-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

الاستعمار الاستيطاني في رواية "الحريق" / الناقد رائد محمد الحواري

 

 الاستعمار الاستيطاني في رواية "الحريق"

محمد ديب، ترجمة سامي الدروبي

   أحيانا أتساءل ما سبب موقف الجزائر والجزائريين الثابت من حقنا في فلسطين، وبعد البحث تأكد لي أن ما يجمع فلسطين والجزائر الألم/ الوجع/ الظلم الذي وقع عليهما، فهما القطريان الوحيدان في المنطقة العربية اللذان عاشا ويلات الاستعمار الاستيطاني الذي يسعى لسلب الأرض وإلغاء السكان، أو محوهم من الوجود، أو إذابتهم في كيان المستعمر.

   في رواية "الحريق" نجد طبيعة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، وكيف استولى على الأرض، وجعل الفلاحين الجزائريين مجرد عمال في أرضهم، كما نجد دور العملاء "قرة علي" ودوره كطابور خامس يعمل على تثبيت المستعمر فيه الجزائر، من خلال بث الأفكار الهدامة والقبول بالواقع، مستخدما الدين والوضع الاقتصادي والسياسي لإقناع المواطنين بما يطرحه من استسلام للاستعمار والقبول به.

   في المقابل نجد زوجته "ماما" تقف بوجهه مبدية حقائق عن الاستعمار مشيرا إلى ضرورة مقاومته، كما نجد الفتى "عمر" يقدم طرحا أخلاقيا لمقاومة الاستعمار، بعدم تثبيت فكرة أن العرب لصوصا يسرقون بساتين الفرنسيين، ونجد "معمر الهادي" الذي عمل على توضيح حجم الظلم الواقع على الفرح الجزائري وكيف أن المطالبة بالحقوق الوطنية والاقتصادية والسياسية مسألة قانونية ومنطقية، ولا بد منها لتحقيق العدالة.

الاستعمار الاستيطاني

   إذن الرواية تتحدث عن معسكرين، معسكر الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، ومعسكر الوطني الجزائري، وقد تناول السارد العديد من المظالم التي أوقعها المستعمر بالفلاح الجزائري، إن كان من خلال التفرقة العنصرية، أم من خلال قمع وتعذيب وقتل المقاومين، أم من خلال سلب الفلاحين أرضهم، وتحويلهم إلا عمال أجراء عند المستعمر.

يمهد السارد الظلم الذي وقع على الجزائري بهذا المشهد: "أطفال كأنهم الجراد من فرط هزالهم ونحولهم، أن ملابسهم لا تعدو أن تكون خرقا مجمعة، أما أقدامهم فتحميها نعال من جلود الشياه مربوطة بحبال من الحلفاء، وربما ركضوا حفاة بغير شيء في الأقدام أكثر الأحيان" ص8، هذه الصورة تعطينا شيئا عن واقع الجزائري في ظل الاستعمار الفرنسي، ونلاحظ أن السارد يركز على الناحية الطبقية، (متجاهلا/ مؤجلا) الناحية الوطنية في موضع آخر، وهذا الأمر يتوافق مع الحس الثوري الذي يسعى لجذب الفلاحين والمضطهدين إلى صفوف الثورة، فالسارد يبين للجزائري واقعه البائس، ومن ثمة ضرورة العمل على تغييره.

   ينقلنا السارد إلى خطوة أخرى يتناول فيها وطنية الجزائر من خلال هذا المقطع: "ذلك أن المستعمر المستوطن يرى أن عمل الفلاح من حقه تماما، بل أنه ليريد أن يكون الناس أنفسهم له" ص28، نلاحظ دقة السارد في تقريب الجزائريين من واقعهم، فهم يعيشون تحت نير مستعمر يسعى لسلبهم كل شيء، حياتهم وأرضهم: "ألوف الهكتارات من الأرض كانت تصير ملكا لمستوطن واحد من الفرنسيين، وهؤلاء المستوطنون جميعا سواء، لقد وصلوا إلى هذه البلاد بأحذية مثقوبة نعالها" ص31، التدريج في كشف حقيقة الاستعمار، يبين البعد الوطني للرواية، فالسارد يسعى لتثوير الجزائري، من خلال توضيح حقيقة ما يجري في وطنه، كاشفا سرقة الأرض التي يستولي عليها المستعمر ظلما وجورا وعدوانا.

   قلنا إن واقع الجزائر كواقع فلسطين تماما، حيث يقوم الاحتلال بالاستيلاء على الأرض، وتحديدا الجبال لتكون له قواعد/ قلاع دفاع إذا ما هُوجم، أو يضع أسوارا/ جدارا حوله: "وتحد نشاطه هذه الجبال نفسها، وتقوم أراضي المستوطن الفرنسي سورا من حوله لا مخرج له منه" ص40، هذا الواقع هو نفسه الذي يعيشه الفلسطيني، فغالبية الجبال أصبحت مستوطنات، إضافة إلى وجود جدار يفصلها عن المناطق الفلسطينية، وهناك جدار آخر يفصل الأراضي التي احتلت عام 67 عن تلك التي احتلت عام 48، وكأن الاحتلال إسرائيلي ينسخ/ ينقل ما قام به الاستعمار الفرنسي في الجزائر إلى فلسطين.

   بعد هذا العرض للواقع، يبدأ السارد من خلال "بن أيوب" في مخاطبة الجزائريين حاثا إياهم على ضرورة مواجهة الاستعمار، مستخدما أسلوبا أخلاقيا منطقيا ثوريا: "إذا تركتم أرضكم، فإن أولادكم، وأحفادكم، وأولاد أحفادكم، إلى آخر جيل من أجيال ذريتكم، سوف يحاسبونكم حسابا عسيرا، إذا تركتم أرضكم فلن تكونوا جديرين بالمستقبل

ألسنا كالأجانب في بلادنا، والله أنني أيها الجيران، لا أقول إلا ما أفكر فيه وأشعر به، كأننا نحن الأجانب، وكأن الأجانب هم أهل هذه البلاد، أنهم بعد أن ملكوا كل شيء، يريدون أن يملكونا نحن أيضا دفعة واحدة"...أنهم بعد أن استولوا على هذه الأرض، أرضنا، يخنقوننا خنقا...أيها الجيران، لأن تموتوا خير من أن تتنازلوا عن أرضكم، لأن تموتوا خير من أن تتركوا شبرا من هذه الأرض ص46و47، اللافت في هذا القول أنه يتوافق تماما مع واقع الفلسطيني الآن، وأكثر من هذا ، نجد في هذا القول واقعنا بعد أن أحاط مستوطني بنا من كافة الجهات، وأصبحنا نعيش في سجون كبيرة، وهذا ما يستدعي العمل عل مواجهة المحتل ومستوطنيه.

   ونلاحظ دقة السارد في طريقته في الخطاب، حيث يجمع بين الواقع وضرورة العمل على مواجهته، إن كان بالصمود والبقاء في الأرض، أم كان من خلال مواجهة المستعمر مباشرة، وهذا الحال حال الفلسطيني الذي يعمل على مواجهة المحتل بأكثر من طريقة وأكثر من شكل.

   أكبر معضلة يواجهها الوطني من الاستعمار الاستيطاني، الاستيلاء على الأرض، فالمستعمر يستولي على الأرض من خلال قوانين يضعها لخدمته فقط، متجاهلا حقوق أصحاب الأرض الحقيقيين: "لا يرث أحد أرضا عن أسلافه، وكذلك الأراضي المشاع ... ولكن كيف نلجأ إلى القانون، والقانون هو الذي يجردنا من أملاكنا؟" ص67، هذا هو واقع الفلسطيني في فلسطين، فالاحتلال يسلبه أرضه ويستولي عليها، ثم يدعوه إلى اللجوء إلى المحاكم لإعادة أرضه له، علما، بأن المستوطنون استولوا على أرضه بحجة وجود قانون يحميهم ويعطيهم الحق بالاستيلاء عليها، فأي لعبة هذه التي يلعبها الاحتلال!

   ولا يقتصر ظلم المستعمر على الفعل فقط، بل يطال النظرة العنصرية لجزائري، فالمستعمر ينظر إلى الجزائري على انه: "بأن الفلاحين ليسوا إلا حميرا، بل أنه ليس من المؤكد أن لهم أرواحا" ص63، هذا ما قاله "قرة علي" ربيب الاستعمار، وهذه النظر العنصرية هي عينها التي ينظر بها الصهاينة للفلسطينيين، وما قاله وزير الحرب في الكيان عن الفلسطينيين "حيوانات بشرية" إلا تأكيدا للموقف العنصري من كل ما هو فلسطيني.

   أما عن طريقة تعامل الاحتلال مع المقاوم الرافض للاحتلال: "وانهمرت الضربات عليه انهمار المطر، ترنح حميد، وانقذف إلى جانب...سقط على الأرض، تركهم يضربونه ولكنه حاول أن يحمي نفسه، حتى لا يجهزوا عليه...وكانت الضربات تدوي في رأسه، في جسمه، فستولى عليه خدر، أصبح لا يحس وجود أنفه" ص112، وبهذا يكشف السارد طبيعة الاحتلال، وطريقة تعامله مع الوطنيين.

   ويقول "الكومندار" عن الفرنسيين وما يفعلونه بالجزائريين: "ولكننا جميعا مجرمون يا ولدي، جميعنا، فهم يعاقبون بضعنا بالرصاص وبعضنا الآخر بالضرب أو السجن" ص147، نلاحظ تعدد أشكال القمع والبطش التي تمارس بحق الوطنيين، وهذا أيضا يمارسه الاحتلال الصهيوني في فلسطين.

   هذا بالسبة لقوات الاحتلال النظامية، أم عن المستوطنين وسلوكهم العدواني تجاه الجزائريين: "لقد ضرب الشباب شريف محمد بالدبوس في مزرعة ماركس، فنشج رأسه، وجرى الدم غزيرا على وجهه وثيابه...وقد شهر المستوطن الفرنسي ماركس مسدسه وحمال العمال على العمل" ص129، نلاحظ أن طريقة تعامل الاحتلال الفرنسي مع الجزائري تتطابق تماما مع طريقة تعامل الصهاينة مع الفلسطينيين، فهناك التسليح، والضرب، والإجبار على القيام بأعمال لا يريدها، حتى أن الفلسطيني يجبر على هدم منزله بيده.

استخدام الدين لخدمة المستعمر والطبقة المستغِلة

   نلاحظ أن السارد يمل للفكر الاشتراكي، فنجده يركز على العمل النقابي الجماعي، لهذا نجد غالبية شخصيات الرواية من الطبقة الفقيرة، وبما أن الدين جزء أساسي من المكون الثقافي للشعب الجزائري، فقد بين السارد من خلال شخصية "قرة علي" كيف يتم استخدام الدين لتطويع الناس وإخضاعهم للمستعمر، وقبولهم بالواقع البائس الذي يعيشونه: "شرح له قرة علي عندئذ أنه يرى أن كل فلاح يصل أسبابه بأسباب سلمان مسكين فهو عدو الحكومة وعدو الإسلام" ص75، وهذا الرأي يتماثل تماما مع رأي رجال الدين اليوم الذين يدعو الشعب للقبول بالواقع وعدم الخروج لنصرة فلسطين لأن ذلك يعد خروج على الحاكم، فالخروج عليه يعد معصية لله في نظرهم، وخروج على الإسلام نفسه!

شخصيات الرواية

   اللافت في الرواية أنها تناول شريحة واسعة من المجتمع الجزائري، الفلاح، الطفل، الشباب، الشيخ، الغني، الفقير، المناضل، الخائن، المرأة، الأم، الأرملة، حتى أن السارد سمح للخائن "قرة علي": التحدث بحرية في اكثر من موضع في الرواية، وهذا يحسب للرواية التي عرضت وجهة نظر الجميع وبحرية، وهذا يتيح للمتلقي إلا أن يختار بحرية المكان/ الشخص الذي يناسبه ليكون فيه معه.

   من هنا يمكننا القول إننا أمام رواية اجتماعية (واقعية) بعيدة عن التجييش المباشر، وتقديم الأفكار الجاهزة.

عنوان الرواية

   بما أن الرواية تتحدث عن الاستعمار الاستيطاني، فقد أوجب ذلك المقاومة، من هنا بعد إضراب الفلاحون الجزائريون عن العمل، يقوم المستوطنون بإشعال النيران بقرى الفلاحين، وجاء ذلك في الفصل 15: "سرعان ما امتلأت السماء القاتمة فوق الكروم بأضواء حمراء... لقد شب الحريق ولن ينطفئ، هذا الحريق في يوم من الأيام سيظل هذا الحريق يزحف في عماية، خفيا مستترا، ولن ينقطع لهيبه الدامي إلا بعد أن يفرق البلاد كلها بلألائه" ص134و135، فرغم أن ذكر العنوان جاء متأخر وفي الربع الأخير من الرواية، إلا انه ينسجم مع فكرتها، فكرة مقاومة الاستعمار الذي يحرق الأخضر واليابس، يحرق الرجال والنساء، الأطفال والشيوخ.

الرواية من منشورات دار الوحدة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1981.

 


إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016