-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية
  • جديد الموقع
  • جاري التحميل ...
  • جديد الموقع
  • الأم في كتاب - مدللة، أنا فقير وبدي أصير/ الناقد رائد محمد الحواري

     

    الأم في كتاب

    "مدللة، أنا فقير وبدي أصير"

    أبو علاء منصور

    من فضائل العصر علينا سهولة التعرف على المنجزات الأدبية، بكافة أجناسها وأنواعها، وتعريفنا بأن هناك العديد من الأشخاص يتشاركون معنا في نظرتهم للأم، وحتى في تفاصيل الحياة والمكان، في كتاب "مدللة، فقيرة وبدي أصير" يستعيد "أبو علاء منصور" حضور أمه ويحدثنا عن أثرها عليه رغم أن مرور عقود على فاتها، والجميل في هذا التقديم، إحساس القارئ وكأن الكاتب يتحدث عن أمه هو، وهذا بحد ذاته يحسب للكاتب الذي استطاع أن يثير مشاعرنا من جديد بعد أن بردت في زحمة الواقع وهيمنة المادة.

    فكتاب "مدللة" يقربنا مما فقدناه من حنان/حب/عاطفة الأم ويعيدنا إلى طفولتنا التي ننتشي بها، خاصة عندما نستعيد ما نحتاجه من حب وحنان، وهذا ما يميز الكتاب، تفجير القارئ عاطفيا، وتحديدا تجاه الأم الحاضرة والمشعة بالحب، فنجدها من أول صفحة في الكتاب وحتى خاتمته.

    حكمة الأم

    الكاتب يتوقف عن أمه في أكثر من حالة، فيقدم حكمتها وقدرتها على استنباط دروس وحكم من الحياة: "الذاكرة الأليمة مقبرة صاحبها، تحول دون استمتاعه بالحاضر ... مرض الذاكرة أشد فتكا من مرض الجسد" ص14، اللافت في هذا القول تجاوزه لحال الأم، ليشمل كل فلسطيني، وكل إنسان ظلمته الحياة والناس.

    وتقول عن أهمية ودور العمل: "الفراغ مفسدة، الماء يفسد حين يتوقف عن الجريان" ص31، هذا القول يمثل خلاصة تجربة الإنسان في الحياة، فمن يفعل/يتحرك يبقى حيا ويتطور، وهذا يتوافق مع ما قاله ماركس: على أن العمل هو من (أوجد الإنسان) وما كان ليكون هناك بشر دون العمل، فالعمل أساس الحياة وعمادها، ومن يقعد/يترقب يموت ويمسي جثة حية، من هنا نجد السجناء يعملون/يشتغلون في أي شيء، حتى لو في (صف الخرز) المهم أن لا يبقوا بلا عمل.

    ومن حمكها "الموت يخشى الأقوياء" ص44، قالت هذا القول وهي تعاني من المرض، فأرادت أن تعلم أبنها القوة لينتصر على المرض، على الضعف، على الواقع، وعلى الموت.

    الأم والتعليم

    رغم أن "المدللة" أمية، إلا أنها كانت أحرص من الأب على تعليم ابنها، وكانت تشجعه على تكملة تعليمه من خلال تبسيط وتسهيل تأمين مصاريف الدراسة: "اسأل كم تكلف الدراسة الجامعية في مصر وسورية والعراق في السنة الأولى أبيع "حريقة جمعة" وفي السنة الثانية أبيع "شعب الحجة" لا تهمل هم المصاري، بس بدي تنجح ويقولوا ابن مدللة" ص28، وهذا مؤشر على تساع وعي "الأم" ومعرفتها بأهمية التعليم الذي سيكون مفتاح الخلاص لابنها ولأسرتها، إذا ما حصل على الشهادة الجامعية.

    حرام/لحاف الأم

    تناول كل من عصمت منصور في روايته "سجن السجن" وهاشم غرابية في روايته "القط الذي علمني الطيران" حرام الأم الذي يدفئ ماديا وروحيا، وها هو "أبو علاء منصور" يتحدث عن هذا الدفيء الثنائي: "وجدت نفسي ألتحف فراش أمي، وأنام على سريرها الحديدي، كنت وأنا ألثم لحافها أشعر أنني أناجيها وأتلذذ بعطر رائحتها وأقبل وجنتيها" ص40، وهذا ما يجعل العديد من الأدباء يتلاقون في الفكرة المتعلقة بالأم، رغم عدم تلاقيهم جسديا أو معرفيا، لكن أثر الأم جعلهم يستخدمون عين الفكرة، وهذا يعود إلى قوة حضور الأم وطبيعتها المعطاءة.

    حنان الأم وعاطفتها

    أما عن حنان الأم وكيف كانت تداري عاطفتها تجاه ابناها المغترب: "كنت اجد سلوتي في الجلوس تحت الصنوبر التي غرستها بيديك وأنت في الابتدائي، كنت أحتضن جذعها فيغمرني شعور أنني أعانقك، فتنهمر دموعي غزيرة بالبكاء، كنت أبرد حرارة قلبي الملتهبة" ص46، مشهد يشير إلى أن أم كاتبه فنانة، تحسن التعبير عما فيها من مشاعر وأحاسيس، وهذا ما يجعلها مبدعة، فهي تتعامل بنقاء وصفاء ودون أي شوائب، لهذا جاء كلامها ناصعا/مؤثرا/حميما.

    حدس الأم الوطني

    لم يقتصر اهتمام الأم على الأبناء فحسب، بل طال أيضا الآخرين، من يعملون لتحرير فلسطين وشعبها: "ألا تذكرين جوابك لي حين سألتك وأنا صبي عن سبب وضعك الدلو على "خرزة البئر؟" يومها أجبتني: ربما يمر فدائي أرهقه الظمأ أو عابر سبيل، أليس فيما قلته دعوة مضمرة كي أقتدي بالفدائي؟" ص47، تذكر الكاتب لهذا الموقف يحمل إشارة إلى دور الأم في انخراطه لمقاومة الاحتلال، وما عملية بنك لؤمي التي خطط لها ونفذها بنجاح إلا ناتج عن كلام الأم ورؤيتها للفدائي، الفدائي المخلص الذي سيزيل عنها وعن أسرتها وشعبها بؤس التشرد وشر الاحتلال.

    الأم وبناء الأسرة

    يتناول الكاتب دور الأم في بناء الأسرة والمحافظة على وحدتها وتكاملها وتعاونها في نجاح أفرادها، ينقل لنا شهادة نقلها عن أخيه "جمال" وكيف كانت تخاطبه أثناء دراسة "أبو العلاء" في العراق: "دير بالك على مصاريك يا جمال، نحن بحاجة لكل قرش لإرساله لأخيك محمد في العراق" ص49، اللافت في هذا الخطاب وجود إشارة إلى تكامل وتعاون أفراد العائلة فيما بينهم، فنجاح أحدهم يعني نجاح البقية، ومثل هذه العقلة هي ما جعلت الأسرة الفلسطينية أسرة متعاونة فيما بنها ومتصلة.

    الأم الأسيرة

    بمعية الحديث عن "مدللة" تحدث الكاتب عن الأم الأسيرة، وحجم التضحية التي تقدمها، والمعاناة التي تصيبها وتصيب أسرتها: "تحررت من السجن بعد أحد عشرة عاما اعتقال، كان بيتنا مهدوما وأولادي عند أمي، لحظات قاسية شعرت فيها أنني مضطربة بين كوني أما أم زوجة، تغلبت عاطفة الأمومة على مشاعر الزوجة فاختارت أن تكون أما.

    ...أكاد أتخيل صراعا مريرا نشب في داخل كليهما بين كبت نفسي وآخر جنسي، فتغلب النفسي على الجنسي...يا لفداحة الأثمان التي يدفعها الأسير والأسيرة وزوجة الأسير وزوج الأسيرة وأطفالهما!! طوبى لبقائهم بشرا أسوياء" ص13، توقف الكاتب عند هذه الحالة يأتي من باب الإشارة إلى معاناة الأسرى والأسيرات داخل سجون الاحتلال، وأيضا من باب تذكير القارئ بأن هناك ناس/بشر ما زالوا يعالنوا في السجون الاحتلال.

    الفلسطيني وفلسطين

    على ارض الواقع هناك أكثر من حاجز/جدار/قوانين/إجراءات تقسيم وتفتت فلسطين والفلسطيني، فهناك الضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس، والداخل، وكل جهة لا تستطيع التواصل مع الأخرى، فالمسألة الفلسطينية متعلقة بوجود الاحتلال: يرسم لنا الكاتب واقع فلسطين والفلسطيني في ظل الاحتلال بقوله: "في الداخل كل شيء إسرائيلي عدا الأرض وأصحابها الأصليين، وفي الضفة كل شيء فلسطيني عدا المستوطنات والاحتلال" ص82، هذا هو واقع فلسطين في ظل وجود احتلال استيطاني عنصري.

    طريقة عرض الكتاب

    الكاتب يروي (نصف الكتاب) بلغته هو وبطريقته، لهذا وجدنا الحميمة فيما قاله عن أمه "مدللة" حنى أن دموع القارئ تنهمر أثناء حديثه عنها، لكن عندما نقل ما قاله الأخرون عنها، وهذا يشكل النصف الثاني من الكتاب، وجدناه كلام (عادي) ليس فيه روح ولا أحاسيس، وهذا يؤكد أن الكتابة ليس مجرد (كلام يكتب) فقط، بل لا بد من وجود مشاعر/عاطفة/ يحس بها القارئ، ليتفاعل ويتأثر بالكلام المكتوب.

    الكتاب من منشورات جسور للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ودار الرعاة للدراسات والنشر، رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى 2023.


    إرسال تعليق

    التعليقات



    جميع الحقوق محفوظة

    العهدة الثقافية

    2016