لَم يكن شاعراً فحسب، ولا شيخاً يُقري الضيف، أو فارساً تتنزّل عنده صيد الميادين، بل كان كل ذلك في شخصيةٍ عزّزتها بنيته الفكرية والشعرية والوطنية، ورؤاه التي تصفّحت ميراث الأجداد، وقوافل الزمن التي كان يستدرج حيواتها من إيقاعات الأمة، وينابيع الحكمة ومستقرّها.
"الدوقراني"،
إبراهيم عبد الرزاق الشلول الدوقراني، المولود سنة 1830م، نسبة
إلى بلدة دوقرة، البلدة التي تقع في الجهة الغربية من مدينة إربد، هكذا هوَ، لكن
القرية أصبحت حين تشمّست بالوقوف على المسمى اسماً دالاً ارتبطت به، فإذا ما لهج
شخص باسمها حتى يقال له: بلدة "الدوقراني"، هو ذلك، وإذا أضفنا إلى
المسمّى فروسية الشعر، فحالنا هو ما أوجعنا، وما تفتّق عن موانئ أجدادنا من أحداث
لها من البصائر ما سوف تكشفه القصائد.
قرن من الزمن تقريباً عاش الدوقراني، الذي رحل عن هذه الدنيا سنة 1927م، قرن تفتحت معه سنابل الحياة المشرفة على الوجدان الشعبي، فصاغه على " جرّات" صوت الربابة، وبمناجل الحصاد، فأكثر من تفكيك الجملة المحكية، ليقدمها على اتساع مرادها إلى حيوات الزمان والمكان والشخوص، فهو ابن الأرض الصلبة، فجاء صلباً، وابن الأرض المعطاءة، فاخضرّت جوانبه، وهو رفيق عصره، فأكثر من تبصّره للأشياء وصفاتها شعراً شعبياً خالداً، وهو شيخ عشيرته، و" شيخ الشعراء الشعبيين الأرادنة" كما عدّه الشاعر نايف أبو عبيد في كتابه " مختارات من الشعر الشعبي الأردني"، وهو ضابط إيقاع القصيدة المحكية الأردنية التي شهدت تطوّرا على يديه.
لَم تكن الحياة تتصيّده، بل ذهب لاصطياد ما فيها من جمال إنساني، وتفاصيل محبوسة في صدور أبنائها، هو شاهد على تحرّي الحياة فأكثر من مراوغتها، وهو شاهد على كثير من المعارك فصار لسانها، وشاهد على الكثير من مراوغات الناس، وراتقُ أحلامها بالوحدة والطمأنينة، وهو فكّاك الرباط عن تناحر أبناء العشائر، وقارئ أسرار الوشايات ومغلق جذوتها، وموقد عزيمة البصيرة في مواجهتها، كما حدث في المعركة التي دارت بين الفلاحين والبدو، إذ طلب شيوخ المنطقة الشمالية من الشاعر الدوقراني أن ينظم قصيدة ويبعثها إلى الشيخ حديثه الخريشة، وكان ذلك، وغيرها من القصائد التي كان يؤشّر من خلالها بوضوح على مناطق الخلل، ويصوغ مفرداتها الشعبية القريبة من الوجدان الجمعي باتجاه اللحمة بين أبناء الوطن.
قوّلَبَ الحدث السياسي، فصاغه راية تخفق في الأعالي، وأثّث الموقد الاجتماعي، فأتى على حكاية الناس ودواوينها، ومهّد البساط الحضاري، فأوصل الطيور إلى فضاءات التحليق عبر توسُّمه بالإشراقات التي تنهض لتسردّ عروقها، وانحاز إلى رموز عصره المؤثرة، فقادنا إلى تحرّي ديمومة المجالدة، وأطلَّ بنور بصيرته إلى موروثه، فجاءت قراءته من لدن ما يعايشه من تحوّلات، ووقف شامخاً أمام دوائر الزيف التي لا تتفق ووجدانه المملوء بالعروة العربية الوثقى، ونهض مع قصائده، تارةً كاشفاً، وتارة مؤرّخاً، وتارة متأمّلاً، فكان عين قصيدته، ومهوى تجلياته.
تلك هي حكاية " الدوقراني"، بين صفحات ديوانه الوحيد الموسوم ب " الشاعر الدوقراني"، الذي جمعه وحققه وأعدّه حفيده الشاعر أحمد الشلول، سنة 1985م، وعلى لسان من ينشد الوقائع كما هي، لا كما يراها المؤرّخ، لأنه ابن طينتها، ومرايا أجنّتها، وفارد أجنحتها، وعاشق تفاصيلها وأسرارها، حكايته التي نبتتْ في تربة القرن الماضي، القرن الذي حُرّفتْ فيه الجبال ونسفت، وعطشت الأرض وهمدت، وكشفت السماء واصفرّتْ، فأوجعه ما آلت إليه أوضاع العرب، إذ ذاك لم يجد " الدوقراني"، غير مسارب القصيدة فذهب إلى بحرها الصاخب، القريب من النفس التواقة للحرية، فعمّدهُ بتراتيل الحمولة التي رصدها في قيعان الصمت العربي، وأخرجها من كمونها وركودها، لينهض معها لصياغة الوجدان الشعبي، مسترشداً بموروثه الذي وقف عليه، وبذاكرته الوطنية التي أضاء لها مفكرته اليومية وهو يسير بمحمول قطاره على سكّة الأمل أينما حلّ أو ارتحل.
تزوّج الدوقراني ثلاث نساء، تمايل القلب معهنّ، بين فضاءين أملحين، الأوّل، ما يورده الزواج الذي تختاره العائلة أو العشيرة من مزالق، فكان لزاماً عليه احتساب الحياة كمرحلة أولى لتخطّي عقبات هذا الزواج وهو في بدايات العشرين من العمر، رغم ما فيه من ارتباط بالفروع والأصل، فأنجبت منه ذكورا وإناثاً، توفي معظمهم في المهد إلا ولداً وبنتان، جاء ذكرهم في قصائده وفق الحوار الذي أجراه الشاعر سمير قديسات مع حفيده أبي خالد " الدوقراني الحفيد"، ثمّ يتابع الحفيد في حواره، بأن الدوقراني تزوّج الثانية بعد وفاة زوجته الأولى، تزوّجها بإيقاع ذاتي له من ليونة الوجدان ما له، فأحبها، فأنجبت منه ولدين، وعندما بلغ الشيخوخة توفيت مهوى فؤاده، فتعلّق شعرهُ بحدائقها، وأفرد لها العديد من القصائد، وحاول أن يعيش على ذكرى الحنين الذي تغلغل في سويدائه، ولكنه عاد واعترف بالواقع، فتزوج من الثالثة، وهي أرملة، وأنجب منه ولداً وبنتاً.
لم يحظ بالتعليم وفق الحوار الذي أجراه الشاعر قديسات، فعاش أميّاً لا يعرف القراءة والكتابة، ولكنّ نبوغاً ما راوده في حلم الأربعين، فدنا وتدلّى من أشجار الشعر، فصبّ جذورها بماء حدوسه، وتمايل مع أغصانها خضرة وصفاء وبهاء بألوان ريشته اللفظية، إذ اسعفته طلاقة لسانه، وفصاحة لسانه، وعباءة مفرداته التي استقاها من عوالم الناس المختلفة والمتنوعة، فجاء شعره ارتجالياً واضح المعالم، سوي الاتجاه، ويانع المجرى،
كان ذلك موطئ قدم الشعر في حياته التي استهلها في الأربعين من العمر، فعزز ثقته بما وراء البيان، فتعددت سماته وملامح تجربته التي طافت الآفاق، حاملة معها حدثها، وسريان إيقاعها، ومحطّ أنظارها، ووفرة قاموسها، ومبعث أملها بالتغيير، فلم يكن الشعر في معطفه إلا وارفاً بالجمال، ومنقذاً للأرواح، ودافعاً بالحدث التاريخي إلى بلاط الزمن وأجياله، قبل تأسيس الدولة الأردنية، صاعداً مع مجريات أيامها، ونابضاً بشمولية أدواتها، فعدّل من سباتها، وأيقظ فيها حدوس الحياة، ونكش تربتها التي نستعيد بذرة تكوينها ونحن نقرأ ديوانه الوحيد.
الاستثناء الذي جاء متمّماً
لموهبة الشاعر الدوقراني، كان خاطفاً، ومبرقاً، وموغلاً في التجربة الحسيّة
والشعورية التي أسّست طريقاً لاخضرار قصائده الشعبية، الاستثناء الذي حفر عميقاً
في وجدان الكلمة وصفائها، وشكّل امتداداً لأجيال شعرية ضاربة في التاريخ، هو
قصيدته الوحيدة التي انعطفت إلى الشعر الفصيح في ديوانه الذي أتى ضارباً في اللسان
الشعبي للناس ومسالكهم، قصيدته " ثغر باسم" التي جاءت على بحر الكامل،
في ملمح يُبصرهُ القارىء لديوانه، يؤشّر بوضوح على كمال رؤيته الشعرية، وما كان
انحيازه للنمط الشعبي، إلا ليكون لسان حال أمّته وناطقاً باسمها، والتي يقول فيها:
" إنّ الهديّة من حبيبك تُرسلُ، عَبْرَ الثرى بفؤاده تتمثّلُ، يا من صدحتَ
بكلّ ثغر باسم، اليوم فيك جوارحي تتغزّلُ، ومشاعري وعواطفي جيّاشة، كرحًى تدور
بغلظة تتفاعلُ، إنّ الخمائل والجنان غصونها، عن صوتك الرّنان دوماً تسألُ"
إلى أن يقول: " عاد المغرّد للفدافد شادياً، والطير في وكناته يتبرألُ، حتى
انطوى ذاك الفصيح بمرقدٍ، ولسانه برسالةٍ يتبسملُ، ذكراه فيها خالد ومخلّدٌ، بين
البرايا طعمها يتنقّلُ، وبها تضمّخ نجله بأمانةٍ، من غير قرطاس بها يتأرغلُ، لولاه
لاندثر الأديب بشعره، بين الدياجر من تراث نجهلُ، من آل أحمد يُقتدى بلوائه،
أشبالُ هاشم للعروبة موئلُ".
أما التفاتتهُ إلى وقائع الناس ومصائرهم، وانصهاره في معيّتهم، وحضوره في عَصَب التشكيل ليكونوا أمّة واحدة، واقترابه من همومهم، وانشغاله بدرء المفسدة والفجوات، ومسايرته لكلّ شيء، يلاحظه القارىء لديوانه في قصيدته التي بعث بها للشيخ ناجي العزام لحلّ نزاع بين أهالي قريتين، وهي مثال من أمثلة عديدة تجلّتْ بها حدائق شعره، وفيها يقول: " جيتك يناجي مسير وعشمان، أعشم عليكو يا حماة الدخايل، داخل على مزيد بلحده والأكفان، وشلاش كساب الحمد والنفايل، والحاج راجي البيت زايره عشقان، من زار أحمد نال محير الفضايل، أرجو فزعتك يا شيخ، وتفكنا من قيل وقايل، يا شيخ طعموا بأرضي سليمان، اللي عليها ساقمين الحمايل، يا شيخنا المقبول يا وجه رحمان، دامت يمينك يا منصف الحمايل".
هكذا عاش، وهكذا تكلّم، وهكذا أنْصتَ له الناس والمكان، والمعاني صافات في دوال رؤيته وحكمته، وبين أبيات شعره ثمّة حياة لم يطأ أرضها مؤرّخٌ، ولا عاينها أنثروبولوجي، ولا اقترب من حِماها مقيمٌ أو عابر سبيل، هو حلقة من حلقات التراث الشعبي الذي نحتاج أن نزيل عنه غبار الأمس، ونقدمه إلى الأجيال لتكون على بيّنة وهدى من تاريخ أجدادها الذين حفروا عميقاً في تربة الوطن ليكون أعلى وأحلى.
إرسال تعليق