هل يمكن للشعر المباشر، الذي لا يستند إلى
المجازات والاستعارات، أن يكون جميلا وعاليا، ومؤثرا في الوجدان.
الشعر بحاجة إلى ذكاء قلبيّ عند الشاعر... ذلك
الذكاء الذي يضع في القصيدة دهشتها، ويضعها في القلوب، ويجعلها تقفز من الذاكرة
طازجة وخضراء ومتوهجة، نهتزّ بلذّتها، وتصبح جزءا من وجداننا.
لا يكفي ركام الصور بعضها فوق بعض، ولا تكفي
اللغة العالية، ولا تكفي الموسيقى والأوزان، كما لا يكفي التحرر منهما بالاقتراب
من النثر، أو ما اصطلح عليه بقصيدة النثر، لا يكفي الخيال كذلك، ولا الثقافة
الواسعة، ولا يكفي المعنى بالتأكيد، لخلق قصيدة مدهشة.
ركام الصور وازدحامها مربك ومشتّت ومجّاني حين
تختلط بعضها ببعض، واللغة العالية قد تكون ثقيلة وضاغطة على النصّ، والموسيقى
والوزن يمكن أن يكونا افتعالا ورتابة ومللا ونظما حِرَفيا، والتحرّر من الموسيقى
والوزن قد يأخذك إلى ركاكة قصيدة مترجمة عن لغة أخرى بشكل رديء، والخيال ربما يضعك
في جزيرة معزولة، مغلقة عليك، ولا قوراب في شطآنها توصلك إلى الناس، والثقافة
الواسعة قد تذهب بك إلى التلقين والاستعراض والذهنيّة، والمعنى قد ينزلق بك إلى
خطاب مَقيتٍ، يشبه خطاب برلمانيّ عربيّ كاذب، في حملة انتخابية مزوّرة، يصفّق فيها
الناخبون المرتشون المفتونون بالمظاهر الزائفة.
الصورة الشعرية، واللغة العالية، والخيال
الواسع، والثقافة الواسعة، والمعنى الدالّ، وحضور أو تغييب الموسيقى والوزن، كلّها
من عدّة الشعر، وعلى الشاعر إجادة كل واحدة منها بلا شكّ.
لكن إجادة هذه العدّة لا تكفي للشاعر ولا للشعر،
فإجادتها قد تجعل منك سياسيا لامعا، أو أكاديميّا فذّا، أو معلّما ناجحا، أو باحثا
موثوقا، أو ناقدا فاتحا، أو واعظا مربيّا... أو حتّى طاووسا منافقا مغرورا متبجحا
ولئيما.
ففضلا عن إجادة عدّة الشعر، فلا بدّ من الذكاء
القلبيّ عند الشاعر، ذلك الذكاء الذي يدلّه ويقوده إلى تلك النسبة الذهبية في
معالجة أيّ من عناصر هذه العدّة ومقاديرها الدقيقة، زيادة أو اقتصادا، وحضورا أو
إغفالا، للوصول بك إلى تلك الذروة من اللّذة الشعرية الساحرة الفاتنة.
ولو نظرنا إلى قصيدة محمود درويش " فكّر
بغيرك" فسنجد أننا أمام قصيدة جميلة مكتملة، برغم لجوء درويش فيها إلى أعلى
أشكال الخطاب المباشر، الذي يتوسّل فعل الأمر ( فكّر) مع بداية كل مقطع ويتبعه بلا
الناهية الشديدة المباشرة ( لا تنسَ)... ولعلنا لا نجد في هذه القصيدة سوى ثلاث
صور شعرية، اثنتان مبتكرتان ( من يرضعون الغمام) و ( وأنت تحرّر نفسك
بالاستعارات)، أما الثالثة فمن المعروف والمألوف والمتداول بين الناس ( ليتني شمعة
في الظلام ). وأما لغتها فهي من اللغة اليومية العادية السائرة على الألسن،
والخيال في هذه القصيدة ليس ذلك الخيال الواسع مما تعودنا التحليق به مع محمود
درويش، إلى آفاق بعيدة مفتوحة على التأويل، والمباهج الشعرية.
إنها إذن، قصيدة معنى قبل كل شيء، أو قصيدة
توجيه وتربية إذا شئت... وقصيدة المعنى - عادة - لا تثير دهشة، بل تُرضي من يقف
عند حوافّ الشعر، باحثا عن استشهادات منظومة مموسقة، تعينه في طرح قضية ما،
مستفيدا من قوة المعنى وطغيان الصنعة اللغوية؛ وهذا ليس ما يريده الشعر.
فما الذي جعل من قصيدة المعنى المباشرة هذه،
قصيدة جميلة مدهشة، تأخذ مكانها في وجدان من يتلقاها؟ .
إن الإجابة على هذا السؤال محفوفة بالمغامرة،
ولكنني سأتجرأ على القول بأن هذه القصيدة نجحت بالذكاء القلبيّ عند الشاعر.
نجحت لأنها استطاعت توسعة المعنى البسيط، ليصبح
متوهجا وحاضرا وحاملا لطاقة شعورية هائلة، حين ربطت بين ما نقوم به من شؤون عادية،
يومية، كإعداد فطور، ودفع فواتير وعودة إلى البيت، وبين من لا يجدون فطورهم ولا
ماءَ شربهم، ولا بيتا للسكن فيه، نجحت بلَفْتِ نظرنا إلى أن العاديّ -في النهاية-
هو الأهمّ، وهو ما يهدّد جوهر الناس ووجودهم وكرامتهم وإنسانيتهم حين لا يستطيعون
القيام به أو توفيره... ونجحت لأنها نقلت المعنى الكامن في مَسرّات شخصية صغيرة،
نكاد لا نلتفت إليها لفرط عاديّتها، فأخذته إلى ذلك المعنى الواسع والعميق
والأساسيّ الذي يجعل من هذه المسرّات مسؤولية إنسانية جماعية عن معاناة المحرومين.
ثم نجحت على المستوى التقني في جعل الموسيقى
تتسلل إلى نفس القارئ بخفوت حفيف أجنحة فراشة، يتعامل مع الحواس بدون ضجيج يحرف
التركيز، ولولا القافية الموحّدة فإننا نكاد لا نلحظ حضور الموسيقى والوزن في
القصيدة، وكان يمكن صياغة ذلك المعنى الذي أراده الشاعر دون وزن ولا موسيقى ولا
قافية، لكن حضور هذه العناصر ( الوزن والموسيقى الناتجة عنه) أخفى ثقل أفعال الأمر
والنّهي، التي تقوم عليها هذه القصيدة، ثم إن وجود القافيةالموحّدة فيها أعان على
توليد المعاني عند الشاعر، وأعان على سهولة حفظ القصيدة واستعادتها وحضورها عند
القارئ.
ولعل من المفيد الانتباه في هذا السياق إلى نجاح
درويش في جعلنا نتوهم أنه إنما يخاطب نفسه في حالتيّ الأمر والنهي، ولا يقصد
المتلقي بهما، ويتجلّى ذلك في تلك الانعطافة اللطيفة في الخطاب، حين قال ( وأنت
تحرّر نفسك بالاستعارات، فكر بغيرك)، فهذه الجملة لا تصف سوى حال الشاعر الذي يذهب
للاستعارات عادة لتوفير حرية لنفسه، فوضع نفسه كمخاطب من خلالنا بانزياحه إلى هذه
الجملة الشعرية الذكية، وجعلنا ننسى أفعال الأمر التي يتوجه بها إلينا، إذ ساوى
بيننا وبينه في الخطاب... إنه الإيهام الشعريّ اللذيذ، الذي لا يستطيعه سوى شاعر
بذكاء درويش.
إنه، ذلك الذكاء القلبيّ عند درويش، وتلك النسبة
الذهبية من عناصر القصيدة، حضورا وغيابا، زيادة واقتصادا... وإنه الأسلوب ما يميّز
شاعرا عن غيره من الشعراء، وما يجعل من القصيدة عملا قابلا للحياة برغم تقشّفها،
أو يلقي بها جثّة هامدة لا روح فيها، مهما حَقَنّا في أوردتها من أمْصال.
ليس كافيا، إذن، أن نقول عن قصيدة إنها قصيدة
مباشرة كي ننبذها ونسقطها،
فللقصيدة المباشرة جماليّاتها، حين تولد على يدي
قلبٍ ذكيّ... واقرأوا "فكّر بغيرك"
.............……...............................
فكّر بغيرك.
"وأنتَ تُعِدُّ فطورك، فكِّر بغيركَ
لا تَنْسَ قوتَ الحمامْ
وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ
لا تنس مَنْ يطلبون السلامْ
وأنتَ تسدد فاتورةَ الماء، فكِّر بغيركَ
مَنْ يرضَعُون الغمامْ
وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكِّر بغيركَ
لا تنس شعب الخيامْ
وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ
ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنامْ
وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكِّر بغيركَ
مَنْ فقدوا حقَّهم في الكلام
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكِّر بنفسك
قُلْ: ليتني شمعةُ في الظلام"
إرسال تعليق