-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

عمّان: جمر الكتابة المتوهج

عمّان: جمر الكتابة المتوهج

الأردن: محمد دلكي

عَمَّانُ الملهِمةُ تُنشِد روح "سعيد عقل" بمزمار فيروزي ولحن رحباني كلَّ صباح، فهي عاصمة العَمّانيين، والأردنيّين، والعرب، على حدٍّ سواء. ومَنْ يسكن عينيها، تلتفت إليه -من عطش الصحراء- أمواهُ، ومتى كنتَ بعَمان فلا جرحٌ ولا آهُ، فلا أمَّ تجرح أبناءها. إن ذلك النشيد يحاكي ذلك الشعور المتجسد الذي ينتاب الواقف على جبل القلعة في مشهد بانورامي يتيح لك أن تمرر طرف روحك على أنحاء عمان من بؤرة واحدة؛ ليتداعى إليك -الساعةَ على الفور- كمٌّ هائل من الأحاسيس والذكريات المنقوشة في تلك الطرقات والأمكنة والمقاهي التي ينتهي إليها طرفك. وفي استرجاع لحركة الزمن، ومن بين باحة معبد هرقل وفناء القصر الأموي، ترسل طرفك إلى المدرج الروماني وما يكتنزه من تاريخ وأمم وأزمنة، وكذلك وسط البلد ومسجده الحسيني؛ فيورق دفتر ذكرياتك العبق، كل ذلك يمر أمام عينَيْ قلبك عبر قطعان من السحب استطاعت أشعة الشمس أن تخترقها من هنا وهناك، وقد رسمت أسراب الطيور عشرات اللوحات الفنية ممتزجة مع صوت المدينة الجمعيّ الذي يهدّئ قلقَه صوتُ الأذان، بين الفينة والأخرى.

وهنا، وفي خضم الإلهام العَمّاني، يلوح لي سؤال الكتابة. لماذا الكتابة؟ وهل هي مجرد توصيف لتلك اللحظات التي أخذت من القلب مأخذا عميقا؟ وهل للمكان تأثير في كتابتي؟ يحضرني -هنا- رولان بارت الذي جعل الكتابة علم متع اللغة ، متجاوزا بذلك كون الكتابة حالة فكرية إلى كونها متعة روحية، وهذا ما يراودني بعد الكتابة وانتهاء عملية الخلق الأدبي؛ أشعر أنني قد خططتُ قطعة من روحي على صحراء الورق، ويعتريني ذلك الإرهاق الذي لا يخفف آلامَ مخاضه إلا رؤية العمل الأدبي وليدًا كامل الخلقة منجزا، فالكتابة حالة، وهذه الحالة ليست ترفًا؛ إنها ضرورة روحية لفئة من البشر يقدّمون رؤاهم للعالم والأمكنة والأحداث، ويستطيعون أن يسبروا نفوس الآخرين ويلامسوا أرواح الأشياء والأماكن، ثم يعيدوا تشكيلها وفق إيقاعهم الروحي الخاص.

وإن كانت إربد تلهمني الشعر فإن عَمان تحثني على اختراق عوالم السرد. ففي وداعة إربد -وقد وهبتها نصف عمري- وخضرتها ودفء وسط البلد فيها إلهامٌ سماويٌّ ينزل على الروح إذا وقفتَ على تلّها؛ فتمدّ لك بساط روحها لتعرجَ في سماواته خاصة وأنت تربّتُ على كتف جبل الشيخ في لبنان بيد روحك؛ إنها الأفق اللامتناهي في الامتداد، وكذلك هي روح الشعر. وأما عمان -وقد وهبتها شطر عمري الآخر- فهي ذات روح مركبة متشابكة تشبه الرواية أكثر من الشعر؛ أحيانا تبدو لي متناقضة بما تجمعه من أضداد؛ لكن ذلك مكمن جمالها في نظري كاتبًا، فهي تمنحك فرصة السفر عبر الأزمنة قديمها وحديثها، تسمح لك أن تفسح النظر في عمرانها الذي يبدو قديما وثراثيا أحيانا، وغربيا حداثيا أحيانا أخرى، وتضعك في خليط من الأعراق والشعوب والثقافات؛ كأنك تسافر كل يوم في رحلة إلى بلد ما

علاوة على ما تقدم من أسباب تجعل عمانَ روحًا ملهمة للكتابة والإبداع، ولأنها هي العاصمة، والعواصم لا تدانيها الأطراف في الإمكانات والآفاق، فإنها تعد بحق بيئة حافزة على الإبداع وحاضنة للمبدعين.

وبسبب من ذلك، وعلاوة على ما تقدم من أسباب تجعل عمانَ روحًا ملهمة للكتابة والإبداع، ولأنها هي العاصمة، والعواصم لا تدانيها الأطراف في الإمكانات والآفاق، فإنها تعد بحق بيئة حافزة على الإبداع وحاضنة للمبدعين. بل إن كثرة الفعاليات والأنشطة الثقافية والأدبية يصعب أن يواكبها شاعر أو كاتب، فالأمسيات الشعرية والثقافية لا تكاد تنتهي، ومهرجانات المسرح والأفلام السينمائية لا تكاد تتوقف، وكذلك معارض الفنون التشكيلية والرسم، والأسواق التي تصطبغ بروح الثقافة كسوق جارا والبازارات التي تقام في دوار باريس، والشوارع التي اصطبغت بتلك الروح ممتلئة بالمقاهي في جبل اللويبدة كشارع كلية الشريعة وشارع الرينبو، بالإضافة إلى المتاحف الرسمية والأهلية كـ"بيت الدوق" و"متحف آرمات عمان"، وما تقدمه المؤسسات الرسمية كوزارة الثقافة والأهلية كمؤسسة عبد الحميد شومان من فعاليات ودورات تصقل الإبداع، وما تقيمه رابطة الكتاب ومنتدى البيت الثقافي العربي من أماسي ولقاءات؛ كل ذلك يعد مصادر إلهام للأديب، ومحفزات له على الكتابة، خاصة بما تفتحه له من أبواب مغلقة على سبيل التعارف وتطوير مسيرته الأدبية وتلاقي التجارب والعقول.

لكن والحال هذه، أتساءل كم يتفاعل الكتّاب الشباب مع هذه الفعاليات؟ ومع أي نوع منها؟ وهل هناك روح تسري من الأدباء الأردنيين الكبار إلى الكتاب الشباب؟ في الحقيقة، إن الكتابة لا عمر لها، والمبدع يقاس عمره بجودة ما يقدمه من منجز أدبي، ولو كانت المقاييس النقدية تأخذ العمر بالاعتبار لما احتفلت بشعر عمرو ابن هند ولا بأبي القاسم الشابي. وبنظري، فإن الشباب يتوهجون بالموهبة والكبار -من الأدباء- يتوهجون بالتجربة. وعليه، فالعلاقة علاقة التقاء واحتضان، لكن الواقع أن أكثر الأمسيات تستضيف الكبار ولا تحفل بالشباب. ومن ناحية أخرى، فإن الملمح العام أن الشباب لا يحضرون هذه الأمسيات، وكأن الأمر أشبه بحلقة دائرية فمن كان على المنصة هذا الأسبوع يكون في الجمهور الأسبوع القادم، ولا جديد من الوجوه الشابة لا على المنصة ولا بين الجمهور. بيد أن هذه الحالة ليست حالة صحية، لأن الشباب مهما علت موهبتهم فإنهم بحاجة لأصحاب التجربة كي يصقلوها في محاريبهم، بحاجة لهم كي يقدموهم للناس، كي يعرفوهم بطرق النشر والدخول لهذا العالم. إلا أنَّ الواقع يصدمنا بعكس ذلك مما يهدر كثيرا من المواهب الشابة التي يمكن أن تحمل لواء الأسماء الكبيرة لاحقا، ويصدمك أيضا بأسماء شابة تنشر في الصحف والمجلات وفي الفضاء الرقمي -منفلت الرباط- على عوار ما تقدمه؛ لأن المشهد لا يضبطه الكبار.

بالإضافة لذلك، ومع الانفتاح الهائل الذي فرضه عالمنا الرقمي، فإن ذلك يهدد الهُويّة الأردنية الأدبية، لأن الشباب الأردني منفتحون على التجارب العربية والعالمية ومحتفون بها كثيرا، بل لقد وصل الأمر -في كثير من الأحيان- إلى عدم الاحتفال بالمبدع الأردني، ببساطة؛ لانقطاع العلاقة بين جيل الشباب والمكرسين من الأدباء، ويشهد بذلك أن طلاب الجامعات يقبلون على شراء مجموعات الأدباء والشعراء عموما، ويتركون إصدارات الكُتّاب الأردنيين على الطاولات في معرض الأسرة الأردنية للكتاب الذي تقيمه وزارة الثقافة مشكورة سنويا، وكل هذا لأن الصلة منقطعة بين الأجيال، ففكرة توريث جيل لجيل، أو بناء المدرسة والمريدين، غائبة من المشهد الأدبي الأردني كما تغيب صورة المكان الأردني في كثير من أعمال الكتاب الأردنيين على عكس ما نلمسه في الأعمال العربية، مع وجود نماذج قليلة احتفت بالمكان مثل رواية ليلى الأطرش "رغبات ذاك المكان" ، ورواية حسام الرشيد "الآن في العراء"؛ فهما روايتان عمانيتان بامتياز، جعلا من عمان مسرح أحداث لرواية المكانُ أحد أبطالها.

إن هذه الحالة، وما تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، وفي ظل غياب الحاضنة الأدبية للكتابة الشبابية الأردنية، جعل كثيرا من الأدباء الشباب في قطيعة عن المشهد الثقافي المحلي. كيف لا وهم يجدون احتفاء خارجيًّا بمنجزهم الأدبي سواء في المسابقات التلفزيونية الأدبية أم جوائز الإبداع التي تتعلق بالشعر والرواية أكثر مما يجدونه في مجتمعهم، وقد حقق المبدع الأردني حضورا كبيرا هناك بينما لم يستطع تحقيق ذلك في بلده! إن الكتابة الإبداعية لدى الشباب الأردني تستحق الاحتفاء بها، والسعي إلى صقلها؛ لا بد من صناعة النجوم بدلا من تركهم يطحنون في معترك الحياة المعاصرة بكل تكاليفها.

لقد كتبْتُ الشعر في مرحلة مبكرة من عمري، وكان محيطي يحتفل بذلك، ثم لما دخلت الجامعة عرضت قصائدي على أساتذتي وهم من كبار النقاد في الساحتين: الأردنية والعربية، وسمعت منهم عبارات من مثل: "أنت شاعر مكتمل، لا تحتاج إلا إلى الاستمرار في القراءة، وتعميق تجربتك الشعرية" وغيرها الكثير، لكن واحدا من أساتذتي لم يوجهني لنشر قصيدة! لم يدرّسها -مثلا- في القاعة مع الطلاب كنموذج حي؛ فذهبتْ معظمها أدراج الرياح، إلى أن مرّت سنونَ طويلةٌ واحتفت دائرة الثقافة بالشارقة مشكورةً بشعري ونشرت مجموعتي الشعرية: "كما ترسم الشمس أجفان الغمام" . لا أدري، ربما لو وجدَتْ موهبتي في ذلك الوقت دعما وتوجيها لكان لدي منجز أكبر وأجود، ولكن هذه ليست حالة خاصة، بل إن عددا من الشعراء الذين عاصرتهم في مرحلة البكالوريوس، قد ذهبت موهبتهم وعفا عليها الزمن.

وبعد، فإننا أمام فرصة حقيقية -أمام هذا الكم العماني الهائل من الفعاليات والإمكانيات والفرص المتاحة- للنهوض بالكتابة الشبابية وتقديمها رافدا من روافد التقدم الوطني، إذ إن الإبداع في الدول المتقدمة -في السابق والحاضر والمستقبل- هو أحد أسباب ارتقاء الدول والأمم، وهو لسانها الناطق المعبر، وراسم هويتها الثقافية والحضارية.

 

 

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016