عندما تكون المادة المُقدمة صعبة وقاسية، على الكاتب إيجاد طرق وأشكال تخفف من حدة تلك القسوة/الألم، وهذا ما فعله "وليد عبد الرحيم، في رواية "لست حيوانا".
الرواية تتحدث عن الاعتقال السياسي، وعما فعلته القوى الإنعزالية من مجازر في صبرا وشاتيلا، وعن قصف قوات الاحتلال لبيروت وللبنان، من هنا نجد مادة الرواية في غاية القسوة والألم، وهذا ما جعل السارد يلجأ إلى استخدام الفانتازيا بكثرة، كما أن شكل تقديم الرواية (وتقطيعها) من خلال مقاطع شعرية، أضفى لمسة ناعمة على الرواية، وخفف شيئا من تلك الآلام التي تناولتها.
يضاف إلى ما سبق وجود المرأء "منال
باكير" أحد أهم عناصر التخفيف/الفرح التي يُلجأ إليها وقت الشدة، جعل الرواية
سهلة التناول وممتعة في الوقت ذاته، وهذا ما يحسب لها وللراوي.
الفانتازيا
سنحاول الدخول من الفانتازيا، الباب الأهم في
الرواية، فهناك أكثر من عشرين موقفا تم تقديمها بطريقة الفانتازيا، من هذه المشاهد
عندما يتحدث السارد عن لحظة ولادته، وكيف تم تغسيله من قبل الداية "أم
محمد": "...وسجلت لحظة استحمامي بسرعة فائقة، فخلصت جسدي بلحظات سريعة
من كل ما علق بي من سوائل أمي التي تنظر إلي بعينين متعبتين ساحرتين وسعادة وفخر
باعتباري إنجازها الكبير.
قذفتني الداية برشاقة إلى صدر أمي التي مدت لي
ثديها الأيمن البهي، واضعة يدا حنونة تسرى على ظهري، فبدأت بامتصاص الحليب الحر
الشهي بنهم لا يوصف" ص45، وما يحسب لهذه الطريقة في التقديم أنها تجعل
المتلقي (يستغرب) من السارد، ويتسائل: "كيف له أن يتحدث عن لحظة ولادته وهو
في بداية وخروجه إلى الحياة؟، ومن ثم يخرج من حالة (جدية/واقعية) الأحداث، إلى
عالم (متخيل)، يبعده عن الالم والقسوة.
وعن لقاءه ب"منال" المرأة المخلصة،
المرأة التي تُوجد الفرح وتخلقه، يحدثنا قائلا: "...وتحولت بلمح البصر إلى
شهاب أرضي بشري يشبه سهم امرئ القيس.
وبقوة خمسين حصان، مسكت معصم يدها المنحوت
بأزاميل مايكل أنجلو بقوة رقيقة، ونزلت أسفل راكعا على ركبتي كفارس من العصور
الوسطى، ثم قفزت نلك القفزة العجيبة، انطلقنا معا صعودا إلى السماء كسهمين جارفين،
وما إن وطئنا السماء/ حتى تحولنا إلى كائنين مختلفين" ص61، نلاحظ اهتمام
السارد بالفانتازيا، التي بها يبعد ويبعدنا عن مشاهد الألم، فمثل هذه المشاهد
البعيدة عن القسوة هي (فرصته) ليخرج/يبتعد عن الألام، لهذا كلما سنحت له الفرصة
نجده يأخذنا إلى عوالم (متخيلة) بعيدة عن الواقع وما فيه.
وهناك فقدان العضو الذكري للسارد الذي يستخدمه
كفاكهة: "... فأنتما بلا أعضاء تناسلية تناسبهم،...صعقت، سألت ذاتي إن كان
الجد قارئا للأفكار أو كان ساحرا ربما، لكنني نظرت إلى أسفل بطني فذهلت، حقا ليس
هناك أي شيء بارز، فقط ثقب بسيط لجري الماء" ص91و92، هذه الحالة يتناولها
السارد في اكثر من موضع في الرواية، فبها أضفى لمسة ناعمة على الرواية، وأبعدنا عن
قسوة الواقع الذي يحدثنا عنه.
ويأخذنا القبر وما فيه: " القبر حياة أخرى،
انتظرت حضور ناكر ونكير، لأقول لهما بأنني ضحية، وبأن الظلم قد حاق بي من كل صوب،
لكن أحدا لم يزرني سوى طيف منال" ص127، وهذا ما أسهم في تخفيف من حدة مشاهد
القصف والتعذيب والقتل التي تناولتها الرواية.
المرأة
المرأة أحد أهم عناصر التخفيف/الفرح التي يلجأ
إليها الكتاب، من هنا كانت "منال" بمثابة أحد أهم المخارج لأزمة
"ماجد"، أثناء وجوده في المشفى تدخل "منال" لتمنحه الفرح، بعد
ما مر به من تعب وارهاق: "...خرج الكويتي فجأة، بينما تقدمت هامة منال وهمست
في كوني السمعي: لا يهمك، عمري أنت، مهما حدث أنا معك حتى الموت، ثم طبعت قبلة على
جبيني المخدر فاستفاق.
كانت تلك أول قبلة تنعم بها علي، فتغيرت منذ تلك
اللحظة نفاصيل الكون، ومفاهيم اللون والحركة والسكون" ص147، بما أن الحديث عن
المرأة يمنح السارد والقارئ المتعة، من خلال اللغة الناعمة والجميلة التي تثيرهما
وتجعلهما يهيمان في عالمها البهي والممتع والشهي، من هنا نجد أن سياق هذه المقطع
جاء كرد على أحداث صعبة وشاقة مر بها "ماجد"، فكانت "منال" هي
من أخرجته وأخرجت المتلقي من براثين الأحداث الدامية والقاسية.
المقاطع الشعرية
من المخففات التي استخدمها السارد المقاطع
الشعرية، كمحطات استراحة للمتلقي، فرغم أنها لم تأتي دائما بمضمون ناعم ووهادئ،
إلا أنها اسهمت في تخفيف من حدة الأحداث، وأخرجت الرواية من واقعها القاسي، من تلك
المقاطع:
"ناعسات على جرار الماء كن نقش رمل سخي
يصب الماء على رشق نمل
وينسى في المدى أصابع هن
حالمات بالزعتر في سقف الندى
وبالنارنج وهجا
فويل لنا، وويل لهن
تدلى من أردافهن حبل النجاة، وسقى الورد غبظته
بهن
نجم رعد طاردته الريح
فاختفى في كهف برق سرى أثدائهن
فاتنات
جليلات، مقدسات
بان الؤلؤء العاجي صفا واحدا
كحد سيف، في نوى أفواههن
يسكن كنعان
سبي وليل نما من صدى زجيهن
زيت وزيتون، تمطى قافزا، في الندى وفي خواء
بيوتهن" ص155، المشهد الأسطوري التراثي، يأخذنا إلى ملحمة البعل، وطقوس
الاحتفاء بعودته من الموت، وبما أن السارد ركز على النساء والتراث، فهذا كان
بمثابة (خروج) كلي عن مادة الرواية القاسية، فهو يعي أنه يقدم أحداث دامية ومرهقة،
فكانت هذه المقاطع بمثابة (خروج من أزمة الأحدث)، إلى عالم الأساطير والتراث
والفرح.
وهنا ننوه إلى أن هذا المقطع قريب مما جاء في
"اسطورة ليلو وحتن" للروائي "محمود عيسى موسى" التي تناولت
أحداثا ووقائع ملحمية، اسطورية، بطريقة عصرية، وهذا يؤكد على أن اللقاء بين
العملين ينبع من الإرث التراثي الذي تربى/تعلم/تثقف به الساردين.
القسوة/الاعتقال والتعذيب
دائما كان الاعتقال قاسي ومؤلم، هذا ما نجده في
غالبية الأعمال الأدبية التي تحدثت عنه وعن السجن والتعذيب، يحدثنا
"ماجد" عن اعتقاله: "...فما أن غادرنا شارعنا حتى انزلوني أرضا
داخل السيارة، وداسوا على رقبتي، ولاأدري من أين استحضروا كل هذه الكلمات البذيئة
فجأة، وكل فنون اللكم والدعس والنغز، الغريب أيضا هو من أين أتوا بكل هذه الأحذية
السوداء التي تنهال على رأسي بزخم كأنها مطر" ص71، هذا صورة الاعتقال وطريقة
تعامل المخابرات مع المعارض السياسي، أم عن التحقيق وما فيه، فهناك أكثر من مشهد،
منها: "سحب المحقق حذاءه من فمي، ثم جلس إلى مكتبه لاهثا، بينما كنت ملقى أرضا،
وقد تذوقت لأول مرة في حياتي طعم الأحذية المصنوعى من الجلد الوطني والممتزجة
بغبار متنوع وبعض الطين" ص27، نلاحظ أن السارد يحاول أن (يخلق) جو من
السخرية/الهزل في موقف في غالية القسوة، وهذا يؤكد على أنه يعي طبيعة الأحداث
القاسية التي يقدمها، فلم يرد أن يزعجنا/يؤلما بها من خلال إيجاد مخففات من هنا
وهناك.
"كنت ملقى أرضا، عاريا، تماما كسمكة تتلوى خارج
مياهها، وما إن أنهى سيجارته وكاد يطفئها في صحنها المخصص، حتى عدل وتوجه نحوي، بل
نحو جزء مني، مركزا بصره عليه كقناص خبير، مستعملا صدري بديلا عن منفضة السجائر
فانطلقت رائحة شواء الجلد الآدمي مختلطة برائحة شعر صدري التي صعدت بدورها لتلامس
حافة ابتسامته الغبية، تماسكت لثواني غير معدودات، بدت لي دهرا" ص51، نلاحظ
أن السارد يحاول أن يبتعد عن الحديث عن نفسه من خلال حديثه عن جزء من جسده، عن
صدره، فبدا وكأن هناك (شيء/شخص) آخر يتحدث عنه، وهذا يؤكد على حرص السارد على عدم
إزعاج القارئ ـ قدر الإمكان ـ بالأحداث والمشاهد القاسية.
صبرا وشاتيلا
يحدثنا عن مقتل "منال" من خلال هذا
المشهد: " .. سحب البنطال تماما، ثم شق بخنجره ثيابها الداخلية، لم تكن ترى
وجوههم لحسن الحظ، فقد كان الآخر ما يزال راقدا بمؤخرته الثقيلة على وجهها مما
أصابها بصعوبة شديدة في التنفس.
ها قد أصبحت منال عارية أمام آخرين لأول مرة في
حياتها، عارية تماما باستثناء بعض بقايا الثياب الممزقة التي شقت بالسكين ذات
النصول الملوثة بعظم الضحايا السابقين... ظلت تقاوم بنفض رجليها بكل قوة ممكنة،
فلم يستطع الحيوان افتراسها، لهذا رفعوا رجليها إلى الأعلى ثم جلس الحيوان على رجليها
الملتصقتين ببطنها، فانكسر حوضها مصدرا قرقعة عظيمة سمعت في كل سماء بيروت كأنها
انفجار ما، صار كعبا منال إذا على كتفيها بعد أن تحطم حوضها العظم.
اتصال شارون بحبيقة مصدرا أمرا عسكريا. عليه سحب
الجميع من صبرا وشاتيلا خلال ساعتين على أقصى تقدير فقد افتضح الأمر دوليا"
ص234و235، اللافت في هذا المشهد رغم ما فيه من قسوة ووحشية، إلا أن السارد جعل
تدخل شارون كهروب/كمحرج له من تناول تتمة ما حدث لمنال، فبدا اتصال شارون بإلي
حبيقة وكأنه هروب للسارد من المشهد، وهذا يؤكد على أنه لا يرغب/لا يريد أن يرهقنا
بأحداث ومشاهد وصور قاسية.
القصف
من مشاهد القسوة قصف طائرات الاحتلال والبوارجه
البحرية لبيروت: "... كانت عشرات الطائرات تقصف كل مكان في بيروت... لترى على
الفور أياد أطفال مقطوعة، أو رأس امرأة مدمى أو مقاتلا تكفن بزيه العسكري"
ص179، رغم هذه الدموية التي عاشها السارد في بيروت إلا أنها لم تحل دون أن يستخدم
التهكم على القتلة الصهاينة: " ...أنطلقت وأنا أنظر يمنة ويسرة لعلني أجد في
طريقي أرجل الطفل المقطوعة، لكن يهوة كان قد خطفها لينتعش الكتاب القاتل"
ص180، فهنا يتم التهكم على يهوة رب الصهاينة الذي يخاطبهم في التوراة "لا
تبقوا فيها نسمة حياة"، فالسارد يحول فعل القتل من الصهاينة إلى ربهم يهوة،
عهدهم المختلف التوراة.
من هنا نقولأ أن السارد وازن بين قسوة الأحداث
وطريقة وشكل تقديم الرواية، وهذا ما أسهم في التخفيف على القارئ، وجعله يتناول تلك
الوقائع الدامية بأقل الأضرار النقسية.
الرواية من منشورات اتحاد الكتاب الأدباء
الفلسطينيين، 2021.
إرسال تعليق