توجهت أنظار التلاميذ ناحية الباب ، فلفت انتباهي كان يتسلل ببطء ناحية السبورة ، ودون تحية قال لي : أريد ابني يا أستاذ ، إنه عيوني وأريد السفر إلى المدينة ، وأشار إلى فتى اغبر البشرة ، ذو عينين صقريتين لا يتجاوز طوله مترا واحدا انه احبيليص أمير البلدة وأشدهم إغراقا في البداوة كانت الحصة الخامسة من يوم الخميس، ولم يكن أحد في الإدارة وعلى الفور ، قرعت الجرس واستأذنته أن يحملني معه بسيارته إلى الحناكية حيث سياراتي التي لا تصلح للرمال والصحراء قال؛ ابرك الساعات قلت له إذن ستجدني في السكن توجهت على الفور وجهزت حقيبتي وكان بانتظاري عند باب سور المدرسة القديمة التي أصبحت مأوى للمدرسين، حمل الفتى بحقيبته المدرسية وجوعه وملابسه وسبقني إلى هناك طلبت منه أن ينتظر لتناول الغداء ، فقال باقتضاب ؛ ملحوق الأكل، معنا ما يكفينا من تمر وقربة ماء ألقيت حقيبتي الصغيرة في حوض السيارة الخلفي وقد لمحت فراشا قُيّد بحبل ، وبضعة أوان بلاستيكية أعرف بخبرتي السابقة أنها مملوءة بالماء، نزل الرجل ودس حقيبتي ما بين الفراش وجسد السيارة وعاد كأنه لم يفعل شيئا كان الفتى يقف بكامل طوله ما بيني وبين أبيه، وقد التزمت يداه المقعد من الخلف وما أن خرجنا إلى البر الرملي والطرقات الممهدة بحركة السيارات حتى أدركت لماذا سماه أبوه ب (عيوني) كان الفتى عيون أبيه وموجهه، *يبا موتر قريب خذ يمين ولا ينسى أن ينبهه إلى تلك المرتفعات التي غدت جزرا ترابية قد يعْلق بها بطن السيارة العراوي الذي غدا منافسا حقيقيا للجمل ، بل فاقه في السرعة هذه الجمال اليابانية السابحة في عرض الصحراء تكتشف أنها أقامت ممهدات لها لتداولها عليها، لكن تلك الممهدات لا تخلو من مطبات وجزر وسطية تحتاج إلى سائق حاذق يتجاوزها دون أن تعلق بها ، فكانت تلك العيون النبيهة السابرة من الفتى والاستجابة الواعية الدقيقة من الأب، لم يعد يدهشني مثل هذا التوافق العجيب ، فقد عزوته إلى تكامل ما بين الابن والأب وذلك التوافق العصبي وكأنهما جسد واحد، الأكثر من هذا دهشة أن الصحراء تولد طاقات في أبنائها لا يمكن أن يفهمها أو يدركها أبناء الحواضر السباحة في رمل الصحراء لا تقل مهاراتها عن مهارة السباحة في البحر ، وكلاهما محايد وغاضب ، ولا يعرف الرحمة، تسبح هناك الأسماك ، وهنا تسبح الضبان التي بدت غاضبة ومنزعجة من صوت سيارة احبيليص أمير ذلك المضرب البدوي النائي زمانا ومكانا، بحكم خبرتي إذا أردت أن تزعج بدويا اطرح عليه الأسئلة ، سيقول لك ما أدري ، فإذا ألححت السؤال قال لك بس فإذا اطمأن أنك لست من عالمه وأنك بطبعك مهذار كما هو بطبعه مصمت ، سيقول لك نحن بدو لا نعرف شيئا مما تقولوه اعتذرت له كثيرا عندما قال لي هذا ، وأدرك بحسه الصحراوي فائق الحساسية أنه لا يمكنه محاسبتي على هذري هذا لطبع بي، كما أنه صامت لطبع الصحراء التي لا تسمح لك أن تهادنها للحظة، وإلا الموت أقرب مما تتصور ، هو يرقب الصحراء بكل حواسه ولا يسمح لحاسة أن تتعطل، وإن كان فمقتضب القول وبس أوصلنا ربّاننا الصغير إلى مشارف الحناكية وشاهدنا الطريق الدولي الذي يربط نجد بالمدينة المنورة ، عندها خفق قلبي ، كيف يكون حال الأب وابنه في ذلك الشارع المعبد بالقار السريع والكثيف أوصلاني إلى سيارتي وهما ركبا القار المعبد ومن كل قلبي تمنيت لهما السلامة.
__________
*سيارة قريبة توجه لليمين
إرسال تعليق