-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

الأديب ضاري الغضبان في ... سبع قصص قصيرة جدًا

 
 

الطبشور

لم يعلم لماذا تُرك في علبتهِ المُلوّنة، ولم تمسه يدٌّ! كانتْ آخر ذكرياته قبل عقد من السنين؛ حين أمسك به الشاب، ومرَّره على لوح الخشب المطلي بالأسود، وأكمل الكتابة به معادلة حسابية، من يومها لم يتذكره أحد، ولم يُحدّد السبب؛ لأنه لا يرَ كل الاتجاهات من قعر العلبة.
إلا أن عملية تنظيف واسعة النطاق من سيّدة أنيقة أخرجته من القعر، وتطلعت به وقالت:
ـ طبشور! هذا ما كنا ندوّن به قبل سنين خلت...
ثم حملته بيدها؛ فأحسَّ بالدفء حتّى دخلت غرفة نوم عُرسان جُدد؛ فشاهد الشاب وقد أصبح رجلاً، عرفه الطبشور بينما الشاب لم يتذكره؛ حين عرضته العروس الأنيقة أمامه، غير أنها ركنته في علبة جديدة أنيقة، آنذاك أحس بالطمأنينة بجانب علب أصباغ الزينة وجواهر عديدة، براقة وثمينة.
يقطين

سعدتُ بخبر افتتاح مطعم وسط المدينة يقدم مرق اليقطين، فقصدته مسرعاً، وأنا استرجع سبب طلاق زوجتي التي تكره هذا النوع من المرق، حيث كانت تصر على عدم طبخه، وتقسم أن رائحة اليقطين؛ تسبب لها الإعياء، بينما أنا أعشقه، وكان أغرب طلاق؛ بسبب نوع طبق يُقدم على مائدة...
وجدت المطعم مزدحماً، وكنت أدور باحثاُ عن مقعد شاغر حين لاحظت الجميع يتلذذ بمرق اليقطين، فشتمت طليقتي في سرّي، وشاركت عائلة على طاولة واحدة؛ لعدم وجود كرسي فارغ، وكانوا يتلذذون بنفس طبقي المُفضَّل.
ودون ما أحدّد الطلب وجدت أمامي صحن مرق اليقطين، ونهشته بشغف وطلبت المزيد، فلبوا طلبي بكرم... وحين توجهت للتعبير عن إعجابي بالطبخ ودفع مبلغ الطعام، صُدمْتُ؛ لأني اكتشفت أن طليقتي هي مالك المطعم.
سن الغجرية

كانت من أهم مُّمتلكاتي، تلك التي فقدتها الغجرية الراقصة في حفلة عرس عمي، ولم تجدها، على الرغم من توقفها عن الرقص والبحث مع فصيل الغجر على ضوء أكثر من فانوس؛ غير أني بكرتُ صباحاً لموقع الحفلة بعد أن ذهب راقصو الغجر وتوقفت فاصلة رقص عماتي ـ أخوات العريس ـ احتفاءً بخرقة بيضاء موشومة بالدم أخرجت من مخدع العروسين...
لم أشغل رأسي بتلك الرقصات لكنّي رقصتُ طرباً لامتلاكي السن الذهبية، وأخفيت الأمر على أهلي ومن ثَمةَ عائلتي بعد زوجي، غيرَ أنَّ المُختلف؛ مقدرة السن على النطق، وأصبحت تكلمني وأكلمها منذ تقاعدي وجلوسي وحيداً في البيت، كانت تسليني وتشعرني برغبتها الملحة بالرجوع لفم الغجرية المُبتسم! حاولت أن أحقق أملها إلا أني لم أجد سبيلاً لتلك الغجرية...
لكني والسن والذهبية وجدنا الغجرية في موقع منشور في (اليوتبوب)، حيث كانت ترقص أمام مطربة تردد ( الـهـَﭼَـع) وحين طلبت مساعدة ناشري الفيس بوك عن معرفة موقع وجود الراقصة؛ تبين بأنها متوفية، ومن يومها توقفت السن عن الكلام، فعرفت بأن لها روحاً لحقت الغجرية إلى عالم آخر.
وصار لزاماً عليَّ دفن السن الذهبية، فاستعلمت عن مدفن الغجرية، وحملت سنها لموقع يسمى سابقاً (بحي الطرب)، وحين وصلت وجدته مهجوراً إلا من بعض الطيور التي تحلق والشجيرات التي تقاوم الجفاف، غير أني سمعت غناء يشبه النواح وعلى هدى الصوت؛ وجدتُ قبراً تحفه ورود يابسة، بيد أنها تحتفظ بعطرها، فدفنت السن هناك؛ فتوقف الغناء النوحي.
اِنتحار

وصلتْ حافة النهر حيث اعتاد المنتحرون على إلقاء أنفسهم في لجة العمق، فلا مجال للحياة ورسالة المختبر الطبي تؤكد بأنها حامل، يا للعار! فشروع ابن الجيران باغتصابها عنوة نتج عنه هذا الشنار، وحين أبلغته بخبر حملها؛ تملص، واتهمها بالكذب وسوء الأدب، كانت تلتفت لتودع المدينة بنظرة أخيرة قبل رمي جسدها، غير أن هاتفها رن بنغمة رسالة، قرّرت أن تطلع عليها كآخر رسالة في الحياة...
لكنّها كانت رسالة فارقة، فمختبر التحليلات يعتذر، ويؤكد اختلاط النماذج وأنها غير حامل! يا للفرح، قرّرت الرجوع؛ كي تبصق بوجه ابن الجيران، غير أن البصقة لم تتم؛ لأن الشرطة اعتقلت الشاب المُتهور؛ لحيازة وتعاطي المُخدرات.
المِشكاة

تتخذُ من رفٍ في ركنِ غرفة الضيوف في بيتنا العتيق مكاناً لها، تلك المشكاة الزجاجية ذات المسند المعدني الحاضن لمرآة تقابل فتيل الزيت، والتي لم تُستخدم منذ عقود، وورثها أبي عن جدي، وقيل بأن جدي ورثها عن أبيه، كل أفراد الأسرة يعاملونها بتبجيل عالٍ، والصغار يحاذرون التقرب منها.
لم يجرؤ أحد من الساكنين على مسحها، ولكن قُبيل العيد؛ أحسَّست بأن الغبار يعلوها، فصعدت على منضدة؛ ورفعتها برفق وحذر، ثم نزلت، وهممت بتنظيف حوضها الزجاجي ومسندها المعدني، فبديا بلون برّاق مُدهش، غير أني حين طالعت وجهي عبر مرآة المشكاة؛ وجدته مشوهاً، فقررت نزع المرآة على نية تبديلها...
ومع رفعها؛ ظهرت ورقة ملفوفة خلفها مكتوب فيها:
ــ من الجيد أنك تذكرت المشكاة، نظفها جيداً وأعد صياغة العبارة بورقة جديدة؛ للذاكر الّلاحق.
مصطبة
قدرها ساقها كي تكون مرتكزاً لراحة المتنزهين، تعلم بأنها ليست طريّة ولا ناعمة عند الجلوس عليها، فلوح الخشب السميك هو كل ما توافر للعواجز والأرداف، السمينة منها والهزيلة، غير أن مفارقات تحدث فوقها وتنال عقابيلها روائح تصدر بصمت بتواجد الكم، وبصوت فارق؛ عند جلوس منفرد، ما يقرف المصطبة تكرار تلك الروائح المقززة، حتى أنها تفرح حين يقل الجالسون؛ كي تتنفس براحة.
إلا أن للرواد من العاشقين مُتعة سماع الهمس والخفر، فكم من مصارحة حب حدثت بدعوى أن لا أحد يسمع غير الحبيب، بيد أن مصطبة الخشب القاعدة على ركائز حديد تسمع، وقد تشعر كونها مطرحاً حين يضطجع بعضهم بإغفاءة عابرة وسط الحديقة في ظل شجرة وارفة.
عاشت سنين عدداً واحتملت الحر والمطر غير أن المصير الحتمي وصل حين قلعتْ ورُفعت مع مثيلاتها من المصطبات؛ عند تجديد وتحديث جاء على حين غرة، لكن وجودها مع خشب التحطيب صدمها، وتحسرت على أنسنتها مع البشر لأعوام خلت، لذلك قاومت الحرق حين أضرمت النار بها مع غيرها، حينها صُدِمَ الإنسان الحارق؛ لأن جسد المصطبة الخشبي لا يحترق، بل يصدر تأوهات وشكوى جعلت الفاعل يهرب بذعر ويبتعد إلى غير رجعة.
باب

منذ وفاة جاري وباب بيتهم يأبى الغلق! استعانوا بالنجارين ومُصلِّحي الأقفال دون نتيجة، ثم استعلموا من مختصي الباراسيكولوجي، لكن لم يجدوا سبيلاً لجعل الباب تُوصد، واضطروا للاستعانة بالسحرة، والذين حضروا مع طقوس غريبة وأغرقوا الباب بالدخان والروائح الزنخة، ولا أمل بجعل الباب يُغلق من جديد...
انتشر الخبر وحضر الفضوليون من سُكّان المدينة والمناطق القريبة، وجميعهم تأكدوا من استحالة غلق الباب وأصبحت القضية شهيرة حتى أصبح الباب مزاراً يتدفق نحوه كثيرون للاطلاع على الباب المفتوح دائماً...
استغلت الأمر أرملة المرحوم جاري، وأصبحت تشترط نقوداً مقابل الاطلاع على شكل الباب المفتوح عنوة، ومع أول تسلم للنقود؛ غلقت الباب ولم تفتح... حتى أخرجت الأرملة من الشباك ممزقة الملابس.

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016