عمان-
صدر عن اتحاد الكتاب العرب في سورية، كتاب بعنوان “عودة المقدس” للشاعر والأكاديمي
الأردني الدكتور محمد مقدادي، حيث يعالج جملة من القضايا الفكرية والثقافية
والاجتماعية.
ويتناول الكتاب علاقة الشرق والغرب، ودور المثقف
العربي في تحليل الواقع وتحديد عوامل نهوض الأمة، ورفع سوية الوعي الجمعي إزاء
قضايا الحرية والعدالة ودور المنظومة الأخلاقية في إعادة بناء الذات العربية
المتشظية على عتبات ثالوث القهر والجوع والتخلف.
والكتاب هو عبارة عن المقالات الآتية “مكابدات
الكاتب العربي، المثقفون ومنظمة القِيَم، الحقيقة الفردية، إرثنا الثقافي بين
التوفيق والتلفيق، نقد العقل، الأدب والذاكرة، المحمول الفكري للأدب، اللغة
الإيديولوجيا، اللغة والعولمة، الإبداع والإيديولوجيا، ماذا صنعت الثقافة، لماذا؟،
الإعلام الثقافي للعولمة، مارينز الثقافة، برنارد شو وإعدام المثقفين، عودة
المقدّس وانبعاث الصحوة، تعويم الفكر والثقافة، ثقافة الكذب، اعتياد الموت،
مناقلات الاستبداد، المعرفة والاقتصاد، هوس التقدم وحلم النهوض، وهم التنمية
وحقيقة التخلف، خير التنمية وشرور التقنيات، مجتمعات المعرفة في مواجهة الراهن،
العرب والأفارقة مثالاً، نحن والزمن المعرفي، الثقافة والعولمة، أدوات الاختراق
الثقافي، الإعلام واللغة، عولمة الإعلام، انتاج الثقافة، القراءة العربية لخطاب
العولمة، سلطة الثقافة وثقافة السلطة، الحقيقة الفردية”.
في مقدمته للكتاب، يشير مقدادي في البداية إلى مقولة
“فولتير”، التي هي “أن ثمة مفهوما واحدا ومرجعية واحدة تحتكم اليها الأشياء
باعتبار أنه لا توجد سوى أخلاقية واحدة، وهل هناك قيمة مطلقة للحق والخير والجمال
والفضيلة والعدل؟ وهل تصلح هذه القيمة المطلقة التي تناسبت في العصور الغابرة،
لعصر يشهد تغيرات مثيرة للدهشة بفضل التكنولوجيا ووسائل الاتصال والتدفق
المعلوماتي من غير قيود أو شروط أو عوامل منع وتنقية؟”.
ويعلق مقدادي على هذه المقولة، فيقول “ماذا سيترتب
على تجاهل الأجيال الجديدة لماضيها وتراثها الثقافي الذي لم تعد تلقي له بالاً
وجعلته موضعاً للسخرية والتندر وهي ترى أن القيم التي سادت في مجتمعاتها ما هي إلا
قيم تقليدية غلب عليها التحجر والسكون، وحالت دون تقدم الإنسان بعد أن سلبته حريته
وجعلت منه كائناً مستسلماً لقدره الصارم، خاضعاً لمشيئته المطلقة، صامتاً لا يجرؤ على
إبداء رأي مغاير لما هو سائد ومتبع”.
ويواصل مقدادي حديثه؛ حيث يرى أن هذه الأجيال التي
ولدت في عصر “الفضاء المعلوماتي المفتوح” وهي تبدي تأففها ونزقها من قيم الماضي
ورواسبه، إنما هي تبحث لنفسها عن منظومة قيمية جديدة تتناسب مع الحركية التي
يشهدها العصر الذي تنتمي إليه.. عصر ما بعد الحداثة، الذي يدعو إلى التمرد والرفض
والتعبير الحر العلني عما يجيش في الصدور، وهي لا تعدم وسيلتها في هذا الخصوص، حيث
تتيح لها وسائل الاتصال نشر أفكار ثورتها على الموروث من القيم وتطلعاتها إلى بناء
مستقبلها على طريقتها الخاصة.
يقول المؤلف، إن خطاب “ما بعد الحداثة” الذي يرسي
أسساً فذة لكل ما هو عدمي بتركيزه على “الذات-الفرد”، والمناداة بإعلاء شأن الفرد
واعتباره كيانا مستقلا عن سواه، بمعنى أن يكون له الحق في اختياراته وتحديد رؤاه
الخاصة التي يرى أن باستطاعته، وفقاً لهذه المفاهيم، أن يحيا حياته الخاصة أيضا
دون أن يكون لأحد (غير ذاته) سلطة عليه، فهو حرٌّ فيما يفعل حرٌّ فيما يقول، حرٌّ
فيما يعتقد، حرٌّ في تشكيل حقيقته الفردية، وفقا لمفاهيمه وتجربته الحياتية، وهذا
الخطاب ما بعد الحداثويّ، ينال الكثير من الإعجاب في أوساط الأجيال الناشئة التي أقبلت
عليه لأنه يحررها من سلطة الماضي وأعبائه، ويدفع بها إلى إعلان التمرد عليه وعصيان
أوامره.
ويرى مقدادي أن المنظومة القيمية لأمّةٍ ما، ليست
إلا محصلة لعمليات هدمٍ وترميمٍ وبناء أنجزتها تلك الأمة خلال تاريخ طويل من
التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، حيث تفاعلت بها ومعها
المكونات الدينية والعرقية والمعرفية، ما أسفر عن تشكيل أنساق من القيم، تحكم سلوك
الأفراد تجاه بعضهم بعضا، وتؤطر لعلاقتهم المتبادلة مع المجتمع الذي يؤلفونه
ويأتلفون به، وتحدد معايير تعاملهم مع المجتمعات الأخرى.
ويتحدث المؤلف عن المجتمعات اليوم، فيشير إلى أنها
لا تعدو كونها نسقاً من هذه الأنساق القيمية التقليدية، من غير أن تمتلك الأجيال
رؤية لأنساق قيمية بديلة تنبني عليها العلاقات المجتمعية والإنسانية استنادا إلى
قيم سامية حاضرة ينبغي الحفاظ عليها وتوريثها للأجيال المقبلة لتظل محافظة على
(ذات مجتمعية) محصنة، قادرة على صنع حاضرها، من غير انشطاراتٍ مرضية، واستشراف
لمستقبلها مستندة إلى جذر قيمي ممتد في تربة الماضي.
ويرى مقدادي أن هذا التفسخ البنيوي سيؤدي بالضرورة
إلى اضمحلال وتلاشي الدور الذي تلعبه منظومة القيم في مراقبة السلوك، وضبط إيقاع
العلاقات المجتمعية الداخلية، وهو ما يؤثر على طبيعة الأداء الاقتصادي والسياسي
والوظيفي، ويجعل الانسجام والوئام في داخل البنية الاجتماعية أمرا بعيد المنال
ومستحيل التحقق، ويقود حتماً إلى تشكل “مجتمع الكراهية” الذي تسوده قيم التباغض
والتناحر والتحاسد والانجرار دائماً لتحقيق مصالح الفرد على حساب مصالح الجماعة
وما بعدها فيما يخص المصالح الوطنية العليا.
ويشير المؤلف إلى وجود معضلة معاصرة، فرضتها ظروف
ذاتية وموضوعية، جاء بها عصر التكنولوجيا الذي ألغى الكثير من العلاقات البينية
السوية بين البشر، واستبدلها بعلاقات مع الآلات التي تنتج السلع، وتنقل المعلومات،
وتبشر بعصر لم تشهد الإنسانية له مثيلاً في سرعة التغيرات التي أنجزها. وقد ترتب
على هذه الظواهر تبدل في ذهنية الإنسان وطريقة تفكيره وقراءته للواقع ورؤيته
للمستقبل، فالبعض وقف في منتصف المسافة بين الماضي والحاضر يراوح في المكان، كأنّ
على رأسه الطير، والبعض ظل ممتثلا لماضٍ يفرض قيوده وشروطه، ومخلصاً لمؤسساته
الدينية والاجتماعية (أسرة أو قبيلة أو مجتمع)، والبعض المتبقي أفصح عن رغبته في
التمرد والخروج على النص المجتمعي، باعتباره نصاً منحازاً للتخلف، ويُعلي سداً
منيعاً يعيق مظاهر التقدم والنمو والازدهار التي شهدتها المجتمعات المنتجة
للتكنولوجيا وأدوات الحداثة.
ودعا مقدادي إلى التصدي كل ما هو زائف ودخيل، والأخذ
-من غير تردد- بما هو حقيقي وأصيل، ويمثل خطوطاً عريضة تأخذنا إلى جادة التشخيص
والتمحيص، تشخيص الحالة المجتمعية لهذا “الغير” والتعرف على البؤر المضيئة في
عالمه المتقدم في مستوى التقنيات والحريات المسؤولة، والوقوف على حقيقة العوامل
الفاعلة والقوى الداخلية الدافعة، التي قادته من غياهب الظلمات إلى عالم النور.
وذلك بقصد نقلها والتعامل معها وتوطين ما يصلح لنا منها وتوظيفها في مجتمعاتنا،
التي لابد أن تطال آلة التمحيص دقائقها، وتفاصيل مكونات ماضيها وحاضرها وبناها
الاجتماعية والفكرية، للوقوف على أسرار ضعفها وعناصر تخلفها، وتسخير طاقاتها
الكامنة في معادلة البناء، بعد تخليصها من كل ما من شأنه أن يعيق حراكها الإبداعي،
ويصون لُحمةَ المجتمع، بتجسيد قيم العدل والحق والحرية والمساواة واحترام الحياة
بكل أبعادها، في إطار منظومة قيمية متكاملة، تأخذ من الماضي ما يليق بلغة العصر،
وتأخذ من العصر ما يليق بها ويأتلف مع تطلعاتها في النهوض والرِّفعة، محافظةً على
خصوصيتها الثقافية وبنيتها الاجتماعية من العبث و الاختراق، ومعزِّزةً قيمة
الإنسان كونه شريكاً في مسيرة التنمية والتحديث، لا أداةً من أدوات السلطة
والتسلط، ولن يعرف أحد قيمة النبع إلا بعد نضوب مائه.
____
جريدة الغد
إرسال تعليق