-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية
  • جديد الموقع
  • جاري التحميل ...
  • جديد الموقع
  • الإِعجازُ البيانيّ للقرآنِ...ليس إعجازا! / الباحث د. يوسف الكوفحي


        من الجليّ واللامع أن القرآن العظيم هو كلام الله -تعالى وتجبّر- الذي تحدّى به الإنس والجنَّ على أن يأتوا بمثله أو من مثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله، ولم يأتوا بما تحداهم أن يأتوا به، مهما قلَّ أو كثر منذ نزوله، ولن يفعلوا ذلك أيضا حتى قيام الساعة، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ومعينا ونصيرا. وبما أنَّ القرآن كذلك، وهو كذلك قطعا وحتما وبلا أدنى شكٍّ أو ريبٍ، فهو بذلك خارج الزمانِ والمكانِ، وفوقَ المادة والأجسام، ولا يَرتبطُ بالإنسِ أو الجآن أو غيرهم من المخلوقات والأكوان. وذلك ببساطة شديدة، هو أنَّ القرآنَ بوصفهِ كلامَ الله فهو فوقَ المعجزةِ والعادةِ، وهو فوقَ كلّ تصورٍ أو قياسٍ أو مثالٍ أو تَشبيه.

        ولقد بدأتُ بمصادرة القارئ على المطلوب لِأُبْعِدَ عن نفس القارِئ أيَّ شبهة في الكاتب اتكاءً على عنوان المقال، إذ قد يوحي العنوان بألفاظه وبتأويله أنّ كاتبَ هذه السطور ينفي عن القرآن إعجازه البياني أو اللغوي، شاكا، معاذ الله، بإعجاز القرآن عن أنْ يأتيَ الإنسُ والجنُّ بمثلِه، إلا أنَّ القضية التي ستقف عندها هذه الورقة هي أن ما يُنْسب إلى القرآن بوصفه إعجازا بيانيا هو تفسير لا إعجاز، ابتداء من ظهور فكرة الإعجاز البياني التي جاء بها الباقلاني، إلى عصرنا الراهن، وكلّ ما جاء حول هذا الإعجاز من مبتدئه إلى راهنه، وأن الإعجاز حاصل وواقع في غير ما توهّم القوم.

       وهكذا، وتفصيلا لما سلف، فقد انشغل المسلمون لما يزيد عن ألف عام ونيف في مسألة مهمة وخطيرة في آن، وهي البحث عن مواطن الإعجاز القرآني، وبما أن القرآن العظيم في أثناء نزوله تحدى المتلقي إنسا وجنا مجتمعين ومتفرقين، وبقي سرُّ التحدي خافيا عصيَّا على الفهم والإدراك حتى ظهر ما يسمى الإعجاز البياني متمثلا بجهود الباقلاني والرسائل الثلاث للرماني والخطابي والجرجاني، وغير ذلك مما ذُكِر، هنا وثمة، في كتب اللغة والنحو والتفسير، ولقد انصبَّ بحثُ الباحثين في الإعجاز البياني في قضايا البلاغة والنظم، وذلك من خلال المقارنة بينه وبين كلام العرب ممثلا بالشعر الجاهلي وغيره، مما يشهد له بالفصاحة والبيان والحصافة، ولقد وصل بهؤلاء النفر من العلماء أن بيَّنوا أنَّ بلاغة القرآن ونظمه تفوق بلاغة العرب في كلامهم الموزون، مع الاعتراف ببلاغة العرب أحيانا، وإنكار بلاغتهم آحاين أخرى.

    ومما هو لافت في مقولات الباحثين والمجتهدين في مسألة الإعجاز البياني أنهم انطلقوا في دلائلهم على مكامن الإعجاز البياني من النظام اللغوي للعربية، النظام المستعمل قبل نزول القرآن بمئين السنين، فقد اتكأ اتكاء واضحا وجليا على ذلك النظام واستعمالاته في كلام العرب وشعرهم، من خلال أمثلتهم وشواهدهم على أن الأسلوب أو التركيب فيه إعجاز؛ لأنه يحمل دلالة كذا وكذا، بمعنى آخر، أنهم جعلوا من كلام العرب ونظام العربية قاعدة للانطلاق إلى بيان مواطن الإعجاز في الآيات القرآنية، وفي هذا العمل شيء من اللامعقول واللامقبول، وهو أن نجعل كلام العرب شاهدا على الإعجاز، فلو كان الأمر كذلك، وهو ليس كذلك قطعا، ومحال أيضا، لانتفى الإعجاز من القرآن، ولكان كلام العرب مثالا قرآنيا بل أكثر إعجازا من القرآن نفسه.

       ومن الضروري أن أشير، ها هنا، بغية توضيح استدلالهم على الإعجاز من كلام العرب واستعمالهم، إلى ما أورده الإمام الجرجاني –رحمه الله- في كتابه (دلائل الإعجاز)، في مسألة التقديم والتأخير في قوله تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ".

    يقول الإمام الجرجاني-رحمه الله-: "وههُنا كلام ينبغي أن تعلمَه، إلا أني أكتب لك من قبله مسألةً، لأنَّ فيها عونا عليه، قوله تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" في تقديم اسم الله عز وجل معنى خلاف ما يكون لو أخِّر، وإنّما يَبينُ ذلك إذا اعتبرت الحُكم في "ما" و"إلا" وحصَّلت/الفرْقَ بين أن تقول: "ما ضرب زيدا إلا عمرو"، وبين قولك: "ما ضرب عمرو إلا زيدا".

    والفرق بينهما أنك إذا قلت: "ما ضرب زيدا إلا عمرو"، فقدمت المنصوب، كان الغرض بيان الضّارب مَنْ هو، والإخبار بأنه عمرو خاصة دون غيره، وإذا قلتَ: "ما ضرب عمرو إلا زيدا"، فقدمت المرفوع، كان الغرض بيان المضروب منْ هوَ، والإخبار بأنه "زيد" خاصة دون غيره.

    وإذ قد عرفت ذلك فاعتبر به الآية، وإذا اعتبرتها به علمت أن تقديم اسم الله تعالى إنما كان لأجل أن الغرض أن يُبَيِّن الخاشون/ مَنْ هم، ويُخبر بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم، ولو أخّر ذكر اسم الله وقُدِّم "العلماء" فقيل: " إنما يخشى العلماءُ اللهَ"، لصار المعنى على ضدّ ما هو عليه الآن، ولصار الغرض بيان المخشيِّ مَنْ هو، والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره، ولم يجب حينئذ أن تكون الخَشية من الله تعالى مقصورة على العلماء، وأن يكونوا مخصوصين بها كما هو الغرض في الآية، بل كان يكون المعنى أنَّ غيرَ العلماء يخشون الله تعالى أيضا، إلا أنهم مع خشيتهم لله تعالى يخشون معه غيره، والعلماء لا يخشون غير الله تعالى.

    ... وإذ قد عرفت أن الاختصاص مع "إلا" يقع في الذي تؤخره من الفاعل والمفعول، فكذلك يقع مع "إنما" في المؤخَّر منهما دون المقدَّم، فإذا قلتَ: "إنما ضرب زيدا عمرو"، كان الاختصاص في الضارب، وإذا قلتَ: "إنما ضرب عمرو زيدا" ، كان الاختصاص في المضروب، وكما لا يجوز أن يستوي الحال بين التقديم والتأخير مع "إلا" كذلك لا يجوز مع "إنما".

    وإذا استَبَنْتَ هذه الجملة، عرفتَ منها أنّ الذي صنعه الفرزدق في قوله: "وإنّما يُدَافِعُ عن أحسابهم أنا أو مثلي"، شيٌ لو لم يصنعه لم يصحّ له معنى، ذاك لأنّ غرضه أن يَخُصّ المدافعَ لا المدافعَ عنه، ولو قال: "إنما أدافع عن أحسابهم"، لصار المعنى أنه يخص المدافع عنه، وأنه يزعم أن المدافعة منه تكون عن أحسابهم لا عن أحساب غيرهم، كما يكون إذا قال:" وما أدافع إلا عن أحسابهم"، وليس ذلك معناه، إنما معناه أن يزعم أنّ المُدافعَ هو لا غيره، فاعرف ذلك".

    ولا يخفى على القارئ الحصيف السديد أن استدلال الجرجاني على مَزيَّة التقديم والتأخير في قوله تعالى "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، مرجعه لغة العرب، ولو لم يكن توظيفهم للتقديم والتأخير دقيق المعنى، حسن البيان، لطيف المغزى، مطابقا للمقام والمقصد، لما عرفنا أن التقديم هنا، أفاد كذا، والتأخير أفاد كذا، كما كان جليا في شرحه لقول الفرزدق السالف الذكر.

    فكل العجب والاستغراب أن نجعل كلام الله(القرآن) مقيسا، وكلام العرب مقيسا عليه، للخروج بنتيجة غير منطقية، للقول بأن القرآن مُعْجِز في نظمه ولغته، ولا يعدو هذا الإعجاز كونه -في أغلبه- محققا المفهوم المتعارف عليه للبلاغة، وهو مطابقة الكلام لمقتضى الحال، أو بعبارة أخرى دارجة (لكل مقام مقال). ومن المعلوم أن هذا المفهوم يتحقق في كلام البشر.

    وفي هذا الشأن، فلو افترضنا أن البلاغة لم تتحقق بمفهومها السالف إلا في القرآن، فهل يحقُّ لمكتشف الإعجاز في التقديم والتأخير أو التعريف والتنكير أو غير ذلك؛ أنْ يحدد لنا بكل دقّة وثقة، أنّ الكلام مطابق لمقتضى الحال، وأن مقام هذا الكلام هو كذا وكذا، وأنّ ما تحصّل عليه من فَهْمٍ ومَقْصدٍ في ذلك التركيب أو الآية هو مراده -سبحانه وتعالى-؟! وغير خاف أنَّ القرآن أكثره من المتشابه، سواء أكان متشابها لفظيا أم معنويا،{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. واتكاء على ذلك، فلا يصدق  الجزم أو القطع بوجود إعجاز في تلك الآية أو التركيب أو اللفظة، ولا بأي وجه من الوجوه، وذلك ببساطة واضحة؛ لأنَّ الفارق بين كلام الله وكلام العرب، كالفارق بين الخالق سبحانه والمخلوق. ومن ثمَّ، فإن معرفة أسرار البيان في القرآن الكريم باعتبارها إعجازا، لا يكون إلا إذا كانت المقارنة أو القياس بين القرآن ونص إلهيٍّ آخر-حاش لله- وهذا، طبعا، محال محال.

       فلا غروى، إذن، أنْ يقولَ المعتزلة (بالصّرفة)، وهي أنَّ الله صَرَفَ العرب عن معارضة القرآن، أو أنَّ الله صرف عنهم القدرة والعلوم التي تمكنهم من معارضته، فكان في مقدورهم معارضته، فعاقهم عنها أمرٌ خارجي، فصار معجزة كسائر المعجزات، ولو لم يصرفهم عن ذلك لجاؤوا بمثله، ولا يخفى أن صاحب هذه الفكرة هو إبراهيم النّظَّام، وهو من هو في حدة الذهن، وصفاء القريحة، واستقلال في التفكير، وسعة في الاطلاع، وغوص في المعاني الدقيقة، وصياغة لها في أحسن لفظ وأجمل بيان، وهو من كبار المتكلمين وكان أستاذ الجاحظ.

    والحق، وهو وإن كنا لا نوافقهم على ذلك، فجلي من مقولة المعتزلة تلك، أنهم يبطلون إعجاز القرآن بيانيا، لغياب الاستدلال على ذلك "بيانيا"؛ إذ أدركوا أن القرآن سار على نهج العربية نظما وأسلوبا وتركيبا وبلاغة، وأنَّ فهمه مشروط بفهم العربية نظما وأسلوبا وتركيبا وبلاغة؛ فإن لم يكن كذلك، لَكُنّا أمام نظامين مختلفين، وهذا ما لم يكن ولن يكون.

    فإذا كان العقلُ الإنسانيُّ، حتى اللحظة، عاجزا عن تفسير معجزات الأنبياء والرسلِ وهي (مخلوقة)، كنار إبراهيم، وناقةِ صالح، وعصا موسى، وخلق عيسى وغير ذلك مما جرى على أيديهم من معجزات، تفسيرا علميا، فضلا عن كونه، أي التفسير، وإنْ حدث، وهو محالٌ على أساس النواميس الطبيعية العلمية من المشاهدات والمحسوسات، سينسِفُ الحكمةَ من المعجزةِ أصلا، ويُلغي معناها، ويُبطل الحكمةَ من ذِكْرها وحُدوثِها.

    وهكذا، فإذا كانت هذه المعجزات فوق العادة ودون العقل، بمعنى أوضح، أنَّها من المستحيل (عادة)، والممكن (عقلا)، وكان العقل عاجزا كَلِيلا عن تفسيرها والكشف عن أسرارها والولوج إلى كنهها، فكيف بصفةٍ من صفاته سبحانه وتعالى، التي هي فوق العادة والعقل =(التصور)، أي من المستحيل (عادة)، والمستحيل عقلا =(تصورا).

       فإن كان ذلك كذلك، فإنه يلوح لي، أنَّ الإعجاز البياني للقرآن العظيم هو إعجاز لا بالأعيان ولا بالأذهان ولا باللسان ولا بالكَتبي، عانيا القول أن قضية "الإعجاز" هي قضيةٌ صادقةٌ لا باعتبار مراتب الوجود الأربعة تلك، بل صادقة في "نفس الأمر"، بدلالة أخرى، أن محكي مفهومها لا يمكن نقده أو نقضه أو معارضته أو إنكاره أو الريب والشك فيه إطلاقا، ولا بأي شكل من الأشكال أو بأي صورة من الصور، إذ إن العجز الإنسيّ والجِنِّيّ ما زال قائما على أن يؤتوا مثل القرآن أو من مثله أو بعشر سورٍ من مثله أو بسورة من مثله، وهم عاجزون بلا ريب أو شك، في ماضي الوقت وراهنه، وفي ما يستقبل من الزمان إلى قيام الساعة وما بعد الساعة.{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}.

       وفي الحقِّ، فإن كلّ ما طرح في مسألة الإعجاز البيانيّ لا يعدو كونه تفسيرا وتوضيحا وبيان مقاصدَ ودلالات وإيحاءات، ولا فرق عندي بين ما طُرِح بوصفه إعجازا بيانيا وتفسير قرآن وتأويله، ولا يغيب ذلك عن أيّ قارئ دقيق في هذه المسألة، أن يكتشف أن كلَّ ما جاء في كتب الإعجاز البياني وفي غيرها، كَكُتُب اللّغة والنّحو والبلاغةِ والتفسيرِ كانت تفسيرا لمعاني القرآن ومقاصدِه: كالتَّقديم والتَّأخير، والتّعريف والتّنكيرِ، والوَصلِ والفَصْلِ، والإيجازِ والإطنابِ، والحذفِ والذّكرِ، والتصوير الفنيّ، والمفردةِ أو اللفظة، والصّوت، والفاصلةِ، والرّسمِ، والوقفِ والابتداءِ، إلى غير ذلك من المسائل والقضايا التي تندرج تحت مبحث الإعجاز البياني للقرآني، ولا شكَّ أنَّ هذه القضايا هي قضايا ومسائلُ نحويّة وبلاغيّة وصرفيّة لا يختلف درسُها عن دَرْس كلامِ العربِ نحوا وبلاغةً وصرفا ودلالةً.

    1. اتفق معكم الى حد بعيد..ولكن ألمح من كلامك أن التحدي بالاتيان بمثله أو بعشر سور أو سورة هو ذاته الاعجاز وكفى!!!

      ردحذف

    التعليقات



    جميع الحقوق محفوظة

    العهدة الثقافية

    2016