-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

أمي مريم الفلسطينية / الناقد رائد محمد الحواري

 

أمي مريم الفلسطينية

للمؤلف: رائد محمد السعدي

النص الجيد لا يحتاج لتصنيف بجنس أدبي بعينه، بقدر إحداث المتعة في المتلقي، فالبساطة والسلاسة واللغة التي تفيض مشاعر إنسانية، أهم وأفضل من الالتزام بالجنس/بالشكل، إن كان رواية أو سيرة وغيرهما، في هذا الكتاب الذي يتمرد على الشكل الأدبي الرائج، الرواية، يمكن أن يبنى عليه ليكون هذا النوع من الأدب خاص بالأسرى الفلسطينيين دون سواهم، فالكتاب يقرأ على مرة واحدة، وهذا يعود إلى قدرة الكاتب على إقناع القارئ بأنه يتحدث ببديهية، بصدق، بحميمية، ودون تكلف أو تجميل، فتخرج الكلمات من قلمه كما يخرج رغيف خبز الطازج من بين يد الأمهات.


بما أن العنوان "أمي مريم الفلسطينية" فإن الكاتب سيركز على هذا الأمر أكثر من سواه، فكل الأمهات وصفهن بهذه الصفة، مريم الفلسطينية: "...وكانت على رأسهم الحاجة أم قاسم أو أم صابر جريدات، هذه الحاجة هي مريم الفلسطينية التي لم تكتف بتشجيع الشباب على الصمود والمواجهة، بل كانت تشاركنا بإلقاء الحجارة، بالإضافة إلى أنها كانت تجمع لنا الحجارة في طرف ثوبها وترفعها لنا على جسر البوابة" ص26، إذا ما توقفنا عند هذه المقطع، سنجده (خالي) من أي تصوير أدبي، فهناك تكرار للفظ "الحاجة" وأيضا عدم دقة الاسم "أم قاسم أو أم صابر" حيث يمكن أن يقال أحدهم لماذا لم يستخدم في المرة الثانية هذه الفقرة: (هذا المرأة هي مريم الفلسطينية)، جمالية/متعة النص تكمن في بساطته وفي انسيابته وفي الحميمية التي جاءت به وليس في التكلف، ضمن هذا السياق يمكننا إيجاد ميزة كتاب "أمي مريم الفلسطينية، الذي بدا فيه المتحدث/الكاتب وكأنه يتحدث لأصدقاء/لأحباب له، فكانت طريقة تقديم المقطع قريبة من المتلقي
.

هذه الشكل في التقديم نجده حتى عندما يتحدث عن الاحتلال: "وبعد أن عدت إلى المنزل وجدت أنهم قد عاثوا فسادا وتفتيشا في المنزل، وبدأت معاناة والدي والأهل من المداهمات المتكررة للمنزل، حتى وصل بهم الأمر لاعتقال والدي، ولم يسلم من أذاهم أحد، والدي اعتقل وضرب وعذب في التحقيق في الفارعة وبقى عدة أشهر حتى أفرج عنه، أخي الأكبر لقى من الضرب والإهانة في المنزل ما لقى حتى وصل بهم الأمر إلى محاولة إلقائه من فوق السطح، وبدأ الصراخ مما دفع والدي ووالدتي للخروج لحمايته والدفاع عنه، وهذا الحديث دفع أخي أن يترك المنزل ويغادر هو وزوجته وطفلهما الصغير إلى منزل عمي" ص29، نجد أيضا البساطة في تقديم المعلومة، والتي نجدها من خلال تكرار لفظ "المنزل" فكان يمكنه في المرة الثانية أن يستخدم "فيه" بل المنزل، وفي الثالثة "البيت" (بيتنا/منزلنا)، لكن بساطة المتحدث تجعله يلتزم بخطه هو، وليس بخط الآخرين، من هنا عندما تحدث عن الأخ الأكبر كان أيضا ينقل الصورة/الحدث ببساطة ودون أي تزويق، فكان صادقا مقنعا بما يقدمه من مشاهد.

يحدثنا عنه أمه قُبيل اعتقاله والحسرة التي أصابتهما معا: "خرجت من بيت صديقي باكرا وحتى لا يتم رؤيتي وأنا أخرج من هذا البيت ذهبت لمسجد القرية وأديت صلاة الضحى، وفي الساعة الثامنة تقريبا، دخلت للمنزل والوالدة تعد خبزها، سلكت عليها ورحبت كعادتها بين الشوق والحنين والخوف علي، يومها قالت ها انا أعد الخبز الساخن، وأخوك ذهب ليحضر صحن حمص من المطعم حتى نفطر معا، أخبرت والدتي أنني سوف أذهب لدكان ابن عمي ريثما يعود أخي، وهذا الدكان قريب من منزلنا، وذلك خوفا من إخبارية حول دخولي للمنزل، وحتى يعود أخي وتجهز وجبة الإفطار أكون قد عدت، ودعت والدتي على أمل العودة لتناول وجبة الإفطار معا، إلا أنني لم اعد منذ ذلك اليوم، وفارقت الحياة وهي تنتظر تلك العودة، وكانت دائما ما تذكرني بذلك اليوم، وهي تدعو الله أن يأتي وأفتح باب المنزل وأدخل إليها كما دخلت في ذاك اليوم، ووصل بها الأمر أنها كانت أحيانا تستيقظ ليل وتبحث عني في أرجاء المنزل وتقول لي لا أعرف يأتيني هاجس أحيانا أنك دخلت المنزل، فأنزل إلى الطابق الأرضي وأنادي باسمك وأبحث عنك في أرجاء المنزل" ص90، سنحاول التوقف قليلا عند ما جاء في هذا المشهد، فنجد تكرار للفظ المنزل ست مرات، منها أربع مرات متعلقة بالكاتب، مرتين متعلقة بوالدته، وتم تكرار "الوالدة/والدتي" ثلاث مرات، وهذا يشير إلى ما يحمله الكاتب من حنين للمكان، المنزل، ولوالدته، ونلاحظ أنها يجمع بينهما في حدثه، من خلال الخبز الذي تعده، ومن خلال بحثها عنه، وهذا ما يعطي المكان سمة اجتماعية/عائلية/أسرية، وما حديثه عن دكان ابن عمه إلا تأكيد على اجتماعية المكان والحميمية التي تجمع الأهل/العائلة به.

يقدم رحيل والدته بهذه المشهد: "... والدتي تموت، وأنا جالس لا استطيع فعل شيء، ولا حتى تقبيلها ووداعها، ولا حتى البكاء عليها، ...طلبت من أخي أن يضع جهاز الاتصال بالقرب من أذن أمي، لأودعها، ...طلبت منها مسامحتي لغيابي عنها كل هذه السنين وتقصيري بحقها، طلبت رضاها وعفوها وأن يرحمها الله ويكرمها فهو أهل العفو والكرم سبحانه" ص110، أن يحمل الأسير نفسه (ذنب) الابتعاد عن أمه، وهو المكره على الغياب/الابتعاد فهذا يشير إلى نبله وإلى سمو أخلاقه.

وإذا ما توقفنا عند هذا المشهد نجد أن هناك رفض لحالة الموت، وكسر لجدران السجن، وتمرد على السجن والسجان، من خلال وضع الهاتف على إذن أمه المتوفية، ففي هذا المشهد يعاملها "رائد لسعدي" على أنها ما زالت حية، لهذا يبلغها اعتذاره ويطلب منها مسامحته.

ويأخذنا هذا المشهد إلى إنسانية الأسير الفلسطيني، الذي يهتم بالأموات ويعاملهم باحترام وتقدير، ويكشف حقيقة الاحتلال الذي يمنع هذا الإنسان صاحب النبل والمشاعر المرهفة من توديع أمه الراحلة.

يحدثنا عن "أم محمد القنيري" وكيف تفهم السلام: "نحن نريد السلام "يما" فليعيدوا ابني الذي قتلوه، ويخرجوا أبني وكافة الأسرى، سيحل السلام "يما" ولا مش هيك "يما"" ص173، هكذا تقدم الأم الفلسطينية مفهومها للسلام، فهي تقدم همومها وهموم بقية الأمهات بطريقة موضوعية، بعيدا عن (الفبركات) السياسية والخطب الدبلوماسية، فهي التي تعاني وتتحمل الم غياب الأبناء عنها، وهي ما زالت تنتظر عودتهم: "جلست هذه الحاجة وهي تحمل علبة لبن، لم تشربها، ونذرت على نفسها ألا تشربها حتى يعود ابنها من السجن، ويسقيها إياها بيده أو أن يسكبها على قبرها بعد مماتها وخروجه من أسره، لأنه من أحضرها لها قبل اعتقاله" ص174، نلاحظ أن الأمهات يتماثلن مع لأسرى في العطاء والوفاء، فهن مستمرات في الاحتفاظ باللحظة/بالزمن الذي توقفت فيه حياة الأبناء السوية/الطبيعية، ويرفضن الاعتراف بتقدم/بمرور الزمن، وهذا إشارة إلى أنهن ما زلن متمسكات بحقهن كأمهات، لهذا يرفضن التعامل بما هو حاصل من غياب للأبناء، فمن خلال رفضهن الاعتراف بمرور الزمن يؤكدن على أن إنسانيتهن، وعلى أنهن يمارسن دورهن كأمهات.

فتحي الشقاقي

الأخلاق/الوفاء سمة إنسانية تلازم الأنقياء، وبما أن الأسرى نذروا حياتهم لنكون أحرارا، ولتكون فلسطين حرة، فهم يحفظون لمن استشهدوا بمواقف تنم على الوفاء لعطاء هؤلاء الشهداء، يحدثنا "رائد السعدي" عن عطاء القائد "فتحي الشقاقي" وعلى سعة صدره من خلال هذا المشهد: "...لقد كان محتوى الرسالة فيه من الشدة والقساوة على شخص الشقاقي والمعاتبة له، أنه يوجد تقصير وفتور، وكان اللوم والعتاب وبعض العبارات للشقاقي، منها كما ذكرت بعض القسوة، وبعد فترة جاءنا الرد من الشقاقي برسالة طيبة ولطيفة وفيها تحبب وتقبل لكل نقد وعتاب، وخاطب الشيخ بشكل ودي،... وأن ظروفهم وإمكانياتهم محدودة جدا، وما يلاقونه من صعوبات وعقبات، ومع هذا ختمها بالقول: " إنه لن يدخر جهدا في عطائه ومسيرته وجهاده، ثم ختمها بالقول: "لا والله حتى تروا دمي على صدري" بهذه الكلمات أنهى الشقاقي رسالته وبها قولا وفعلا أنهى حياته وقد أوقى وعده" ص97، أن نجد شخص يتقبل النقد فهذا أمر لافت، وأن يرد على المُتقد بطريقة هادئة فهذا يشير إلى أننا أمام شخصية قيادية تعي وتتفهم أهمية النقد ودوره في تطوير العمل، وأن يقرن القول بالفعل فهذا ذروة الانسجام والتوحد مع الفكرة، هكذا كان القائد "فتحي الشقاقي".

الكتاب من منشورات مؤسسة مهجة القدس، غزة فلسطين، الطبعة الأولى 2021.

 

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016