المثقف ذاته، يتصفح الأشياء التي يمرّ بها، فيلقي بها طرف العين إذا لم تنعكس صورتها في البؤبؤ المشتهى، ويتخذها خليلة إذا ما أنبتت حقول نرجس ومرايا اتكاء، لهذا يظنّ، وبعض الظنّ إثم، أن دولاب الحياة لا يتحرّك إلا وفق منشوره المشبع رعدا وقصفا، فتراه واعياً إذا ما التجأ إلى محيطه الذي يتخفّى في ثوب التملك، وتراه يغيب وعياً إذا ما أغلقت الأبواب، وسُدّت الطرق، تراه واعياً رغم ما يعتور ذاته من تخبط يدركه أقل الناس انتشاراً في متون الكتب، وتراه يغيب وعياً إذا لم تتصفحه حيوات الآخرين، هكذا هو، يتلمّس الوعي مرّة، ويقفز عن الوعي كثيراً.
المثقف في يومنا هذا تتبدّل الأحوال لديه، وفق مشيئة الاتجاهات التي يتبناها، فهو أكثر نصاعة إذا ما التفت إلى محيطه، وهو أكثر انغماسا بالملذات إذا ما تغلّبت الذات على المحيط، وهو أكثر انحباساً عن الذات والمحيط إذا ما أذعن إلى آليات السرد القادمة من توجّهات غير مرتبطة بالهوية، فهو إذ ذاك، وسيط ناقل، ولكنه جاهل بالإحالات التي يتكئ عليها هذا السرد.
من هذه الدائرة وتحولاتها، دائرة الإنصات إلى التشكيل الذي يفرزه المعطى الدلالي لحيوات الإنسان الذي لا يركن إلا لما يستطيع الإتيان عليه، تفسيراً وتأويلاً، يبرز دور المثقف الحقيقي، المثقف الذي انغمس بالأرض والإنسان، وتوجّه إلى الذود عنهما، دفاعاً وتضحية وإشراقاً، يبرز بمتنه القيادي، لا التابع، القيادي الذي يُخضع النصوص إلى نبعها، لا إلى مناخاتها التي تتبدّل وفق فصول المصلحة، القيادي الذي يتقدّم الفعل الإنساني بروحه، لا بنصه منعزلا عن حركة الحياة.
وضمن النتوءات التي تُخرج المثقف عن وعيه الانتمائي، تجتاحنا هذه الأيام، فكرة الصراع بين المثقفين، الفكرة التي دُبّرتْ بليل، فالمثقف، وفي مجال ما يقدمه من نصوص وتأويلات أمام حركة الزمن، نراه يتشظّى، لا هو قادر على تبنّي موقف ينسجم مع ذاته ومحيطه، ولا هو قادر على الانغماس بما يحدده النص من إشراقات تكمن في فطرته التي جُبِلَ عليها، فتراه، إمّا منعزلاً في خلوةٍ غير مبنية على عنصر المفاجأة، أو منساقاً وراء تهويمات ظنيّة تقوده إلى صراعات غير مبررة، وخاصة مع وسطه الثقافي، أو منزلقاً إلى غوايات النفس، باحثاً عن شهرة مزيّفة، أو حصة من كعكة الوجود.
يرى أحد المثقفين الذين استداروا إلى بيوتاتهم، بعد أن طفح الكيل كما يرى، أن الفعل الثقافي فعل مستنسخ، غير مبتكر، فعل يقود إلى ملل الروتين، فالساحة تعجُّ كما يرى بأنصاف المثقفين الذين يديرون العملية الثقافية بطريقة " copy "، فترى في أمسيات الفعل الثقافي على مستوى الوطن، أن الأشخاص الذين يعتلون المنابر هم أنفسهم الذين يديرون هذا الفعل، فيما ابتعد المثقف الحقيقي عن هذه الفعاليات، مضطرا للحفاظ على ما تبقى من إشراقات يخشى عليها من الضياع والالتباس.
ويؤكد آخر أن الساحة الثقافية قادرة على استيعاب هذه المتناقضات، شرط أن تخضع إلى فكرة المباينة والعزل، المباينة بين من يقف على إرث ثقافي يبرز من خلال نصوصه وأطروحاته، وبين من يبحث عن الدرجة الأولى في سلّم الفعل الثقافي، والعزل بين فكرة الأنماط الثقافية واتجاهاتها، والذهاب إلى تحديد مسار الفعل الثقافي بناء على ذلك، فلا يجوز كما يرى، أن تختلط الهوية الثقافية مع الهوية القارئة، فالأولى كما يبيّن، لها مسوّغاتها التي تؤشّر على عمق روح صاحبها، فيما تسير الثانية جنباً إلى جنب مع ما هو مطروح في متون الكتب، وعليه، يفرّق بين المثقف الواعي الذي لا يستند على جملة الثقافات إلا بعد تحليلها وفحصها والإضافة عليها، والمثقف الناقل الذي ينقل الصورة الكتابية كما هي في الكتب إلى صورة كلامية في محاضرة أو ندوة.
ويشير آخر إلى أنانية النخب الثقافية التي تحاول جاهدة أن تستحوذ على المشهد الثقافي، مستندة على أن الجيل الجديد في الفعل الثقافي، قادم من تغوّل مواقع التواصل الاجتماعي التي فتحت الباب على مصراعيه، مضيفاً، أن المبدع كما يرى يتدرج في تناول هويته الثقافية، ولا يولد وفي فمه ثقافة ناجزة، غير أن هذا التدرج كما يضيف، يحتاج إلى أن تتواصل الأجيال لتشكل فيما بينها قاعدة تقوم على " الإفادة"، وليس الطرد والحرمان.
ويقول أحد القائمين على الهيئات الثقافية، أن تكرار الأسماء في الأمسيات المختلفة ناتج على رفض الأسماء الإبداعية الناجزة المشاركة في الفعاليات، مبيناً أنه قام بدعوة الكثيرين إلى إحياء أمسيات وندوات، غير أنه جوبه بالرفض، لهذا، لا يستطيع كما يؤكد، أن تبقى الهيئات الثقافية بلا أنشطة تحت ضغط أن تستغني الهيئات الثقافية عن الجيل الصاعد كما يطلب بعض المبدعين، مقرّاً بأن بعض الأمسيات التي تقام تستفحل فيها الأخطاء اللغوية والبنائية على مستوى النص الأدبي، وهو ما دفع الكثيرين من أصحاب الإبداع أن ينسحبوا من المشهد، غير أن هذا كما يرى لا يشكّل سبباً منطقياً للانسحاب، فالأولى أن تتظافر الجهود، وأن لا تحتكر الثقافة والعلم، وأن تجلس الأجيال على طاولة النقد والمواجهة.
ويعزو أحد النقاد سبب انسحابه من المشهد الثقافي إلى حادثة يرى أنها شكلت له صدمة كبيرة، إذ حاول في إحدى الأمسيات الشبابية أن يلفت نظر المشاركين إلى الأخطاء التي وقعوا فيها، غير أنهم لم يصغوا لذلك، ولسان حالهم، أن هذا لا يؤثّر على الإبداع، وأن المهم في العمل الإبداعي، كما يزعمون، هو المحاولة للتعبير عن أنفسهم بغض النظر عن الأخطاء التي يقعون فيها.
اختلطت إذن الأسباب والمبررات، فالمثقف المبدع، يرى أن الحصول على الهوية التي تؤهل الشخص للصعود إلى المنبر الثقافي، أن يحوز على أدنى مقومات الفعل الإبداعي، وأن ينصت إلى النقد، وأن يتريّث قبل الصعود إلى المنبر، وأن لا يستعجل في طباعة مؤلفه الأول، وأن يدفع منذ طلقته الأولى بالمختلف من الإبداع، لا أن يكون ناسخاً ومقلّدا ومكرراً، فيما يرى بعض الشباب المتحمّس للصعود إلى المنبر، وطباعة الكتاب الأول، أن الساحة تتسع للجميع، وأن التجارب الأولى لا بدّ من وقوعها بذنب الخطأ، وأن الأجيال الناجزة والراسخة في عالم الإبداع، لا تريد إفساح المجال للمواهب الجديدة، وكأن الساحة فصّلت حكراً عليهم، وما بين رؤية المثقف المبدع والجيل الشاب تصاعدت ألسنة الغبار، واختفت معالم وملامح الهوية الثقافية الإبداعية، واعتزل الكثيرون، وتمرّد الكثيرون، وخفتت فكرة الأجيال الإبداعية، وتاه الجمهور الخاسر الأوحد.
وفي هذه القراءة التي تفحّصت صراع المثقفين على منابر التواصل، يمكن إحالتها أيضاً إلى جملة من الصراعات التي يقع في براثنها المثقف، من صراع اجتماعي وسياسي، وما يدور حولنا من صراعات بين طبقات المثقفين حول جملة من القضايا المصيرية، يظهر مدى التباس فكرة المثقف، المثقف الذي ينحاز لجملة التأويلات التي يظنها الأصوب، والتي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، بعيداً عن فكرة الهوية التي يجب أن تكون هي المُحرّك لكل تأويل أو تفسير أو نظر، وما خلافات المثقفين " سياسية أو اجتماعية أو ثقافية" التي نراها على صفحات التواصل الاجتماعي عنا ببعيد.
إرسال تعليق