المرأة في النص الشعري: الواقع والخيال
تظلّ المرأة في الشعر العربي صورة مثالية
متخيّلة معلقة على سياج مشدود إلى الواقع مهما انبرى الشعراء إلى
تحميلها من فيوض التأويل، وارتداء القناع، والاختفاء خلف صورة هنا، أو
صورة هناك يتوارى في ظلالها الشعراء لحظة مواجهة ما، في سياق هذه الرؤية طرحنا
السؤالين الآتيين على نخبة من الشعراء: كيف ترى هذه الصورة من خلال تجربتك في النص
الشعري الغزلي المراوغ، وهل يستطيع هذا النص المرتبط بالوثيقة الوجدانية أن يتمحور
حول حزمة من التأويلات التي يسقطها الشعراء عليه، فكشفت الإجابات عن قوة حضور
المرأة "الواقع والخيال" في النص الشعري المراوغ، كما كشفت عن حضورها
العالي عندما يصاب الشعراء بيباس روحي واضمحلال عاطفي، وتالياً الصورة التي رسمها
الشعراء في هذا التحقيق.
عيسى: أنوثة القصيدة
يرى الشاعر د. راشد عيسى بأن
المرأة ما زالت وستظل في شعره أيقونة معادلة لمعنى الحياة، فمثلما يعيش في اللغة
يعيش في معنى المرأة، من حيث هي رمز حقيقي لأنوثة الوجود، فعبقرية الأنوثة أعظم
عبقريات التكوين على الأقل من حيث أن المرأة أم أو حبيبة، أنها تكمل ما نقص في
الرجل، والرجل يكمل ما نقص فيها، ويضيف أنه كلما كتب قصيدة في الحبّ خال نفسه
يتزوج امرأة جديدة.
ويقول صاحب ديوان
" حفيد الجن"، بأنه كثيراً ما يميل إلى أسطرة الحبيبة بالتخييل الشعري
العالي كي تليق بسماوات فؤاده، وأن أنوثة القصيدة تعادل أنوثة المرأة، فالشاعر
الذي لا يكتب في الحب كما يرى يصاب بيباس روحي واضمحلال عاطفي.
ويؤكد أنه إذا ما خلت المرأة من
حياة شاعر فإن نهر الحبّ لن يسقي نباتات الأحلام المؤجلة، ينبغي أن نحب كما يشير
بلا أسباب، ونكتب شعر الحب لتمتد أعمارنا، بلا شعر حب يصبح الشعراء سفناً معطوبة
في مرافئ الضجر.
من يعيدنا لصبانا سوى الحب والشعر، وما الذي يملأ نفوسنا بملاعب الطفولة إلا الحنين إلى الحبيبة الأولى، مع هذه الخلاصة يشير الشاعر د. عيسى، إلى أن الأيديولوجيا كاذبة، والحقائق الدنيوية أكاذيب، والعمر أكذوبة، مؤكداً أن الحبيبة وحدها هي الوهم اللذيذ الذي يشبه اليقين، وأن القصيدة والحبيبة أجمل سيدتين يموت فيهما ليتعلم فن الحياة.
العامري: مواصفات جمالية متقدّمة
يعتقد
الشاعر والتشكيلي محمد العامري بأن الشعر تجلى في الناقص من المنجز الشعري، فهو
ترميم وتضميد لجراحات ما " انشلع" من خاصرته في الميثولوجيا الدينية،
ولم يزل يركض خلف ذلك الذي قفز منه ليبحث عنه في سماء الكتابة وسحابها المتحرك،
فهي مطلق البحث عن موسيقى ما، أو قوس مشدود يبقيه على أهبة الصيد لفكرة ما هي
الأنثى، فقد تبقعت الأنثى بأقنعة مواربة وصريحة أيضاً كما لو أنها الماء الذي يروي
أرض القصيدة.
ويضيف تعددت صورها في النص
كصورة الوطن والأم والبيت والبلور والغيمة والشجرة والسهام، فما يدور حسب اعتقاده
هو محاولات لا تنتهي لاستعادتها، وهذا سرّ لا نهايات له، وصولاً إلى تمركزات
الالهات الأنثوية في التاريخ الإنساني، ويذكر العامري قول الراحل الكبير محمود
درويش " وليس لنا في الحنين يد، وفي البعد كان لنا ألف يد، سلام عليك، لا
أتذكر قلبي إلا إذا شقّه الحبّ نصفين أو جفّ من عطش الحب".
ويؤكد صاحب ديوان "
قميص الحديقة " أن العرب أنتجت مواصفات جمالية متقدمة في مثال
الجمال، فوصفوها بالبهنكة والعبهرة والكاعب والناهد وخرساء الخلاخيل وغيرها، وكذلك
قالوا في حسنها " الحُسن في العينين، والجمال في الأنف، والملاحة في
الفم".
ولا ننسى الوقوف على الأطلال
كما يقول العامري، واستذكار الحبيبة في الرحيل، واستحضار ذكرها وبعثها في فضاء
القصيدة، وذكرها في مشهد ارتحال الظعائن، كما يستحضر في ذهنه لحظات رحيل الأحبة.
ويخلص الشاعر العامري إلى أن
الأنثى هي متن في الواقع والخيال لا فكاك منه، منها ينطلق وهم القصيدة لتصبح بكاء
شفافا، وهي اللانهائيات، بدونها يجفّ أديم الشعر.
الحوراني: المرأة جزء من نسيج القصيدة
يرى الشاعر د. محمد الحوراني أن
المتتبع لمسيرة الشعر العربي عبر عصوره الأدبية المختلفة، بدءا من العصر الجاهلي
وصولا إلى الشعر العربي المعاصر، يجد أن المرأة تشغل حيزا موفورا لم يكن لغيرها في
فضاءات الشعر الممتدة، فهي حاضرة في قصائد شكلت موضوعها، والتحمت في معمارها،
وانطلقت ترصد حركاتها وسكناتها، لتصبح الكلمة جزءا من كينونة حية، ولتصبح المرأة
جزءا من نسيج القصيدة، سواء أكان ذلك عبر بوابة الغزل العذري أم عبر حدائق الغزل
الصريح.
ويؤكد بأن ذلك الحضور لم يقتصر
على نصوص الغزل المخصوصة، بل شكل الحضور الأنثوي مفاتيح الخطاب، فكانت الـ (هي)
تنبعث في قصائد ذات أغراض متباينة، مما يطرح تساؤلا كبيرا حول تجذر المرأة روحا
وجسدا وكيانا في حقول الروح الشاعرة، لتخرج في صورة ما عبر كل كلمة تصدر من أعماق
الروح المضمخة بفيض من أحاسيس الشاعر وعواطفه العميقة.
ويضيف رئيس قسم اللغة العربية
في جامعة العين للعلوم والتكنولوجيا في أبو ظبي، هكذا هي المرأة تملأ فضاءنا
الشعري منذ أوليات وجوده، فهي تطل علينا في المقدمة الطللية ، التي شكلت معمارا
باذخا في القصيدة الجاهلية ، وهي موجودة في السلم والحرب ، في البيت وفي الطرقات
وفي مفاوز الصحراء وجنبات الحدائق الغناء، وهي التي تأسر قلب الشاعر فيأتمر بأمرها
وتصطبغ عواطفه بإقبالها وصدها، وهي المرأة الواقع كما هب المرأة الخيال، وهي فضاء
عامر في مخيلة الشاعر يعبر من خلال اندغامها بوجدانه ليرى الأم والأخت والزوجة
والحبيبة ، والأخيرة هي الملمح الأبرز في نسيج شعرنا العربي.
ويشير صاحب ديوان " موتى
بلا سقوف"، وفي شعرنا العربي الحديث نجدها في شعر نزار قباني امتدادا لما جاد
به عمر بن أبي ربيعة ومن قبله امرئ القيس ، ونجدها في شعر إبراهيم ناجي امتدادا
لما جاد به جميل بن معمر، وفي غير ما خصص لها نجدها تنبعث من كل محركات الشعر
لتندغم بصورة الوطن والأمة، ونرى الوطن والأمة كذلك عبر صورتها.
ويخلص إلى أنه ما من شاعر تجرد من حضور الأنثى في شعره، بل ما من شاعر إلا كان للمرأة جزء مخصص من قصائده، مع التفاوت بين الشعراء، وعبر تجربتي الشعرية استحوذت الأنثى بصورها المختلفة على كثير من القصائد، ولا سيما في البدايات، ومن ثم انطلقت لتشكل مساحة واسعة في فضاءات القصائد عبر أقنعة وانزياحات تتماهى وطبيعة المرحلة، وتتحد مع صورة الوطن وبؤرة ثقافته.
البوريني: إنزال القصيدة منزلها
يقول
الشاعر حسن البوريني بداية وقبل الرّواح إلى عوالم التأويل وأكوانه العراض، يجب أن
يكون منطلقنا صاعدا من ثوابت لا تحتمل التأويل ولا تدانيه، فالقصيدة شعر، والشّعر
شعور، والشّعور ذاك الطّيف الخفيّ الجائل في سويداء الأنفس وكوامنها رغما، وهو
المصرّح له حكما بالطّرق على كلّ باب وفي كلّ يباب .
ويضيف ولما لإنسانيتنا من روادع
وموانع ذاتية وغيريّة فقد راح العديد من الشّعراء في قصيدة الغزل إلى مناحي
التأويل والتّحميل كعاصم يعصم المحبوبة، أو يحقن دم القصيدة ظنّا منهم
بأنّ التّواري في خندق الرّمزية والتأويل جنح للسّلم، الأمر الذي أخرج
ويخرج الكلمة عن مدلولها الحقيقي فيتوه الجمال على شواطئ التأويل وتغدو المشاعر
أكثر غرابة وغربة، ويرى بأن هذا التّحفّظ غير المحمود هو كما ذرّ الرّماد في عيون
النّص الشّعري ليمضي متخبطا في سبله وقد لا يبلغ فيها غايته المبتغاة .
ويؤكد صاحب ديوان "
جرار الدمع"، بأنه قد غاب عن بال الكثيرين من الشّعراء بأنّ القصيدة وثيقة
شاهدة على أشخاص وأزمنة وأمكنة وأحداث، ومن هذا المنطلق فما ضرّ الشّاعر لو أنزل
القصيدة منزلها وصان عليها منزلتها.
ويشدد على أنّ القصيدة
التي لا تصيب المرأة بوابلها هي قصيدة قاحلة، فكيف لنا أن ننكر على القارورة ما ضاع
منها من عبق وطيب، وكأننا نجزم بأن قصيدة الغزل قد غادرت أسرابها
وهاجرت من محرابها وهذا شأن لعمري خطير.
ولكي نغدو أكثر تمحيصا وأدقّ تشخيصا يقول الشاعر البوريني إنّ الحديث عن الجمال جمال وما من خطيئة قد تلحق بالشّاعر جرّاء هذا البوح، مؤكدا في ذات الأمر على مراعاة شرقيتنا التي نحيا وعقيدتنا التي نعيش وعذرية الهوى التي سادت، وأن لا نجعل من غزلية النّص غزلا نكبل فيه أجنحة من نحب ونهوى، وأن نحفظ على المحبوبة أمرها، وأن لا نذيع على الملا بجور سرّها، وأن لا نجعل من كينونة البيان وحسنه شأنا كاشفا وجرحا نازفا، ولتكن المحبوبة محبوبة يتجسد في طيفها كلّ ذي شأن عزيز، وتمشي في ركابها قوافل التّأويل لتلتقي في ربوة الإبداع .
إرسال تعليق