باعة الوهم وترف الرّداءة / الشاعر د. محمد مقدادي
ثمّة، في حياة الكائن البشريّ، ما يمكن شراءه والاستئثار به، وبوسع كل من أراد الوصول إليه أن يمتلكه بأبسط السّبل وبأقل التكاليف الممكنة، وثمّة أشياء نفيسة ينفِقُ الباحث عنها والرّاغب في امتلاكها وقتاً طويلاً وجُهداً مضنياً وثمناً باهظاً، للوصول إلى مبتغاه، الذي ببلوغه يكون سعيداً أيّما سعادة، في الوقت الذي يبدو هذا الإنجاز في نظر البعض لا يساوي قيمة ما دفع صاحبُهُ من أجله، ولا يعوِّضهُ شيئاً ممّا خسره في سبيله.
هنا تتمايز الشحصيات البشرية، بتمايز غاياتها وأسبابها، فثمّة أدوات نبيلة لا يمتلكها غير أناس نبلاء، يستخدمونها لتحقيق أهداف نبيلة، تضع المرء في المكانة التي تليق بغاياته ووسائله، في الوقت الذي تتوافر المجتمعات على سيول بشريّةٍ من أولئك القادرين على ممارسة الرداءة واقتناء مكوِّناتها، مِمَّن يمتازون بامتلاكهم قدرات خارقة، للصعود هبوطاً بالتحليق نحو الهاوية، فهم صنوفٌ بشريّة تنجذب تلقائيّاً لكل ما هو سفليٌّ، ويعقدون سلاماً " نفسانيّاً " دافئاً مع كلّ ما هو مُتَسفِّلٌ وتحتيّ، ويستخدمون أدوات ليس بوسع القلّة المرابطة على حافّة جرحها استخدامها، لأن هذه القلَّة معبّأةٌ بمحمولات إيمانية، ومكتنزةٌ برصيد أخلاقيّ ومعرفيّ يحول بينها وبين مغريات " حاضرٍ " مزركشٍ بالأكاذيب والخزعبلات العابرة، و"مستقبلٍ" يتزيّا للنّظارة، بكل ما من شأنه أن يأخذ الألباب المُسطّحة، ويُميتُ الضمائر الهشّة.
هكذا، يهندسون الجهل، ويعمّقون التخلّف، ويحرّفون الكَلِمَ عن مواضعه، ببيع الوهم وترويج أكاذيب النجاحات الزائفة
المالكون لأسباب "المجد الرّخيص" يبلغونه بأسبابهم، ويجدون ما يبرِّرها ويجيز استخدامها على أوسع نطاق، من غير رادع أخلاقيّ أو صحوة مرتدّةٍ لضمير، إذ أن هناك ثمّة حقيقةً غائبة ليس بوسعهم إدراكها، لأنهم لا يملكون تلك الحواس الانسانية الرفيعة التي تمكِّنهم من استشعارها، تلك الحقيقة، هي الحق...والحقّ هو الاستقامة...والاستقامة هي حاجز الصّدّ الذي يمنع النفس من تجاوز المعنى ...والمعنى هو مادّة البحث التي لا غنى للبشريّة عن سبر أغوارها، والبقاء على طريقها، لأن غياب المعنى يعني: أن يصبح المعنى ضالّة المؤمنين به، الذين يُجهِدون أرواحهم كي يعيدوا المعادلة الانسانية إلى جادّة الحق، للوصول إلى الحقيقة الغائبة، والقبضِ عليها، وإخراجِها من دياجير الظلام الذي يُلبِسُها من حلَلِهِ الوثيرة، ويُغدِقُ عليها من زخارفِهِ وأُعطياتِه، ويصادر منها النّور والنّبض، ويسدِلُ عليها ستائرَ ضلالِهِ، ويُلزِمُها أن تظلَّ قابعةً في زوايا العتم والسّكون، حيث يعشِّشُ الموتُ والخراب.
الذين لا تعنيهم الحقيقة، يواصلون طمس المعنى، ويحاربون كلّ مَن جَدّ واجتهد في إماطة اللِّثام عنه، لأن حضور المعنى، يعني كساداً لتجارتهم الرّائجة، وانحساراً لظلّ ضلالاتهم التي يحاولون الإبقاء على مجتمعاتهم غارقة في مستنقعاتها المترامية.
حضورُ المعنى، يعني حضورَ الرسالة الإنسانية بكامل إشعاعها، وتوهُّجِ جمرتها وانفتاح الآفاق الانسانية لتنظر فيما وراء المرئيّ، وتكتشفَ المغزى الذي من أجلهِ يخوض الحق معاركه الطاحنة من غير انقطاع.
لم يكن أبونا "آدمُ" ضالاًّ، لكن الشيطان أضلّه، حين خلا به ووسوس له، وأرشده للذهاب إلى حيث لا يجب أن يكون، فكان عليه أن يهبط من علياءِ جنّةٍ قطوفها دانية،لا يسمع فيها لاغية، إلى أرضٍ فيها من الشقاء ما تنوء به السلالة التي كُتب عليها، أن تَكِدَّ وتكدح وتتصارع على مقتنيات زائلةٍ، بحثاً عن المعنى، أو تجاهُلاً له.
أصبح على هذه الأرض، لكل كائنٍ معناه، ولم يصل إلى المعنى الجوهري سوى نفر حملت أرواحُهم شيئاً منه، وأشغلوا نفوسَهم العالية واجتهدوا في البحث عن وسائلٍ توصلُهم إليه، لاستكمال الرحلة التي تأخذ بأيديهم إلى زيتونة لا شرقيّةٍ ولا غربيّة، والمقصود هنا، أن الحقيقة لا تقبل القسمة إلا على نفسها، يكادُ زيتُها يضيءُ ولو لم تمسَسْه نار، ذلك نور الله الذي ينيرُ دروبَ الباحثين عن معرفة المعنى الأشمل والأعمق والأغنى.
لقد وسوس الشيطان لآدمَ، وباعهُ شيئاً من وهم الخلود. الشيطان باع "معنىً" ليس بين يديه، وليس بوسعه امتلاكه والتصرّف به، و "آدمُ" اشترى "وهمَ المعنى"، هذه الصفقةُ، أودت به للخروج من رحمة خالقه، قبل أن يتلقّى منه كلماتٍ ويتوبَ عليه,
هبط " المُشتري " ومعه "الوهمُ الذي اشتراه"، وأبقانا، نحن معشر السلالة، على جادَّتين:
جادة الرِّضا بالجهالة في غياب المعنى، وجادة الشقاء بحثاً عن المعنى، واستحضاراً للحقيقة الغائبة.
ولا يستحضرُ المعنى، إلاّ العارفون، وأولئك هم الضمائر الشَّقيّة على هذه الأرض. هذا القول، وإن بدا أنه يحمل في ثناياه الكثير من الإشفاق عليهم، إلاّ أنه يحمل إقراراً لدورهم في إعادة المعنى إلى المكانة التي تليق بمقامه وعِزَّته، فهم يُبصرون كثيراً ممّا لا يُبصَرُ، ويَعُون مالا يَعيه الذين أناخوا رواحلهم واستسلموا لعدميّة الفراغ الذي اتّسعت رقعتُه، فبات العارفون، من الغرباء، وأصبح الشقاء سِمَةً مرافقةً لهم حيثما يحلُّون ويرتحلون.
فالمعرفة حينما لا تكون محصنةً، في بيئةٍ معافاةٍ تنضح بالوعي المتسائل وترعاه، وتعمِّق الحاجة له، وتهيِّءُ الأسبابَ لبلوغ غاياته، تصبح عبئاً ثقيلاً ينوءُ بحمله المتشبِّثون بأردانها لتحقيق النّجاة من "عَيشٍ قطيعيٍّ" ، يمارسه أغلب الناس، ويستمرؤونه، ويدفعون من أجلهِ، ويدافعون عن بقائهِ.
المعرفة مسؤولية يدركُها العارفُ، فيتحمَّلُ تبعات اختياراته ورؤاه، ويدفعُ من حياته ثمناً للنجاة من قيود الجهالة المهيمنة على شرائح مجتمعية واسعة، يراها " العارف" وهي تبحث بشكل محموم كل يومٍ، عن هاوية جديدة تأوي إليها, لكنه، مع ذلك، لا يتولّى مهمة البحث عن المعرفة فحسب،بل يعمل على تعميمها، وإشاعة أبجديّاتها بين المنخرطين في نمط " العيش القطيعي " السائد.
"العارفُ"، يعلم " أن العقل مناطُ التكليف " وأن المرء لا يحاسَبُ إلا على قدر ما امتلك من إدراكٍ وقدرةٍ على التفكُّر والتفكير، لكن "العارفَ"، اختار أن يسلك الدروب الأكثر وعورةً لبلوغ ضالّته.
إنه يدفع الضريبة تلو الأخرى، أمام طرفين يُكِنّانِ له الكراهية والعداء، الأول منهما: مجتمع رافضٍ للمعرفة ومعادٍ لها، والطرف الثاني: أنظمة سياسية حاكمة ترى في "العارفين" أنداداً لها، وأضداداً لمشاريعها التسلّطيّة.
يحاول العارفون أن يفتحوا عيون العامّة على ما لا ترى ممّا غُيِّبَ عنها أو حُجِبَ واحتجَب، ويعملون على منح القلوب فرصة الانشغال بما لا يتفكَّر به الناس، أو يلتفتون إليه. فهم يَخِزونَ الأجسادَ المتراخية البلهاء، في محاولة لإحياءِ الضمائر التي أصابها الخدَرُ والموات، ويجاهدون لإخراج الناس من سديم الجهل وعدميته، إلى أنوار المعرفة التي تعيدهم إلى معاقل إنسانيَّتهم الغائبة.
الذين يبيعون الوهم، في عالمنا العربي المعاصر، لا يملّون الحديث عمّا ألحقه بالأمةِ أعداؤها المناهضون لوحدتها وتقدمها، والممعنون –بلا شكّ- في تمزيقها ومصادرة أحلام أجيالها، ومثل هذه الأقاويل التي لا يكف أكثر الناس عن ترديدها كخطاب يومي يتبارى الجميع، حابلاً ونابلاً، على إعادة صياغته لتأدية الوظيفة المُبتغاة، رسميّاً وشعبيّاً، ولكٍل غايتُه، فالرسميُّ السياسيّ، مهتمٌّ باستمرار ترديد هذه الاسطوانة المشروخة، وتعميق الإحساس الشعبي بمحتواها الماضويّ، حيث يرى في ذلك توجيهاً للرأي العام، وإشغالاً للمجتمع عن كثير من حقائق علّتِهِ وأسباب معاناتهِ المزمنة، مما يجعل أصحابَ العِلّة يبصمون على صكوك البراءة والغفران للأنطمة من بطشها واستبدادها بهم، ويبرّرون لها تقصيرها وعجزها، وتقاعسها عن الاضطلاع بدورها في بناء المجتمع، والارتقاء به معرفياً وإنسانيّاً على نحو تصان به كرامةُ الناس وتُحترم إرادتُهم وحريّاتهم التي تعتبر حجر الزاوية في كل مسيرة تسعى للنهوض بالمجتمع وتنميته.
مثل هذا الخطاب المسترسل الممجوج، فيه دغدغةٌ للعامّة، وإثارة " غرائزية " لمشاعرهم، وتأجيجٌ مَرَضِيٌّ لحماستهم، بغية الثأر من ذلك "الآخر"، الذي نعرف أنه لا يُكِنّ لشعوبنا غير الكراهية والعداء، ولا يتعامل معها إلا من منظوره الاستكباري بكل محمولاته من الاستعلاء والازدراء والتعصُّب العرقيّ الأعمى.
لكن، مالا يجب أن يغيب عن أذهان العارفين، أن أغلب الأنظمة السياسية ترتبط ارتباطاً وظيفيّاً بالمستعمر القديم، الذي رحل ظاهرياً عن جغرافية البلاد، وتجمعها به علاقات استراتيجية عميقة المغزى والطموح، ومع ذلك فإنها تبيع سلعتها من الوهم، ويُقبِل العامّةُ على تداولِها من غير معاينة أو تدقيق، ويدفعون من حريتهم وأحلامهم ثمناً غير قابلٍ للاسترداد.
أما الذين يحملون عقلاً نقديّاً، ويبحثون عن الحقيقة للإمساك بكل جوانبها، لا يكتفون بالحديث عمّا ألحقه الآخرون بمجتمعاتهم من الدمار، بل يذهبون لسرد ما ألحقته الشعوبُ بنفسها من الأذى والخراب، وما ترتّب على ذلك من إدامةٍ للجهلِ والتخلُّفِ والاستتباع، ويواجهون –بسبب هذه المعتقدات- حملاتٍ محمومةٍ من الإدانة والتشويه والاستقواء والملاحقة.
إن من يطرح الأسئلةَ الفارقة، المُستغرقة في البحث عن المعنى، ومن ينتهج أسلوبَ التفكيك للواقع المعيش، بغية إعادة التأسيس والبناء، يمثِّلُ عنصراً غير مرغوب فيه، ولا مُرَحَّبٍ بحضوره.
يقول عالم الاجتماع والمؤرّخ الفرنسي"غوستاف لوبون"، في كتابه "سيكولوجية الجماهير": (من يستطيع إيهام الجماهير يصبح سيداً لها) وفي المقابل فإن من يحاول إزالة الغشاوة عن عيونهم يصبح ضحية لهم، ولِمَا يعشِّشُ في جماجمهم من الأوهام المزمنة.
إن الحرية السياسية، وحقوقَ الإنسان التي يبيع الغرب الرأسمالي وَهمَ بريقِها،هي حريةٌ مقنّنةٌ، وحقوقٌ مؤطّرةٌ إلى درجة أن لا أحد يمكنه الخروجُ على طاعة من يحددون أُطُرَها وسقوفها ومُستحقيها من الأعراق البشرية المصطفاة، فهي، في أفضل حالاتها، تَمنح عامة الناس كوّةً صغيرةً من الضوء يجعلهم يعتقدون أنهم نالوا حريتهم الكاملة، بما فيها حرية المشاركة في اتخاذ القرار السياسي، الذي يتمظهر في انتخاب المجالس النيابية التي يفترض أنها تحمل هموم الناخبين وآمالهم، وتمارس دور الرقابة والتشريع، لكن هذه الانتخابات غالباً ما تخضع للمزاج الشعبي الذي يتقاطع مع مصالح النظام السياسي ورؤيته للكيفية التي يجب أن تدار عليها البلاد.
وهنا أستحضر ما قالته الكاتبة والناشطة السياسية "إيما جولدمان" (لو أن الانتخابات والتصويت غيّر شيئاً لجعلوه جريمة).
ولدينا في عالمنا العربي العديد من الشواهد الحية على مصادرة الإرادة الشعبية، في فلسطين ومصر والجزائر، حيث وقف الغرب "الديمقراطي" وأتباعه المحلّيون، ضدّ نتائجها، وعمل على إجهاض مشاريعها التي كان بالإمكان البناء عليه، والدخول الآمن لمرحلة تؤسس لحالة ديمقراطية تمكّن الناس من التعبير عن ضمائرهم وتطلّعاتهم، لكن القوى المتحكِّمة لم ترق لها هذه "الأعراس"، لأنها أفرزت من لا يرغبون به من رموز التيارات السياسية التي اعتقد الغرب بأنها غير قادرة على بلوغ ما بلغته من خلال حاضنتها الشعبية المتنامية.
إن بيع الوهم ومحاربة الحقيقة والمعنى، يقودان إلى كَيٍّ متواصلٍ لوعي الجماهير، وتزييفٍ مُكتملٍ للمعنى، حيث تعمَد الأنظمة كما يقول " غوستاف لوبون " إلى: (دسّ أقلام وأصوات مأجورة في صميم القاعدة الجماهيرية، وخلق وعي كاذب هدفه التخدير، خوفاً من تمرّد –لا قدّر الله – يقلب موازين اللعبة على رؤوس أصحابها).
عندئذ يصبح القائد منزّها عن الخطأ ومصاناً من المساءلة، ويصير خطابه مقدساً، ومقامُه سامياً، ويحتلُّ مكانة قريبةً من الله، وتصبحُ طاعتُه طريقاً يقود المُذعنين إلى نعيمي الدنيا والآخرة.
هكذا، يهندسون الجهل، ويعمّقون التخلّف، ويحرّفون الكَلِمَ عن مواضعه، ببيع الوهم وترويج أكاذيب النجاحات الزائفة، بينما يظلُّ العارفون للحقيقة، والباحثون عن أصالة المعنى، أعداءً لأكذوبة الإنجاز وأوهام النهضة.
بوركت وبورك قلمك الحر دكتور ابو كاعف
ردحذفعندما يحمل المبدع هم أمته
ردحذفتوصيف لمسؤولية المثقف