وعندما يشعر عمار أن لا جدوى من الكلام, يتموضع
الجنيدي خلف ستار هذه المجموعة القصصيّة متأبّطاً حصاه التي جمعها في هذه المجموعة
ليرمي بها شياطين الإنس ممّن انحرفوا عن جادة الصواب, أفراداً وجماعات, لينال
ثواب" اللهم قد بلّغت, اللهم فاشهد".
لكن عمار يواجه المشكلة ذاتها التي يواجهها
بقيّة الأدباء فحصاه كما حصاهم على الغالب الأعم لا تصيب من رماهم, لأنّهم لا
يقرأون, بل يستفيد من هذه الحصى من يعيشون حالة الوعي المجتمعي ممّن يتلقفون
العِبَر ويحاولون القاءها ثانية.
روح الناقد المجتمعي تبدو واضحة في هذه
المجموعة القصصيّة, ففي كل منها كفُّ من كفوف استفاقة فاقد الوعي الذي يسقطه طبيب
التخدير على خد المريض ليستفيق, محاولات تعبر عدم الرضا عن كثير من السلوكات
وتسليط الضوء على ما يعتقد أنه سلوك غير قويم.
ويستهل الجنيدي مجموعته بعنوان " لا بواكي
لي" في تناص مع قول الرسول عن عمه حمزة عندما سمع نساء المدينة يبكين قتلاهن
فقال " لكن حمزة لا بواكي له" في إشارة إلى قلة من سيبكينه, فالكاتب
أراد التعبير عن قلة من يهتمون به أو بما يكتب, وقد تجلّى هذا الأمر في قصته التي وقعها
باسمه وعنونها بــ" نفس أمّارة بالتمرّد" حيث أضافها إلى أنواع النفس
المعروفة وهي النفس اللوّامة والنفس المطمئنة والنفس الامارة بالسوء, محاولاً
القول أن نفسه الأمارة بالتمرد لا بواكي لها.
ولأن المقام لا يتسع, فقد اخترنا أن نتناول
القصص الخمس الاول لاستخراج القيم النقدية التي تماهت خلف مفرداتها.
ففي قصته الأولى "كرم افتخاري" نقد
معلن لمن يجود بقصد التفاخر ليقول عنه الناس أنه كريم, في حين يترك أطفاله محبوسين
في غرفة مغلقة ليخرجوا بعد انشغال أمّهم متلهفين لنهش فتات ما تبقى مما قدمه
لأطفاله, وقد عبر الكاتب عن ذلك بفقرته الثانية حيث قال" ووسط اندهاش الجميع
راح الأطفال يتناولون بنهم فتات ما تركه أصدقاء أبيهم.
وقد جنح الكاتب في قصته الثانية وقد وصف نفسه
بأنها أمّارة بالتجلي جنح تحت عنوان شفقة إلى نقد من لا يكترثون بالأخلاق حيث لاقى
منهم استهجانا مقرونا بالحسرة والأسف والإشفاق على حاله عندما استيقوا ووجدوه قد
ذهب لأخذ حصته من الأخلاق عندما وزعت, وتجلى النقد أيضاّ في جملته الأخيرة"
"أيها المسكين" ماذا ستفعل بكل هذا الكبرياء؟ فقد أراد القول أن أهل
الخلق عرضة للتهكم ممن لا يكترثون به مقابل عرض الدنيا.
أما قصة
العازف فقد حملت نقداّ لاذعاً لمن يصفقون دون طرب ولا فهم لما يدور حولهم, فذاك
الذي يعزف بريشتي طائر كبيرتين يضع الأولى على كتفه ويمرر عليها الثانية يتجمع
حوله النزلاء يصفقون منبهرين بعزفه البارع دون أن يصدر عن الريشتين صوت.
وفي الرابعة يتجلى النقد للأب الذي لا يكترث باهتمامات
ابنه, ويهتم فقط باهتماماته هو, حيث يصف وهو يشاهد مباراة كرة القدم لكأس الأمم
الأفريقية القصيدة التي كتبها ابنه بالسخافات ليغلق دفتره وليطرق الصغير رأسه
منكّساّ ويضم دفتره لصدره بفخر ويعلن عن أوجاعه.
وفي محاولة لإبراز دور الأب أيضاً, لكنه هذه
المرة كان إيجابيا, فهو الذي يشجع ابنه على كتابة الشعر الذي يقرأه في طابور
المدرسة الصباحي, عندما سأله المعلم في القصة الخامسة" من يشجعك على كتابة
الشعر يا حسان" لتكون الاجابة دون تردد" أبي".
في هذه المجموعة القصصيّة يحاول عمار الجنيدي
أن يعكس صورة للمجتمع الذي يعيش فيه, فتبدو سلوكات أفراده كورقة تخطيط القلب ما
بين صعود وهبوط, ما بين الأبيض والأسود, لكن المنطقة السوداء المظلمة حازت على
أكبر بكثير من المنطقة البيضاء المضيئة, وعلى كل حال تبقى هذه وجهة نظر القاص مع
التأكيد أن الكتاب من النخب وهم الأقدر على التعبير عن أوجاع مجتمعاتهم وأحياناً
أفراحه.
إرسال تعليق