-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

عمان: تحولات المدينة في أمثلة من القصّة الأردنية / الناقد د. محمد عبيد الله



سجّلت القصة القصيرة جانبا حيويا من تحولات عمان، ولقد تحوّلت "القرية" إلى عاصمة للبلاد منذ بداية عهد الإمارة 1921، وسرعان ما حثت خطاها لتتعقّد علاقاتها وتتوسع مساحتها ويتضاعف تعداد سكانها وتنمو حياتها نموًا متسارعًا، وقد ولد المثل الشعبي "عِلْمَكْ بعمان قرية" ليعبّر عن إحساس الوجدان العام بسرعة انتقال عمان من مرحلة القرية إلى مرحلة المدينة.
ولعل من أقدم ما يمثّل تصويرًا للتحولات الاجتماعية والاقتصادية وامتداداتها الثقافية ما نجده في قصص محمود سيف الدين الإيراني (1912-1974) ومن بين قصصه العمّانية المميزة قصته: "سر في صورة"( )، التي قدّمت صورة عمّان في ظلال الحرب العالمية الثانية. تبدأ القصّة بإضاءة شاملة لحي "الأشرفية" الذي يحتل أحد جبال عمان القديمة. ونجد أنفسنا مع صورة حيوية متحركة نامية، فالحركة هي عنوان هذا الحي، حركة السوق والناس المتدافعين فيه، والسيارات المحملة بالبضائع، إلى جانب الوسائل التقليدية في النقل كالجمال والدواب التي اختلطت مع السيارات والعباد في مشهد ممتلئ بالحركة والنشاط.
وتكشف القصة عن تنوع المكون البشري في عمان، يظهر تنوع الناس من ملابسهم المتباينة التي تدل على هوياتهم وتعدّد أصولهم، (العباءة الضافية، العقال المرعز، الطربوش الأحمر، القلبق الشركسي..) فكل غطاء أو نوع يرتبط بجماعة أو مكوّن مختلف، فالقصة توثق هذه السيماء، وتوظفها في التعبير عن التنوع المتداخل في السوق الجديدة التي أدت إلى اختلاط الناس فمزجت الخيوط المتنوعة لتنسج منها تكوينًا سكانيًا جديدًا فريدًا.
وهذا المكوّن البشري المتنوع ثقافة ومنابت من ميزات عمان وعناصرها المبكرة، فهي منذ نشأتها قامت على تنوع السكان، ولعل هذا التنوع هو ما سرّع انتقالها إلى الحياة المدينية دون عقبات أو قهر أو إكراه لأنماط سابقة لم تنضج أو تكتمل. لقد نشأت لتكون مدينة عامرة متنوعة متعددة، وسرّعت الأحداث التي تأثرت بها على إحداث هذا التحول، مع أن التحول قلما يخلو من إكراهات للأنماط الثقافية تسرع انتقالها واستجابتها للأحوال الجديدة.

عمان منتصف القرن: أغنياء وفقراء

اعتنى إلياس فركوح (1948-2021) بعمان مدينة ومكانًا، وتكشف قصة "أيوب يا أيوب"( ) عن صورة عمان في حدود عام 1948 عام النكبة، أما المكونات البشرية ففي خيوطها تنوّع: أيوب البدوي الذي ألجأه الفقر والحاجة إلى التحول إلى المدينة فعمل عند تاجر شامي (أبو بندر). وابنه حمد المريض يعمل في بيع الجرائد ولم تزل لكنته شبه بدوية لم تتحوّل بعد. هناك فئة أغنياء وهناك فقراء، الفقراء ضمنهم أيوب وأسرته، وهناك فلاحات يبعن الخضار وما زلن يرتدين ثيابًا مطرزة من أيام البلاد التي ضاعت، قدمن من بيت دجن وبيت جبرين وغيرهما بعد هزيمة النكبة. هناك أغنياء: التاجر الشامي الذي يبخس أيوب الأجر ولا يكاد يدفع له شيئا يعالج به ابنه رغم صعوبة العمل ومشقّته. هناك غني بيت جبرين الذي لم يتأثر بالحرب، وقد شغّل فلاحة قريته لتعمل في التنظيف مقابل أجر زهيد. والتقسيم وفق رؤية القصة تقسيم طبقي، قد يكون منبعه رؤية الكاتب وموقفه، ولكنه يدلنا أيضا على طبيعة الروابط والمواجهات في المدينة، استنادا إلى الموقع الطبقي، وليس إلى صلة القرابة كما هو الحال في المجتمعات الريفية أو الزراعية.
وتوظّف القصة سيل عمان وفيضانه في شتاء ذلك العام، وأثر ذلك على فقراء المدينة من لاجئين ومن بدو تركوا مراعيهم لعل المدينة تفتح ذراعيها بأمل ما. إنها صورة لمعركة فقراء عمان مع سيلها أيام كان فيها سيل يندفع فيه الماء شتاء ويقوى حتى يغدو لعنة على ساكني الغرف الفقيرة، ولكن الأغنياء لا يتأثرون به فلا غني بيت جبرين ولا أبو بندر التاجر الشامي تأثر بالسيل. فقط حمد في كوابيسه وهذيانه المريض وأيوب يغالب خوفه من السيل وخوفه على ابنه.

عمان في السبعينيات والثمانينيات: مقارنات وتحولات جديدة

قصص عدي مدانات (1938-2016) من تلك القصص القريبة من روح المدينة بأسلوب واقعي، تتفاعل معها من مسافة قريبة أليفة، وتقدم لنا صورًا من تحولات المدينة وتوسعها في حقبة السبعينيات والثمانينيات، ومن أبرز تلك القصص التي تقارن بين عهدين أو مرحلتين، القصة المعنونة بـ "هروب"( ) وهي تصوّر عودة بطلها (د.يوسف السليمي) إلى عمّان بعد أن اغترب عنها سنوات طويلة. أمامه عمان الجديدة وفي ذاكرته ووجدانه عمان القديمة، مدينة طفولته وبيته الأول.
عمان القديمة –وفق القصة- تتميز بالألفة والحميمية والتواصل، والارتباط بها يجمع ذلك كله من خلال الحنين والمشاعر التي تلقى على المكان، أما عمان الجديدة فمحايدة أو غير مختلطة بالمشاعر والتجربة، أقرب إلى مدينة منفعة واستعمال، وليست مدينة تواصل أو عيش أليف. لقد نشأت بشكل سريع نتيجة وفرة المال، والمشهد الأساسي في هذا التطور أن المباني تنشأ أولاً ثم يأتي سكّانها الذين لا يعرف بعضهم بعضًا، خصوصًا بعد انتشار بناء العمارات الضخمة التي تعتمد نظام "الشقق السكنية" التي تتجاور فيها عائلات متباينة، وهذه الصورة تبدو مغايرة للتكوين السكاني المتنوع الذي شكل طفولة عمان وبداياتها، فقد كان السكن مرتبطًا بالقرابة، فلكل جماعة قرابية موقع أو "حارة"، على نحو ما هو شائع في البيئات القروية. ولكن ذلك لم يستمر طويلا فما أسرع ما اختلط الناس في "القرية" التي غدت مدينة كبيرة.

الشميساني: مثال من الأحياء الجديدة

تضيء لنا قصة الكاتب خليل السواحري (1942-2006) المعنونة بـ "قاعة الدوريات" المكتوبة عام 1997 صورة أخرى من تحولات عمان وبروز أحيائها الجديدة، حيث تقدم بأسلوب يكاد يتماهى مع أسلوب السيرة الذاتية جوانب من سيرة الراوي والمكان (حي الشميساني). وعلى نحو ما هو مألوف في السيرة الذاتية يسمي الكاتب الشوارع والمعالم الأساسية في الحي بأسمائها، وتتراجع مساحة التخييل المرتبطة بفن القصة لصالح مساحة الواقع المرتبطة بالسيرة. بهذا الإيقاع القريب من المكان تسير القصة، ولا تخبئ رغبة الكاتب بل تلذذه في استذكار طريقه من البيت إلى مكتبة شومان، في موقعها القديم في قلب حي الشميساني. يعيد الكاتب رسم معالم الطريق على الورق كأنه يرسم خريطته الخاصة للأماكن التي اعتادها في مرحلة من حياته، ومن عرف خليل السواحري –رحمه الله- يدرك أنه هنا يقص جانبا فعليا من سيرته مع مدينته وحيه.
تسمي القصة معالم حي الشمساني ومطاعمه ومقاهيه، وهو حي المقاهي والمطاعم في عمان قبل أن تظهر أحياء جديدة وتسرق أضواءه ومقاهيه. وتلتفت القصة إلى نشأة الحي الجديد الذي كاد يغدو قديما في سنوات قليلة نظرا لسرعة تطورات عمان وحركتها الدائبة، ومع الالتفات إلى بدايات تشكل الحي تستعيد القصة في ذاكرتها مرحلة أقدم من عمان هي مرحلة وسط البلد أو قاع المدينة كما غدا اسمه بعد اتساع المدينة وظهور أحيائها الجديدة.
أما في القسم الآخر من القصة فيلح الراوي على عدة أمور: فهناك سرعة تحولات عمان التي لا تكاد تتوقف، وهو إلحاح تشترك فيه معظم القصص العمانية، وهناك مبدأ المقارنة بين الحاضر والماضي أو بين مرحلتين أو أكثر من مراحل تطور عمان، وقد تكررت المقارنة في غير قصة مما مر بنا، وكأن فكرة التغير والتحول تثير مخاوف الكتاب، وتدفعهم لتسجيل معالم الأمكنة التي لا تتركها التغيرات الواقعية على حالها، وهناك أمر آخر يتمثل في تسمية الشوارع والأماكن بأسمائها الشعبية المتعارف عليها بين الناس، وفي كثير من الأحيان لا يأخذ الناس التسميات الرسمية مأخذ الجد، بل قد يدفعهم ذلك إلى الإصرار على الاسم المتفق عليه شعبيا في مواجهة الاسم المستحدث "الرسمي" لأن مسألة التسمية في جوهرها مسألة ثقافية وليست مسألة رسمية تقررها الجهات المسؤولة وحدها.

الأحياء العشوائية:

ونصل مع قصة "الحب في المزبلة" لنبيل عبد الكريم (مواليد 1969) إلى حضور الأماكن العشوائية التي نشأت حول المدينة، ثم مع مرور الزمن صار لها حياتها الخاصة العجيبة. وظاهرة الأماكن العشوائية موجودة في معظم المدن فعلى هوامشها تنشأ حياة غير رسمية وغير منظمة لا تلبث أن تتعقّد مع كثرة الناس وظهور أجيال جديدة في المكان نفسه، قد يكون ذلك في المقابر أو مكبات النفايات والمزابل وما أشبه ذلك، وكثيرا ما تفتش الكتابة السردية في هذه الأماكن عن مبتغاها أكثر من الأماكن البارزة أو المعروفة. فالحياة الهامشية حياة غنية لها محتواها الثر الفريد. بهذا المعنى صورت قصة (الحب في المزبلة) قطاعا هامشيا قلما يصوّر من حياة عمان وما حولها.
الشاب بطل القصة من جيران "مكب النفايات"، أي من سكان الحي العشوائي المجاور لمكب النفايات، وتضعه القصة في موقف قد يحصل مع أي شباب من شباب عصرنا، لقد واعد حبيبته بعيدا عن البيوت ليختلي بها، ونظرا لعمله أو وظيفته في أحد المختبرات، فقد ابتدع فكرة استخدام كمّامتين للتخلص من رائحة المكبّ.
وتكمل القصة صورة التجمع السكاني العشوائي في منطقة مكب النفايات: "هم تجمع سكني كبير، بيوتهم عشوائية، الشوارع بينها غير مستقيمة، مبنية من اللبن الأجرد غير المطلي، على سطحها تنتصب أعمدة خراسانية تبرز من قممها عيدان حديدية صدئة. ترى فوقها أيضا أسلاك غسيل رخوة وهوائيات تلفزيون وأفق ضبابي بلون التراب، عالق أبدا، مثل قبة صلبة، فوق المنطقة بأكملها، إنها باختصار بيوت بشعة مشوهة لكنها بالتأكيد مبنية بحب وصبر شديدين، عاجزين، مملين"( ).
إنه الهامش المنسي، والمكان المخصص لنفايات الآخرين، فلكي تكون بعض الأماكن نظيفة لا بد أن تتسخ أماكن أخرى. وأما سكان هذا التجمع ومنهم هذا الشاب صاحب الكمامة فهم لم يجدوا فرصة للعيش في مكان أبعد أو أنظف، لفظتهم الأماكن النظيفة فجاوروا المكبّ لأن لا أحد يرغب في مجاورته. ومما يفعّل السخرية في القصة أن الشاب يبدو متعلما فهو يعمل في مختبر ويستخدم الكمامات كإجراء صحي وعلمي، ولكن الجديد نقله هذا الإجراء ليستعين به في تجربته العاطفية والاختلاء بحبيبته قريبا من الحي الذي يسكنه. ولكن الكمامة التي ستعالج الرائحة من جانب ستمنع أية فرصة لتبادل قبلة طائشة بين عاشقين. انتهت القصة بانهيار الفتاة فقد كادت تختنق بكمامتها في إيحاء دال على الحب المخنوق الذي يغالب مناخ مكب النفايات، ولكن ليس له حظ في هذا المكان العشوائي الذي لم يوجد أو يتأسس للعيش أو للحب.
لا تخفى السخرية المتكتمة في هذه القصة لتكشف عن المفارقات في عمان، وعن انعكاس الواقع الاجتماعي على نفسيات البشر وأحوالهم، وعن جحيم مكب النفايات وانقلاب حياة جيرانه، فأي حب يمكن أن يعيش هنا؟! وإذا نفينا الحب فقد اختل الإنسان وانفجرت المشكلات المتوقعة وغير المتوقعة.

مقارنة بين حيين وشارعين: الجاردنز وجبل الحسين

تقدّم قصة هشام البستاني (مواليد 1975) "الملل يسكن في شارع الجاردنز" مقارنة بين شارعين ومكانين، شارع (الجاردنز) وجبل الحسين، في وعي للعلاقة بين الإنسان وأمكنته. وتعتمد القصة على تسجيل انطباعات الراوي وتحليلاته لطبيعة الشارعين والحيين المرتبطين بهما: "لا ينقص شارع الجاردنز سوى الحياة: الحياة كسوق، كحارة، لا الحياة كشارع. فهو في هذه الأخيرة أكثر من متميز، تمر عبر نقطة ثابتة فيه، وفي أقل الأوقات ازدحامًا أكثر من 178 سيارة في الدقيقة (في الاتجاهين حسبها في إحدى نوبات ملله الكثيرة) لكنه فقط مجرد شارع لا أكثر، معبر للسيارات المسرعة..."( ). وتفكر القصة في أصل تسمية الشارع وما توحي به من البساتين والمزارع التي اختفت مع شق الشارع وتحوله إلى شارع تجاري فظهر السوق قبل الحي. أما الصورة المقابلة فصورة جبل الحسين: "في جبل الحسين ظهر التجمع السكاني أولا، ومن ثم تبعه الشارع التجاري الذي يخدم هذا التجمع، فنشأت هذه الرابطة الحميمة بين الحي وأهله، وبين هذا الوليد الجديد الشرعي لهم. أما شارع الجاردنز فهو سوق لقيط، لا أهل له، نشأ قبل أن ينشأ الحي الذي يحيط به، فلم يأبه له أحد، ولم يرتبط به أحد، بل ظل دائما: الطريق إلى البيت لا البيت نفسه"( ). هكذا إذن: التطور في جبل الحسين من الحي إلى السوق تطور شرعي وطبيعي، أما الجارنز فـ "سوق لقيط" بحسب تعبير الكاتب، نشأ السوق قبل السكان، في صورة معكوسة، لكنها تكشف لنا -بصرف النظر عن رضا القصة عنها- إحدى صور تطورات عمان وتغيرات أحيائها وأسواقها.
وختاما: فقد واكبت القصة القصيرة مسيرة مدينة عمان من مختلف نواحيها البشرية والاجتماعية والعمرانية والاقتصادية، وقدمت لنا لقطات متتابعة يمكن أن تشكل تاريخاً سردياً للمدينة التي تطوّرت من قرية صغيرة نشأت حول سيل عمان، واستقر فيها بعض المهاجرين حول الماء إلى مدينة كبيرة معقدة، يحتاج فهمها إلى دراسات متنوعة، وحسبنا هنا أننا حاولنا استكشاف جانب من صورتها في نماذج دالة من القصة القصيرة الأردنية.

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016