بحذائِهِ المهترئ المُمزق الذي تظهر من شقوقِهِ أصابع قدميه، يمشي في السوق في يومٍ باردٍ ممطر، ينظر إلى أصابع قدميه التي أصابها الخدر من قسوة البرد. يطيل النظر إلى حذائِهِ، يخاطبه بصوتٍ خافت
: سأتخلص منك إيها اللعين، كم خذلتني في البرد! وكم تركتهم يسخرون مني أولئك الذين يتفاخرون بأحذيتهم اللّماعة،
سأرميك في حاوية القمامة كي أنساك إلى الأبد، سأشتري بديلاً لك ليكون أكثر رأفةً بقدمي.
كان حذائه يفغر فاه كمن يضحك وكأنه يقول
: كيف ستشتري بدلاً مني وأنا أكثر من يعرفك، انت بالكاد يمكنك أن تشتري طعاماً لعيالك، سأبقى معك شاهداً على ضعفك وقلة حيلتك.
:أه إيها اللعين، رافقتني من سنين وأنت تعرف كل ما حاولت أن أخفيه عن الناس، ولكنني سأخلعك، سأفعل كل ما بوسعي لأجل ذلك.
صمت الرجل، لكنه كان يسمع ضحك حذائه.
يرفعُ رأسَهُ بزاوية قليلة، ويمعن النظر في أقدامِ المارةِ في الطريق، فلا يرى السيقانَ والأجساد، لا يرى غير أحذيةٍ تتحرك، أحذيةٌ مختلفٌ ألوانُها؛ سوداء، بيضاء حمراء، بنية، أحذيةٌ كبيرة وصغيرة، كان حلمه أن يكونَ له حذاءً مثل أحذيةِ هؤلاء، حذاءٌ يحمي أصابع قدميه من البرد، حذاءٌ يسمح له أن يضع قدماً فوق الأخرى حين يجلس مع أصدقائِه، دون خجل من حذائِه المهترئ الذي لا يستر أصابع قدميه.
يفكر كيف يمكنه أن يشتري حذاءً جديداً، راتبه الضئيل لا يسعفه بذلك، فالراتب بالكاد يكفي لسداد أجرة البيت وشراء حاجات عياله التي لا غنى عنها.
صار الحذاء هاجسَهُ، يفكرُ كيف يمكن أَن يحصل عليه، حتى أَنه في لحظة تمنى لو أَن السماء تمطر أحذيةً على مقاس أقدام الحفاة، مرة واحدة في الشتاء.
ماذا سيفعل؟ أيقتصد في الطعام؟ فهو لا يشتري إلا الخبز والخضار فقط.. أيقتصد في الوقود؟ فهو لا يشعل المدفأة إلا ساعة واحدة في الصباح، وساعة في المساء ليوفر الدفء لأولاده عند مذاكرة دروسهم. فاتورة الكهرباء تأتي بأدنى حد، فهو يطفئ النور بعد أن ينتهي أولاده من مذاكرتهم وليس لديه تلفاز .
بعد تفكيرٍ عميق، قررَ أن يستغني عن تناول الخبز، حفاظاً على صحته من تغول السكر في دمه، امتنع عن تناول الخبز لمدة شهر فشعر بانتظام السكر في دمه ووفر القليل من النقود، قال لنفسه لن اشتري علاج السكر سأستعيض عنه بغلي أوراق الزيتون ونبات القريص الذي يملأ الساحات والأرصفة، وبذلك أوفر ثمن الحذاء.
واظب على ذلك لمدة شهرين، فوفر ما يمكنه من شراء الحذاء الذي يحلم به.
صار يمر أمام واجهات المحلات، يتفحص الأحذية لينتقي منها ما يناسب قدميه بقدر ما في جيبه من نقود، كان أصحاب المتاجر ينظرون إليه ويتفحصون حذاءه المهترئ ولا يعبأون به، فكيف لهذا الذي يرتدى حذاءً ممزق أن يشتري حذاءً جديداً.
أخيراً وجد ما يناسب قدميه أشتراه بعشرة دنانير، وعاد إلى البيت فرحاً، وصار يحدث نفسه:
صار لدي حذاءً يحمي قدمي من البرد!
الأن يمكنني أن أذهب إلى حفلة صديقي دون خجل من أحد، فلن يسخر أحدٌ مني بسبب حذائي بعد اليوم.
أستقبله أهل الحفل بحفاوة تليق بحذائه الجديد، في اليوم التالي ذهب إلي السوق بخطىً واثقة بحذائه الأسود اللماع، دخل ليصلي العصر في المسجد الكبير، أحس أن كل العيون تنظر إلى حذائه اللماع، رفع رأسه عالياً وشعر بثقة بالغة وهو يضع حذاءَهُ على رفِ الأحذية، صلى وشكر الله كثيراً على أن مكنه من شراء الحذاء الجديد.
خرج ليأخذ حذائَهُ، فتش عنه فلم يجده حيث وضعه، أنتظر حتى خرج آخر المصلون، رآه خادم المسجد فأشار إليه أن يذهب إلى سقف السيل حيث تباع الأحذية على الرصيف، خرج حافياً غير مبالٍ ببرودة الأسفلت ونظرات الناس الذين يحدقون بأقدامه الحافية، وبعد مسافةٍ قليلة شعرَ بوخزٍ في قدمه، تلمس باطن قدمه فوجد الدم يسيل منها، انتزع منها قطعه من الزجاج انغرست في باطن قدمه وأكمل سيره وهو يقول:
إنك لا تعرف قيمة الحذاء إلا إذا مشيت حافياً.
وصل إلى الرصيف الذي تصطف به الأحذية، أخد يتفحصها حذاءً حذاءً،
وجد ما يشبه حذاءَهُ الذي لم ينتعله إلا يوماً واحداً، تناوله وتفحصَه وفغرَ فاه:
يا ألهي هو ذاته الذي اشتريته بالأمس!
نظر إلى بائع الأحذية الموشوم بالأخضر في رقبته وفي كفيه، ساومه على حذائه المسروق واشتراه بثلاثة دنانير، انتعله وعاد بقدمه التي تسيل دماً إلى البيت.
وهو يلعن اللصوص الذين جرحوا قلبه والطريق الذي جرح قدمه.
انتعل حذاءَه غير آبهٍ بقدمه التي تسيل بالدم ومضى عائداً إلى البيت، يمشي في الشارع بغير وعي، عينه على حذائه الذي اشتراه مرتين، وعند الإشارة الضوئية صادفته سيارة وهو يعبر الطريق فطار في الهواء، تعلق حذاءه بالإشارة الضوئية وسقط هو على الأسفلت مضرجاً بالدماء،
مات صاحب الحذاء، وظلت روحه الحزينة تطوف بالمدينة وتلعن البرد واللصوص، وتبكي حفاة الشوارع.
إرسال تعليق