ومشاركتها بندوات حوار الأديان وتسجيلها سوراً من القرآن الكريم
بصوتها وعلاقاتها المتشعبة في كل القارات وزواجها من جنرال مخابرات فرنسي كبير
ومشاركته الكثير من أعماله يضعها في مكان الجاسوسة المثقفة والجميلة والمرغوبة
والتي وظَّفت كلَّ هذه الامكانيات لتبقى تاج الملوك المرأة الأسطورة كما صوَّرتها
هذه الرواية
ينبث في ارجاء الرواية ثقافة الراويتين الموسيقية العالمية والشعرية والتراثية
العالية التي أعطت للرواية تشويقاً ومتعةً في قراءتها
هذه الرواية هي رواية الارستقراطية العراقية في شتاتها.
رابعاً: اشتبكت في ذهني ساردتان رئيسيتان في روايتين وصلتا للقائمة القصيرة
هذا العام 2019: وديان في رواية «النبيذة» للعراقية انعام كجة جي ولميس في « صيف
مع العدو « للسورية الأردنية شهلا العجيلي، فكأنهما صورتان للمرأة العربية في
الشتات الأوروبي، تسرد كلٌّ منهما مأساتها ومأساة بلادها العراق وسوريا، كلٌّ
منهما تستعيد المأساة بعد وصولها للشتات الأوروبي - وديان في باريس وتحتضنها تاج
الملوك ولميس في كولونيا الألمانية وتحتضنها المثقفة والروائية الألمانية
كارمن -.
صيف مع العدو كانت رواية المأساة السورية في الرقة الشمالية الفراتية ومن فتاةٍ من
طبقةٍ متوسطة ومتعلمة ومن بيئةٍ فقيرةٍ تنتمي للوطن السوري الكبير وحلمه بالتحرر،
بينما كانت وديان وتاج الملوك تمثلان نقد طبقةٍ ارستقراطيةٍ - تاج الملوك تحديداً
- للمأساة العراقية.
«صيف مع العدو» استندت على رواية لميس وذكرياتها في الرقة، هذه الذكريات التي لم
تكن مرتبةً تاريخياً بل كانت لميس تروي وتتقدم في روايتها ثمَّ تعود وتستعيد
ذكريات من مراحل أبكر قي تداخلٍ زمنيٍّ واضحٍ وشيِّقٍ وبلغةٍ عاليةٍ ومتمكنةٍ
وحزينةٍ على الخراب الذي يصيب بلادها.
خامساً: رواية المغربي محمد المعزوز « بايِّ ذنبٍ رحلتْ « كانت روايةً ذهنيةً يغلب
على سرد السارد العليم فيها السرد الفلسفي والمونولوج الداخلي للشخصيات المتناسب
مع طبيعة الشخصيات النخبوية (عبد الله الفيلسوف وخريج السوربون وراشيل الفنانة
التشكيلية وخالد الكاتب والمناضل الماركسي وراحيل المناضلة اليسارية وعازفة
البيانو والمؤلفة والمغنية التقدمية وجيهان الصحفية اليسارية.. الخ)، الرواية ترصد
انكسار المجتمع المغربي وترهله وسيطرة نخب مزيفة عليه وعلى ثقافته وسياسته
ومقدراته، ترصد ذلك من خلال انكسار خالد المناضل اليساري وعزلة طليقته الفنانة
التقدمية راحيل التي تبين انها ابنة الفنانة التشكيلية راشيل والفيلسوف عبد الله،
راشيل التي تنتحر وتختفي ابنتها راحيل في ملجأ للأطفال الأيتام ويتحول عبد الله
والد راحيل بعد فقدهما لبائع خبز صغير في بلدته وجدة، كذلك المفكر والكاتب عبد
العزيز الوجدي الذي يموت كمتسول منبوذ في وجدة كذلك صديقته وحبيبته رحمة، وتبرز
بالمقابل صورة رؤوف البشعة صورة اليساري الذي انقلب على رفاقه وأسلمهم للسلطات،
ركَّزت الرواية على هذه الشخصية البشعة بنزعتها الاستعراضية وخوائها وشهوانيتها،
والرواية مليئة بالتحليلات والرؤى الفلسفية لفهم هذا الانحدار الذي يعيشه المجتمع
المغربي والانسان المغربي وشكَّل هذا المحور محوراً مهماً من نقاشات وأجواء
الرواية، كان الحل في نظر خالد وراحيل هو الموسيقى والفن الذي سيحرك الناس ويشحذهم
بالحرية والرفض والمطالبة بحياتهم وحريتهم التي فقدوها أو التي سُلبت منهم.
سادساً: رواية كفى الزعبي «شمس بيضاء باردة» والتي تقترب بمناخاتها من رواية
«بأيِّ ذنبٍ رحلتْ» وإن كان تكنيك السرد بمستوييه الواقعي والأسطوري عند كفى
الزعبي أعطى لرواية «شمس بيضاء باردة» عمقاً أكبر ومجالاً أوسع في توظيف حركة
شخصياتها توظيفاً فنياً أعلى من الواقعية المعزولة عن التقاطعات الجمعية العليا
التي خلخلتها رواية كفى الزعبي ووضعتها على طاولة القراءة والبحث.
رواية «شمس بيضاء باردة» استندت لتكنيكٍ سرديٍّ جديدٍ قائمٍ على مستويين من السرد
لا يخلُّ أحدهما بالآخر ولا يتنافسان على احتلال مساحة السرد ولكنهما يتقاطعان
أولاً في القراءة الواقعية البحتة لواقع الإنسان الأردني وانهزامه أمام واقعٍ
مشوَّهٍ ومستَلَبٍ سياسياً واقتصادياً وثقافياً وإنسانياً، هذا الواقع
المشوَّه الذي يقود « راعي « الشخصية الرئيسية في الرواية لمصحةٍ عقلية في نهاية
الرواية، وثانياً هذا السرد الواقعي يتحرَّك سردياً في مستوى آخر أعلى من الواقع،
بل هو جدل الواقع مع القيم العليا وانكسار هذا الواقع أمام الأنا الجمعي الأعلى
وعدم قدرته على حمل مشروعٍ للخلاص، هذا الجدل بين مستويي السرد هو الذي أعطى
لهذه الرواية ميزتها باجتراحها سردين متوازيين قراءةً والمتطابقين واقعاً كسردٍ
متماسكٍ واحد.
الروايات العربية الست جميعها تتناول مناخاً واحداً مرتبطاً بالخراب الذي يشلُّ
المجتمعات العربية ويشلُّ الإنسان العربي ويقوده إما إلى الشتات والهجرة كما في
روايات هدى بركات وانعام كجة جي وشهلا العجيلي وإما للعزلة أو الانتحار كما في رواية
محمد المعزوز وإما للمصحة العقلية والانتحار كما في رواية كفى الزعبي وإما
للعبودية الصامتة كما في رواية عادل عصمت.
___
الدستور
إرسال تعليق