يعدّ الفن التشكيلي ملاذا حميميا وآمنا للفنانة الفلسطينية رنا سمارة التي تصرّ على تتبع التفاصيل اليومية الجميلة للحياة، والمشاعر الإنسانية المضطربة التي تجعل من القلق شعورا دائم الوجود والمصاحب للحظات السعادة والألم
دواخل المنازل المكتظة بتفاصيلها، كما هي الألعاب المركبة الساعية إلى تطوير ذهن الأطفال، والغرف الملونة تارة بمذاق حلوى الصيف المُثلجة والمأهولة بانشغالات أهلها اليومية وتارة أخرى المؤثثة لمنطق عيش يؤسس إلى جوار قلق لا لبس فيه ولكنه قلق “مُهمّش” هو جلّ ما تقدمه الفنانة التشكيلية الفلسطينية رنا سمارة في معرضها الجديد بعنوان “الملاذ الحميمي” الذي تنظمه صالة “زوايا” في مدينة دبي من 22 مايو حتى 28 أغسطس القادم.
ويُذكر أن هذا المعرض الفردي هو الثالث للفنانة في الصالة ذاتها وضم مجموعة لوحات مختلفة الأحجام. وذكر بيان صحافي أن “الفنانة تتحدث عبر لوحاتها عن الأشياء العادية والفضاءات الحميمية من خلال نظرة شخصية خاصة. كما تحضر في الأعمال غرف النوم الملونة والمطابخ المرتبة والمكتظة وأحواض السباحة الخالية من أي سابح، وترسم الفنانة أيضا الباحات العامة والمألوفة لديها، والزوايا المفضلة بالنسبة إليها من المقاهي”.
المشاهد التي ترسمها الفنانة بتفاصيلها تذكر الناظر، بأن الفلسطيني قبل أن يكون فلسطينيا هو إنسان "عادي"
ويشير البيان إلى أن “الفنانة تستخدم الألوان، والعينات البصرية والأشكال لتظهر أجواء مختلفة من الهدوء والسكينة والقلق والإحباط في أعمالها تلك مُستبعدة وجود البشر فهي تستحضر آثارهم فقط وبصمات أفعالهم ولحظاتهم الحميمية التي احتضنتها تلك الغرف”.
أما إحدى القيمات على الصالة رنا عناني فتشرع في إيضاح ما رسمته الفنانة في لوحاتها لتذكر على سبيل المثال “غرفة في مستشفى تشي بوجود المريض دون أن تظهره من خلال حضور المصل المُعلق إلى جانب السرير”.
ومن بعض ما تقول عناني حول أجواء الغرف التي رسمتها الفنانة “بعض الغرف دافئة وفيها الكثير من الحب مثل غرفة المرسم. كما أن الأسلوب الذي رسمت به الفنانة أراضي الغرف يكشف عن مشاعرها التي تكنها تجاهها، فهي تارة مشغولة بحيوية ومكنوزة بالتفاصيل والأشكال الجميلة وأحيانا أخرى تبدو وكأنها أراض من زجاج معدومة الألوان وكثيرة الهشاشة..”.
والناظر إلى مجمل أعمال الفنانة الجديدة والسابقة سيجد أنه ربما من أهم العناصر التي رسمتها رنا سمارة المقاعد الفارغة التي جاءت في أغلبها مزركشة وملونة ومريحة. رسمتها الفنانة أحيانا كأنها تكاد أن تعلو من مكانها بفعل سحري ما كما في قصص الأطفال من على أرض الغرفة أو تتمدد “مُرتاحة” كي تتحول إلى سرير لشخصين في رحابة غرفة ضيقة عامرة به وغير منزعجة باحتلاله لمعظم مساحتها. وأحيانا رسمته هادئا وإن مبعثر الوسائد والأغطية بعد أن غادره أصحابه في وسط زوبعة من الأشياء التي لا تخلو من الطرافة المُحببة في تنفيذها.
لذا، وبالرغم من تحدث البيان الصحافي عن استخدام الفنانة “الألوان، والعينات البصرية والأشكال لتظهر أجواء مختلفة من الهدوء والسكينة والقلق والإحباط” لا يبدو أن أي من المشاعر السلبية حاضرة في جميع أعمالها التي لها ألوان بمذاق المثلجات الصيفية. كما أن الأجواء الطفولية الموشومة باللهو وببعثرة الأشياء هي أكثر قوة من أي جوّ آخر حتى ذلك الجو الحسيّ المرتبط بما بعد فعل جنسي ذكرته الفنانة حول غرف النوم الحاضرة في بعض اللوحات التي تضمنت بعض المفردات البصرية كلباس داخلي مُعلق على طرف أحد الأسرّة.
فكرة الجلوس في المقاعد التي يغيب أصحابها عنها جسديا فقط تدفع إلى التأمل ولعل تلك المقاعد هي أجمل ما رسمت الفنانة لأنها تكاد أن تكون بديلا عن الشخص الذي عادة ما يجلس عليه.
وفي المعرض لوحة واحدة ووحيدة تظهر امرأة جالسة على كنبة مزركشة تكاد أن تتماهى معها. ويحلو لمُشاهد لوحات الفنانة أن يعتبر هذه اللوحة الأم التي من خلالها وعبرها تسرد الفنانة قصص تلك الغرف المأهولة بألف تفصيل وتفصيل.
أعمال سمارة تقص لنا قصصا عن قدرة الفلسطيني على أن يكون له كل شيء من حياة العائلة، إنه تجسيد لبطولة من نوع آخر
المشاهد التي ترسمها الفنانة بألوانها وبتفاصيلها من ألعاب الأطفال المتروكة في الغرف، وآثار الفوضى اليومية تذكر الناظر، لاسيما إن كان غير فلسطيني، بأن الفلسطيني قبل أن يكون فلسطينيا هو إنسان “عادي” له أحلامه وأشياؤه الخاصة، ورغباته بعيدا عن قضية حقوقه في أرضه فلسطين. والمؤثر في لوحات الفنانة هو إضاءتها على هذا الجانب الحساس والحميمي جدا من حياة العائلات الفلسطينية في المخيمات الضيقة.
هذه الغرف تقص لنا قصصا عن قدرة الفلسطيني على أن يكون له كل شيء من حياة العائلة ولو في غرفة واحدة. إنها بطولة من نوع آخر. ملحمة بطولية تتنصر فيها الحياة على الموت وعلى الظلم الممنهج. وأهم الأبطال في تلك الغرف هن النسوة والأطفال الجلاّبين لألوان الغرف ودفئها وحلاوتها بالرغم من قسوة الظروف التي ربما لن يطيقها من لم يتمرس عليها خلال أكثر من 70 سنة فائتة. وهي أيضا غرف تستبشر خيرا بحياة طبيعية لابد أن تجد طريقها إلى أهل اللون والزيتون والبرتقال.
يُذكر أن الفنانة رنا سمارة من قرية “بتير” الفلسطينية وهي أم لثلاثة أطفال. حاصلة على شهادة جامعية في الفنون التشكيلية من جامعة رام الله وشهادة الماجستير في الفنون من جامعة نورثورن في شيكاغو الأميركية. وتنوعت أعمالها الفنية ما بين الفن التشكيلي والتجهيز الفني والأعمال التركيبية. شاركت في العديد من المعارض المحلّيّة والدوليّة، ولها معرضان منفردان هما “فضاء حميم” و”ألعاب الحرب”.
إرسال تعليق