قصة قصيرة
صديقي الكاتب - أقصد كاتبُ هذا النصِّ-
يتأفّف بضيق ترتسم ملامحه على وجهه بألوان لوحة مُحتقِنةٍ بألوانها القاتمة:
"المشكلة لا أطيق العناوين الطويلة، وممَّا زاد الطّين بلّة ثقب ذاكرتي الذي
اِبتلعَ مفرداتي التي طالما أفاخرُ نفسي بغناها وكثرتها". لا رغبة لديّ للتعليق
على كلامه، ولا على اِسْترساله المُتكرّر؛ الملل لم يُفسح فرصة للتفاعل معه، ولا
أذكُر. منذ متى كان لقاءنا ترفيهًا وترويحًا لأنفسنا..! ساعتها. تأجّحت رغبة عارمة
بالإفلات من إساره؛ للانطلاق إلى ساحات
ذكريات تباعدت المسافة بيني وبينها. انتشت دواخلي بفرح غامر لم يُترجَم، إلّا
بمباعدة كلام صديقي الكاتب عنّي مسافة شعوريّة؛ كي لا يمحو شيئًا فرحتُ من أجله؛
رغبتي بالهروب من أجوائه، غلّبت فكرة الاِعْتذار منه بحُجّة اتّصالٍ جاءني من
زوجتي لأمر عائليّ طارئٍ، بينما مثّلتُ عليه
بتلقّي مُكالمة في غمرة اِسْتغراقه في لُجّة ذاته بسرد حكاياته، التي
حفظتها من كثرة إعادتها في لقاءاتنا الدوريَّة من كلّ أسبوع. أسرعتُ بخطواتي
لأبتعدَ عنه، قبل أن يتذكّر شيئًا يدورُ في ذهنه، فيُرجعني أو يلحق بي.
موعدنا هذا ما زال ثابتًا منذ خمس
سنوات مُتتالية، بعد تقاعدنا من التربية والتعليم لم يتخلّف أحدنا عنه. نكهة
الأماكن في دمشق ذات مذاق روحيٍّ مُنعٍشٍ. السَّاعة الخامسة في مقهى
"الروضة"، وقبل وصولي إليه لا بدّ من المرور على كشك الجرائد والمجلّات
المُقابل لبوّابة البرلمان، لشراء جريدة لمقاومة مَلَل الانتظار؛ ريثما يصل صديقي
الكاتب المُتأخّر دومًا عن مواعيده بما لا يقل عن نصف ساعة على أقلّ تقدير.
ركبتُ (سرفيس) مساكن برزة بعد عشرة
دقائق من وصولي للموقف. من حسن حظّي أن نزل أحد الركّاب لأصعد وأجلس مكانه. لم
أستطع التمكُّن من كامل الكُرسيّ. أرداف جاري الضّخم احتلت نصف مكاني، على مضض
قبلتُ بصمتٍ دون أدني احتجاج كي يُفسح وينزاح قليلًا.
من فوره فتح حديثه، يقترب برأسه من
رأسي. شفتاه أظنّهما لامستا أذني اليسرى:
"الحمد لله -يتكلم بعصبيّة،
وتكشيرة وجهه تقطع الرّزق- أن ابني الكبير انتقل من فرع البنك الذي كان يعمل به،
إلى فرع خارج البلد، وراتبه سيكون بالدّولار". أنفاسه تتدفّق بتوتّر مُتقطّع
لاهثة، وتدفع إلى أنفي رائحة كريهة، ولا خيار لي إلّا بالإشاحة بوجهي إلى الجهة
المُعاكسة، لكزني بطرف كوعه في جنبي الملاصق له لمتابعة كلامه.
الكُرسيّ المُفرَد عن يميني يجلس عليه
رجل يبدو أنّه خمسينيّ، هاتفه النقّال ملتصق بأذنه، لم أواجه صعوبة بالتقاط ما
قال:
-"يا سيدي مشان الله، ربي يخليلك
أولادك. بنتي تخرّجت من ثلاث سنوات، وعجزنا بإيجاد وظيفة لها. نعم.. نعم.. خرّيجة
كلية التربية. معلم صف. ربي يحفظك ولن أنسى لك هالمعروف ما دمت على قيد الحياة. لا
يهمّ وإن كان عقدًا. المهمّ أن يكون لها راتب يساعدنا على ظروفنا الصّعبة".
نتوء عروق وأوردة يده القابضة على الهاتف ظاهرة، يكاد الدم ينفزر منها، وتغضّنات
جبينه رسمت خطوطًا عميقة بعمق بؤسه.
نبراتٌ جافّة التقطتها أذني قادمة
بتقديري من الكرسيّ الخلفيّ مباشرة، صوته الأجشّ يحمل غضبًا غير معقول، في حديثه
لامرأة أربعينيّة تلبس نظّارات شمسيّة سوداء تخفي معظم ملامح وجهها الوضيء:
-"من غير المعقول هذا التكريم
المفاجئ للجميع لمن كتب قصيدة واحدة، والأنكى حينما قدّمه مدير الحفل بالشاعر
الكبير، لا أدري كيف سوّاه شاعرًا وكبيرًا..!؟ ومثلكِ ومثلي يا عزيزتي لم يُرحّبوا
بنا مجرّد ترحيب، هزُلت.. أليس كذلك.. أفكّر بمقاطعة نشاطاتهم إذا لم يعتذروا
ويعيدوا الاعتبار لي على الأقلّ، فلا أريد فرضَ ذلك عليك. لكِ الخيار وأنت
حرّة". تنحنحت، واكتفتْ بامتصاص غضبه. كنتُ أودّ سماع صوتها علّه يُرطّب
حرارة الموقف، ويزيح عنّي شيئًا من كآبة صديقي الكاتب، لأغرق من جديد في مستنقع
كآبات لا حصر لها.
تتوالى القصص من الكرسيّ الأماميّ،
الرّاكبُ الأوّل لجاره الذي على يساره من جهة الشُبّاك:
-" أتذكُر جارنا الصحفيّ كان بيته
في مدخل حارتنا أوّل بيت.. آسف بل الثاني هو بيته".
-"ما به؟".
-"أحد الأصدقاء المشتركين كتب على
صفحته خبر موته في حادث سيّارة في ألمانيا".
-"كم حلمتُ بالهجرة، ولكنّ ضيق
الحال لم يسمح لي، ولم أستطع تأمين خمسة آلاف دولار مبدئيًا لدفعها لأحد وسطاء
المُهرّبين. أذكرُ أنّني سألت أحد أقربائي بعد وصوله إلى السُويد، كيف الوضع عندكم
في الشّمال؟. وأرسلتُ له صورة التقطتناها بمكان قبل ثلاث سنوات بعدسة هاتفي، قال:
"أف.. أأنت في نيويورك أو في دبي؟" نبّهته: "دقّق في الصورة ستكتشف
أنّها لي ولكَ".
جاءت إجابة الأوّل: "يا للوقاحة
والنّذالة.. يا أخي المصاري تُغيّر النّاس، وتعزّز تجاهلهم لمآسينا".
بجانب السّائق تجلس امرأة وبجانبها شاب
يلبس بدلة رسميّة وربطة عنق. المرأة منهمكة بحديثها للشاب:
-" قسمًا بالله..!! أنّ الفراقَ
موحشٌ، لم أستطع دخول غرفة نومنا منذ وفاته قبل أربعة أشهر، ما زال عطره عابقًا
بالمكان. حُزني لم يسمح لي بفتح النّافذة".
-"هانت الأمور. كلّها عشرة أيام
وتفتحيها بلا أدنى تردّد على مصراعيْها".
-"الأهمّ عندي الآن انتهاء حصر
الإرث فأولاده لو استطاعوا لحرموني من البيت الذي أوصى به لي، وبعض الأموال، كما
أخبرتكَ: يعتبرون زواج المرحوم عبثًا، واتهموني بالنّصب والاحتيال".
-"لم يبق أمام القاضي إلّا الجلسة
القادمة ليصدر حكمه القطعيّ بخصوص القضيَّة، ولا داعي للقلق، فأنا أتابع الدّعوى
باهتمام بالغ. بشرفي كنتُ قد ربحتُ قضايا إرث كبيرة ومعقدّة، ولم تأخذ معي وقتًا
طويلًا".
-"طمأنتَني.. سأفتحُ النّافذة قبل
وصولنا للبيت".
غفلتُ عن صوت هدير مُحرّك السّرفيس
المُزعِج، يحرق أعصابي على الدوام. ما إن أبلغت المرأة السّائق برغبتها بالنزول
قبل مُفترَق الشّوارع القادم. بعد تأكّدي من أنه ما زال أمامي ربع ساعة بالوصول
إلى بيتي. تولّدت رغبة عندي بالنزول أيضًا، ومتابعة المشي وحدي، ولم أحسب حسابًا
لوجع رُكبتي الذي يتأزّم مع المشي لمسافات طويلة.
حاولت صناعة ابتسامة ساخرة، وأنا أتابع
المرأة عندما شبكت ذراعها وتأيّطت ذراع المحامي، وهما يُكملان سيرها باتّجاه مدخل
العمارة التي تسكن فيها. شيّعتهما بنظراتي، وراحة كفّي تسمح تعرّق جلدة وجهي
المشدودة.
إرسال تعليق