نحن إزاء قصيدة حبلى بالدلالات والرؤى، تحمل معاني عميقة تتصل
بهموم الأمة وقضاياها، وهي قصيدة حبلى بالألم والمعاناة تقوم على الصور الشعرية
الحركية التي تعمد إلى أنسنة عناصر الطبيعة سواء العناصر الطبيعية، أم تلك التي
صنعتها يد الإنسان.
أولًا:
الاستهلال الشعري في القصيدة:
فقد جاء
الاستهلال نصا أوليا داخل نص كلي لارتباطه بمضامين النص بشكل كامل.
"الليلة
اصطدم القطار/ بغيمة حبلى/ فأمطرت القصيدة جلنارًا/ قرب نافذتي "
ثانيا: المضمون:
فالحياة
تسير كقطارٍ، وتصطدم بالهم الجمعي والهم الوطني والقومي، ورغم جمال الحياة وعبق
وردها إلا أن الألم يعتصر الجمال داخلها، وتلك ثنائية ضمنية متضادة نقف أمامها
مذهولين.
ومع هول الأمر يحاول المتحدث - وأظن الشاعر يعني
"نفسه"- أن يستوعب ما يحدث في هذا العالم الغريب فيخفف الوطأة على
الطبيعة، إذ يعلم قسوة الطبيعة على الطبيعة؛ فالإنسان يقسو على الإنسان "
وقفت أشد أزر الريح/ أمسح دمعة/ على خد الحديقة"
جمال
ودمعة، وإن بدت الدمعة رقيقة إلا أن الألم مخبوء داخل هذا الجمال، لا بل النار تتقد
في صدر الشاعر، تشتعل أسئلة تحاول أن تأكل الماضي الأبيض النقي
المحفور في الذاكرة، هذا الماضي هو المعنى النقي الذي يحتفظ به الشاعر داخله،
ويحاول إسقاطه على الموجودات، على الليل الذي حوله "ليل نهار"، وما هو
إلا انعكاس لما بداخله..
أسئلة
أمطرتها الغيمة، هَمٌ يجعلها محمّلة به فتبدو بلون داكن نتيجة ما يختلجها من هموم،
وماذا بداخل الغيمة؟
- الوطن.
- القومية.
- التاريخ المفقود.
- الهم الجمعي.
- المدن المبحوث عنها وهي في
قبضة أيدينا.
- الفضاء الشاسع الذي أُخذ منا.
- الحرية المنتهبة.
- الأمل الذي نحيا به.
- العطاء الدائم في الزيتون الذي
نبحث عنه، والطاقة المخبوءة به.
- السنابل التي أبت أن تستسلم
للمنجل وقت حصادها، وقد آن أوانها.
- القهر والكبت اللذان يتولدان
داخل العربي "لم أقل شيئا يهز الريح/ من تحتي"
ولعل في الصورة هنا" الليلة افترشت طريق النار/ أسئلتي /
فأورقت الوسادة/ ألف حلم غامض المعنى." إشارة إلى عقم هذه الأسئلة والهموم في
إنجاب إجابات قولية أو فعلية ذلك أن الوسادة أورقت ولم تثمر.
ثالثا: الدلالات والألفاظ:
لم تكن الغيمة حبلى بالأسئلة والهموم فقط، بل كانت القصيدة كلها
حبلى بالألام والمعاناة من خلال ألفاظها، ومفرداتها وتراكيبها:
(اصطدم/ أشد/ سقطت/ النار/ غامض/سبات خطيئتي/ كوي
النار/الجنازات/ دمي/ مدن بلا أسماء/ وهم/ تحرسني/ الاسفلت/ تجر/ دمع العطاشى/
بئر/ أثقلتها عتمة الليل الطويل/ خيوط الوهم/ الحنين الى الصورة الاولى/ تبكي/ ثم
ترحل في انتظار قصيدة حيرى/ تعيد الليل نحو صوابه/ فبكيت مثل غمامة/ فأعدت للشباك
صورته التي ظلت حزينة( وكأن النافذة على النور فيها كل الألم )/ نامت / قاع/ باركت
(والتأييد القهري فيها)/ الألم في الانكار: لم أقل شيئا يهز الربح من تحتي (الحال
العربي)/ المدينة أقفلت أبوابها/ وحدي/ تلوذ )
ولعل في كل المفردات والتراكيب السابقة ما يشي بألم وبقسوة،
وبتحجر، ومعاناة، يمر بها الشاعر وتمر بها الأمة العربية والمرحلة..
رابعًا: التكرار في النص الشعري:
يؤدي التكرار إلى تحقيق جانب من شعرية النص؛ فالموسيقا تظهر في
التكرار جليّة وتشكل جانبا جماليا من الإيقاع، ولعل القيمة الجمالية هنا ظهرت في
تكرار الحروف في النص الشعري، وأجدني أقف عند تكرار حرف الجر " عن "
و" لا " النافية (عن صباه، عن نهار، عن مدن، عن زيتونة، عن صحراء، عن
ماسورة/ لا النار، لا الليل)، هنا تكمن أهمية التكرار في أن الشاعر يجعل العبارة
قابلة للنمو وقياسها بما يدور حول المتلقي، ولعل هذا يدعم الشاعر في تشكيل موقفه
وتصويره، وأرى أن مفاد هذا التكرار إلى جانب الموسيقا الداخلية والإيقاع الموسيقي
ظهور الحالة الشعورية للشاعر، إذ يضع الشاعر المتلقي في جو مماثل …ثم إنه يعكس
الحالة الشعورية النفسية والقلق الذي يسيطر عليه جراء أوضاع لا ترتضيها مبادؤه
وقيمه ومثله وإنسانيته..
خامسًا: الثنائيات المتضادة:
لقد جاء النص محملا بالثنائيات المتضادّة، وكل ثنائية تحمل
دلالات كبيرة تشي بوطنية تستوطن القلب والروح والجسد، أذكرها على الترتيب
- الجمال والقبح
- الماضي والحاضر
- النور والعتمة
- الحقيقة والوهم
- اليباس والحياة
- الوضوح والغموض
- الأصالة والزيف
- القاع والسطح
- الألم والأمل
- الوضوح والضباب
- الجمع الرائي والقلة التي تعاني
- الفرح والحزن
—————————
القصيدة
الليلة اصطدم القطار
بغيمة حبلى
فأمطرت القصيدة جلنارا
قرب نافذتي
وقفتُ أشدّ أزر الريح
أمسحُ دمعة
سقطت على خدّ الحديقة
حين قام الليل يمشي
مثل عاشقة
يفتش عن صباه
الليلة افترشت طريق النار
أسئلتي
فأورقت الوسادة
ألف حلم غامض المعنى
وشيئا من سبات خطيئتي
لا النار تكويني
ولا ليل الجنازات الرؤوم يضمني
ما زلت أحمل راية المعنى
وأبحث عن سواي
ما زلت قرب دمي
أفتش عن نهار أزرق الساعات
عن مدن بلا أسماء
عن زيتونة حبلى
بوهم كتابة التاريخ
عن صحراء تحرسني من الإسفلت
عن ماسورة أخرى
تجرّ الماء من دمع العطاشى
نحو بئر أثقلتها عتمة الليل الطويل
الليلة انتصبت أمام يدي
ملامح صورة
جاءت من الماضي البعيد
عرفتُها
وعرفتُ كم وقفتْ على الشباك
تنسج ما تبقى من خيوط الوهم
ترسم صورتي الأولى
وتبكي
ثم ترحل في انتظار قصيدة حيرى
تعيد الليل نحو صوابه
فبكيتُ مثل غمامة
وأعدتُ للشباك صورته
التي ظلت حزينةْ
الليلة اقترح الصباح نشيده
نامت حقول الحنطة الصفراء
في قاع المدينة
قبل موعدها
لم أقل شيئا
وباركتُ الشوارع
والمدارس
والمقاهي
باركتُ شيئا من سبات الليل
قرب وسادتي
وكتبت بالحبر الشقيّ قصيدة
لتظل ذكرى
لم أقل شيئا يهز الريح
من تحتي
ولكن المدينة أقفلت أبوابها
وبقيت وحدي
مثل عاشقة تلوذ بنفسها
عند المساء
إرسال تعليق