"الوعي الحقيقي يُحرّر الناس من الارتهان للواقع وفق مفاهيم
المنفعة والخلاص الذاتي" ص103
هذه المقولة الأساس التي تتبناها رواية العاصي للأسير الفلسطيني سائد سلامة .
تدور أحداث الرواية حول الشاب ساري الذي نشأ في عائلة فلسطينية عادية لأبوين
انفصلا مبكرا مع أخوين أصغر منه ، ارتبط بعمّته منال لتعوّضه عن غياب أمه. وتعلّم ساري من أبيه تحمّل المسؤولية في
أول درس في حياته حين ضبطه وهو يدخّن ، وتعلم من الجيران ونماذج عديدة في المجتمع. كان ساري يعمل ويتطور في عمله ، وكان يمكن أن يستقر أكثر ويبدأ
بمشاريع حياتية مثل سائر الناس ، يتزوج وينجب أولاداً ويذهب في حياته مثل الجميع
إلى نهايتها . لكنه في لحظة عصية على الحرّ يقف ويثير أسئلة حياتية ومصيرية.
"كيف لشخص مثقف مثل عمي سامي أن يصل إلى تلك الاستنتاجات التي جعلته
يُقصي نفسه ويفضل العيش في الظل إذا كان ساخطا على الواقع"ص٩١. يستعرض ساري نماذج عديدة من المجتمع الفلسطيني ، مثل أبي نضال اليائس
من كل شيء، ويراقب ما يحدث للعمال الفلسطينيين على الحواجز من إذلال وقهر وتنكيل،
ويعرض نماذج من مناضلين سابقين تحولوا إلى موظفين مستفيدين من حالة اليأس والخنوع،
بحيث أنهم يساهمون في الحفاظ على هذه الحالة خدمة لمصالحهم الذاتية وقادتهم
وبالتالي لعدوهم الذي يمعن في إرهابهم هم أنفسهم".
يورد الراوي تفاصيل تنفيذ العملية، ويقرر ساري الهرب مستغلاً فرصة الفوضى والإرباك التي سببتها العملية ، وهنا تبدأ مرحلة مختلفة في سياق السرد ، حيث نتتبع مع هروب ساري نماذج جديدة من المجتمع بعضها يعبر عن تعاطفه مع ساري ورفضه تقديم المساعدة ، وأخرى تتعاطف وتحاول أن تساعد لكن الظروف الأمنية وعيون المتعاونين تدفعهم للتراجع ، وأخرى تتعاون وتقدم لساري كل الدعم اللازم وهم تحديدا فئة الشباب .
أعتقد أن الكاتب استفاد من تجربته النضالية ومعارفه التي صاغتها تجربته
الحياتية ، فقد انبنت الرواية على فرضية عسكرية معروفة : التخطيط الدقيق قبل
التنفيذ والدقة في التنفيذ والتخطيط الصارم لما بعد التنفيذ مع توفير أقصى الدعم
اللوجستي والأمني بعد التنفيذ . هذه الآلية كما هو معروف تحتاج إلى مؤسسة قائمة ،
إلى تنظيم فاعل على الأرض من أعلى قياداته إلى أسفل كوادره . وكأن الكاتب يريد أن
يُشير إلى واقع الفصائل الفلسطينية القائمة ، فلا تنظيم قادر على التخطيط ولا
عناصر تبادر إلى هذا الفعل المقاوم .
فمن العاصي إذاً ؟ الواقع الذي يمارس القهر والتدجين والتهجين أم الفصائل التي
تخلت عن دورها في تنظيم الشباب وعملهم النضالي الضروري لمواجهة العدو ؟
هل العاصي هو ساري الذي رفض الذلّ والمهانة أم كل أولئك الذين رفضوا
تقديم يد العون والدعم لشخص قام بواجبه ودوره الطبيعي ؟
هذه الرواية تتجرأ على إدانة الواقع الفلسطيني ، سواء أكان على مستوى
الأفراد الذين قبلوا أن يرتهنوا لواقع مُذل حوّلهم إلى " مقاولين ودجّالين ما
برحوا يقتنصون الفرص"ص58 . وإدانة على مستوى أجهزة السلطة التي تتعاون مع الاحتلال
لدرجة عدم القدرة على حماية أبناء شعبها . وإدانة على مستوى الفصائل التي لم تعُد
قادرة على الفعل الطبيعي الذي تدّعيه وتترك شعبها ضحية اليأس والإذلال .
في حوار مع الجدّ أبي إبراهيم حول صورة الحصان على جدار بيته ، تتضح صورة المشهد
كله . الصورة لحصان عربي أصيل ، والخيل الأصيلة لا تشبّ على أمها ، وكان قد تم
خداعه وفعلها ، لذا قرر الحصان الامتناع عن الأكل حتى مات . والصورة هذه
بتعبيراتها المجازية كم خيل ( من مدّعي النضال ) شبّ على أمه (شعبه ) وترك أصالته
( وطنه ) وما يزال يشبّ ؟
هذه الرواية تعيدنا إلى الأسئلة الأولى حول معنى الكفاح وآلياته
وضروراته . وتعرض الواقع الفلسطيني من أسفل إلى أعلى ، وتكشف زيف الادعاءات التي
عبثت بالتاريخ والإنسان والوعي ، فتحوّل الفلسطيني إلى كائن " يعيش ميتاً
" .
بقي أن أقول أن الرواية التي كتبها الأسير القائد سائد سلامة كان يمكن
تكثيف بعض فقراتها وحواراتها التي تعطي نفس الدلالة والمعنى في أكثر من مكان لتجنب
التكرار . كما أن الإغراق في التفاصيل قد يبعث على الملل ، وخصوصا مع استخدام جمل
طويلة ووصف متواصل يمكن اختصاره وتكثيفه .
لغة الرواية واضحة وبعيدة عن التعقيد والاستعراض والافتعال مما أكسبها
صدقا وجعلها أقرب للقارئ الذي سيتفرغ للتركيز في موضوعها .
أقدم تحية للأسير المثال سائد سلامة ، وأتمنى أن ينال حريته ليسهم مع
رفاقه في إعادة الثورة لمسارها الطبيعي وإلى حضنها الشعبي كي لا نخسر ساري جديد
بلا جدوى .
إرسال تعليق