-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية
  • جديد الموقع
  • جاري التحميل ...
  • جديد الموقع
  • ضمير النبات/ زياد خدّاش


    هذه وقفة مع هذا الشاعر الثلاثيني المهندس الغرائبي الذي قرر مبكراً ولوج، منذ نعومة أنفاسه الشعرية، عارضاً خرائط مختلطة مركبة في مفهومه للشعر والحياة. في نصوصه عموماً لا يقدم أبو عجمية حلولاً لأزمات شعرية أو اجتماعية، ولا يهمّه أصلاً أن يفكر في إنقاذ أحد، شعريته لا تصلح أبداً للاستدلال عن مفقودين أو طرق مغيبة تحت ثلج الحياة. ثمة هدير غريب في قصائده المنفلتة من العقل اللغوي، هدير مثقف دقيق وواعٍ، يصلح تماماً لأن يكون مَساقاً في جامعة. شاعرنا من جيل ما بعد الألفين، هذا الجيل شهد الانتفاضة الثانية بكل ما فيها من غضب وتحفيز مشاعري وانتماء للفكرة، وأيضاً من حزن وإحساس بالخيبة من قيادة لا يشبه وجهها وجه البلاد. تقاسم هذا الجيل أسئلة لم يجب عنها أحد، الموت الفلسطيني في كل مكان، وفلسطين بلا مستقبل واضح، والتضحيات مخيفة، والإرادة الشعبية لا تنكسر، لكن القيادة البعيدة عن الناس لا تلتقط هذه الفضاءات، فيصير لدم فلسطين معنى يبعث على الحسرة، فتذهب قصائد هذا الجيل نحو عبثية ما، وبناءات شعرية مفتتة، وتفاصيل يومية حزينة، لكن علي أبو عجمية كان أشد شعراء جيله قرباً من اللامعنى المراوغ، والبعد عن النبرة الغنائية التي ربما أحس هو أنها مرادفة للخسارة، فجاء بناؤه الشعري اغترابياً بشكل متطرف، وبعيداً عن المألوف الشعري الفلسطيني 

    هل أراد أبو عجمية أن يبني وطناً عالياً للشعر فيه من انتصارات اللغة وقوة التخييل وتفوق الصورة، ما يشكل رداً على هزائم واقع شعبه وخساراته؟

    (أطوي تدوينة الدنيا في مشافهات الأبد، وجهك يا كتاب القبلة الأخّاذ، أسكن شعراء كسالى يستعدون نبياً يأخذ عني الكلمات، أنا ماء في الهواء، أسطع في مخيلة الأسماك وأتنفس نفسي

    لن نصل مع علي إلى معنى مريح وواضح، ومن قال إنه موجود ليريحنا؟ هو يستمتع بضياعنا في قاع الجيل، ونحن نبحث عن طريق للعودة إلى البيت بعد أن صدقنا وعده بحفلة شواء شعري في الجبل. علي لا يعزم أحداً على شواءات شعرية، لا تصل النار في شعره إلى درجة الشواء. يقسّم علي الحرارة في نصوصه تقسيماً عجيباً، يطلق ناراً هائلة ثم يتبعها بثلج مستطير، وإذا حدث وأن صدقتكم وتناولتم قطعة لحم من شوائه، لا تتذمروا إن وجدتموها نيئة. أبو عجمية يعرف كيف يطهو صوره، النار ليست دائماً دليل عافية، هذا درس كامل، وهكذا نألف بحب وتفهم تجربة هذا الغرائبي، غياب النزعة التبليغية في شعره مقصود بشكل عنيد، وكأني به يقول: لن تأخذوا مني معلومة ولن أدلكم على الطريق. من يرغب منكم في التجوال في خرائطي فليبقَ، وإلا فليذهب إلى 

    في عالم أبو عجمية الشعري، توقعوا أن تلسعكم كهرباء صوره، لسعات ستوقظ داخلكم رؤى غير متوقعة، إننا نحن نقرأ هذا العالم شعراء التبليغ وهم كثر حولنا

    في كتابه الشعري الجديد الصادر العام 2023 عن دار الأهلية الأردنية "ضمير النبات"، يواصل الشاعر، المهندس الكهربائي، قراءة العالم بطريقته التي يحبها. في عالم أبو عجمية الشعري، توقعوا أن تلسعكم كهرباء صوره، لسعات ستوقظ داخلكم رؤى غير متوقعة، إننا نحن نقرأ هذا العالم المكهرب بعيون متاهة لغوية عجيبة 

    (في آخر الصيف المشيع بالخصال السبع: وجهك ناضج، خدر الندى أعلى جذوع التين، كرْمُه مثقل بالخمر، تشربه منابع خوفه، شمس الزجاج على انعكاس النوم، في الذكرى، بخار الظل وخرقة الفران، يرغول الغناء على سياج القمح تعبره القطا، وشم الأفاعي، في سرير القيظ: أسباب الحبيبة من حرارة لدغة في رسغها

    في "ضمير النبات" الذي وصل فيه أبو عجمية أعلى درجات معماره الشعري، وبرقه اللغوي، يهدي الشاعر قصائده المتنوعة ببنائها إلى عديد من أصحابه: خالد شاهين، طارق العربي، نجوان درويش، وأمير داود، وزكريا محمد، وآخرين 

    المحير في تجربة أبو عجمية هو حيرتها بين البناءات الشعرية ، فهو يبدو منسجماً في تنقلاته بين قصيدة العمود والتفعيلة والنثر، هذا الطمع الشعري يميز تجربة هذا الغرائبي، يقول الشاعر قصي اللبدي عن تجربة أبو عجمية: "يثبت الشاعر علي أبو عجمية امتلاكه لغة شعرية خاصة تجمع بشكل مميز بين أدوات التعبير الكلاسيكية من بناء متين ومفردات جزلة، ومعرفة بالتراث الشعري، وبناء عروضي من جهة، وصور شعرية مبتكرة وطازجة ورؤى حديثة

    في "ضمير النبات" يواصل أبو عجمية صدمنا بمفردات وصور مدهشة لم تحدث قبل ذلك: (صداقة نقطة التقويم، في الرواية عقرب بطل الحواس، واكتب لنا على درج المروءة، وتسكن سندساً في السرو، لا تدابير تكابد نجدة القاموس

    هذا الغرائبي لا يتوقف وهو يكتب فوضاه وصوره الشعرية وغير الشعرية على "فيسبوك"، مثيراً 

    دائماً حالة من الجدل الجميل، تأتي له بالأعداء والمحبين 

     ____

    الأيام

    إرسال تعليق

    التعليقات



    جميع الحقوق محفوظة

    العهدة الثقافية

    2016