-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية
  • recent .
  • جاري التحميل ...
  • recent .
  • الناقد الحواري يعاين: الهدوء والقسوة في - ولي لغتي

     

    الهدوء والقسوة في "ولي لغتي"
    للشاعر جمال قاسم
    بقلم الناقد رائد محمد الحواري


    "ولي لغة أستعينُ بأحرفِها

    لغة من رحيقٍ ونارْ

    لائذٌ بتاريخها

    لغة من حفيف ملائكة

    وحريقِ يدين تغسلتا بالأوارْ

    حين تجتاحُني لهفةٌ

    أستعيرُ الندى

    وإذا هبت الريحُ

    أُبقي اليدين على جمرها

    وأُعدُّ اللظى من دمي فرقدًا

    وأعيدُ المدى والصدى للنهارْ"

    بالأمس تحدث الشاعر" جواد العقاد" في نهار متوحش" عن أهمية اللغة ودورها في تكوينه كشاعر، وها هو "جمال قاسم" يتحدث عنها بطريقة أخرى، وبصيغة جديدة، يفتتح الشاعر القصيدة مؤكدا مكانة اللغة:

    "ولي لغة أستعين بأحرفها"

    نلاحظ أن الشاعر يتحدث عنها ككائن منفصل عنه، فهو لم يستخدم: "ولي لغتي" فقد جعلها (مجهولة) غير معرفة، وهذا يقودنا إلى أنه يتعامل مع اللغة ككائن حر، طليق، غير مقيد، لكنه مربط به، وتجمعهما علاقة توحد/احترام/صداقة، لهذا جاء قوله "استعين بأحرفها" وهنا نتوقف عند لفظ "لغة" المكون من ثلاثة حروف، وبين ما هو داخلها، ما يمكن أن ينبثق عنها: "بأحرفها" فند أن ال"لغة" مؤنث، وهي (صغيرة)، لكنها تتكون/تولد/تخلق كثرة ومذكر: "بأحرفها" المكونة من سبعة حروف، وهذا يشير إلى قدسية/خيرية/خصب ال"لغة".

    بعدها يدخلنا الشاعر إلى تفاصيل ال"لغة" ومكوناتها:

    "لغة من رحيق ونار

    لائذ بتاريخها"

    هذا على صعيد جمالية الشكل والطريقة التقديم، واللغة التي استخدمها الشاعر، لكن هل وظيفة الشاعر/الشعر تقتصر على تقديم جمال مجرد، أم انه له بعد اجتماعي/سياسي؟

    نلاحظ أن الشاعر يكثف ويختزل حديثه عن (تفاصيل) مكونات ال"لغة" فرحيق متعلق بالرائحة الطيبة وينبثق من زهور جميلة، وبها يكون الشاعر قد أعطنا جمالية تجمع بين الشكل/المشاهدة/النظر، وبين الحس/الرائحة الطيبة معا، أما النار فتقودنا إلى الضياء، وإلى الثورة، إلى السخونة الفعل/العمل، كما تقودنا إلى الشدة والقسوة، لكن هذه الشدة تسبقها "رحيق" نعومة الزهرة ورائحتها الذكية، وهذا ما سيجعلها "باردا وسلاما"

    وبهذا تكون النار (مقدسة)، نار خير، لها علاقة بما هو روحي وجمالي:

    "لغة من حفيف ملائكة

    وحريق يدسن تغسلتا بالأوار"

    نلاحظ أن الشاعر يكرر تقديم الجمال/النعومة "ملائكة" على القسوة/الشدة "حريق، بالأوار" كما أنه يكرر استخدام اللفظ القاسي "حريق، بالأوار" بمعنى ناعم وجميل، فقد سبقه جمال ال"ملائكة" "حفيف" الذي يعطي معنى الهدوء والنعومة، والذي يدفع اللافظ/المُتكلم ليلفظه بطريقة ناعمة، خاصة بعد وجود حرفي الفاء ووجود الياء بينهما، "ح ـ ف ـ ي ـ ف".

    قلنا إن الشاعر يعطي النار معنى القدسية، من هنا جاء "حريق يدين تغسلتا" فالاغتسال قديما وحديثا يعطي مدلولا إيجابيا للتحول والتقدم الجسدي والفكري والسلوكي/العملي للفرد وللمجتمع، فأنكيدو تحول من وحش إلى إنسان بعد أن اغتسل بالماء والزيت، والمسيحي يتعمد بالماء ليكون متماثلا مع طهارة السيد المسيح، والشخص في الإسلام يغتسل/يتوضأ ليدخل إلى الإسلام وليقيم الصلاة، وهنا جاءت "تغسلتا" لتعطي معنى التحول الناري، فهناك "حريق، بالأوار" كما أن صيغة المثنى في "يدين، تغسلتا" تجعل فعل النار أعلى وأكثر حرقا/طهرا.

    يبتعد الشاعر عن تناول النار مباشرة، ويأخذنا إلى ما فعلته به:

    "حين تجتاحني لهفة

    أستعير الندى

    وإذا هبت الريح

    أبقى اليدين على جمرها"

    نلاحظ، محافظة الشاعر على تقديم الجمال/الناعم/الهادئ: "الندى" على ما هو قاس وشديد: "الريح" وهذا يقودنا إلى العقل الباطن للشاعر، وما يحمله من رؤية طيبة للحياة، للإنسان/ للأحداث/للغة التي جعلته شاعر.

    ونلاحظ أن هناك توازنا بين الهدوء والقسوة، بين الماء والنار، فقد جاء الماء سابقا من خلال "تغسلتا" وهنا جاء من خلال "الندى" وجاءت النار من خلال: "ونار، وحريق، بالأوار" وهنا جاءت من خلال: "جمرها" وهذا التوازن بين الماء والنار، التوازن بين النعومة والقسوة له جذور تراثية وثقافية غارقة في القدم، فقد تناول السوري القديم هذا التوازن من خلال تتابع الفصول وما فيها من خصب وجذب، وما تكوين ووجود ملحمة البعل إلا صورة عن هذا التوازن، صورة عن هذا الصراع الدائم والمستمر.

    يختم الشاعر القصيدة:

    "وأعد اللظى من دمي فرقدا

    وأعيد المدى والصدى للنهار"

    إذا ما توقفنا عند الخاتمة سنجدها (تكسر) وتيرة القصيدة، فقد تم تقديم القسوة/"اللظى" على الهدوء/فرقدا، المدى، للنهار" لكن إذا ما تمعنا في هذا (التكسير) سنجده يخدم فكرة الهدوء/النعومة التي لازمت القصيدة، فهناك غلبة للهدوء الذي نجده في خاتمتها "للنهار" كما أن تكامل المعنى بين المدى والصدى" والطريقة التي يلفظان بها، وما فيها من مد وتطويل ومن غنائية، تجعل المتلقي يشعر أن الخير/النعومة أكثر/أكبر من القسوة.

    وبما أن الألفاظ المتعلقة بالسماء/بالفضاء: "فرقدا، المدى، الصدى، للنهار" أكثر من تلك الأرضية "للظى، دمي" وهذا يؤكد فكرة البياض/الهدوء الذي يكمن في القصيدة.

    هذا على صعيد جمالية الشكل والطريقة التقديم، واللغة التي استخدمها الشاعر، لكن هل وظيفة الشاعر/الشعر تقتصر على تقديم جمال مجرد، أم انه له بعد اجتماعي/سياسي؟

    إذا ما توقفنا عند المضمون المستتر خلف "ونار، وحريق، بالأوار، هبت، جمرها، اللظى، دمي" وعند صيغة الأنا والفاعلية والسرعة في العمل وفي الفعل: "لائذ، استعير، دمي، وأعيد" نصل إلى أن الشاعر لا يتحدث عن لغة مجردة، عن لغة الشاعر، بل عن أحداث ساخنة تجري في وطنه، في منطقة، وبما أنه شاعر، وعليه أن يقدم الواقع/الأحداث بعيدا عن المباشرة والوضوح، فقد كانت اللغة هي الطريقة/الوسيلة/الأداة التي وجدها مناسبة لتقديم رؤيته/ثورته على هذا الواقع، وما (تكسير) وتيرة القصيدة في الخاتمة، إلا انعكاس للرؤية الشاعر المتمردة التي ترى الخير/الخصب يمكن في الحريق في النار في اللظى.

     


    إرسال تعليق

    التعليقات



    جميع الحقوق محفوظة

    العهدة الثقافية

    2016