ترجمة: أحمد شافعي
لغتي الأولى هي السواحيلية، وخلافا لكثير من اللغات الأفريقية، كانت تلك لغة مكتوبة قبل الاستعمار الأوربي، ولكنني لا أعني بذلك أن الغلبة كانت لمن يجيدون القراءة والكتابة. ترجع نماذج الكتابة الاستطرادية الأولى إلى أواخر القرن السابع عشر، وفي مراهقتي، كانت هذه الكتابة لم تزل ذات معنى ولم تزل مستعملة في شكلها الكتابي وضمن لغة الشفاهة المتداولة. غير أن الكتابة السواحيلية المعاصرة الوحيدة التي كنت أعرفها هي القصائد القصيرة التي كانت تنشر في الجرائد، أو البرامج القصصية الشعبية في الإذاعة، أو الكتب القصصية شديدة الندرة. وكان أغلب تلك النتاجات ذا طابع أخلاقي أو هزلي مقصود للاستهلاك الشعبي. وكان كتابها يمارسون مهنا أخرى أيضا فلعلهم معلمون وموظفون. ولم يخطر لي أنني قد أقدر على فعل ذلك، أو يجدر بي فعله. ومنذ ذلك الحين، شهدت الكتابة بالسواحيلية تطورات، لكنني أتكلم عن مدركاتي في تلك الفترة. لم يكن بوسعي تصور الكتابة إلا بوصفها ذلك النشاط العرضي المبهم العقيم، ولم يخطر لي قط أن أجرب يدي فيها إلا هازلا على النحو الذي وصفته.
على أي حال، في الوقت الذي غادرت فيه الوطن، كانت طموحاتي بسيطة. فقد كان ذلك زمن المشقة والقلق، وإرهاب الدولة، والمذلات الممنهجة، فأردت في الثامنة عشرة أن أرحل وأجد الأمن والتحقق في مكان آخر. وكنت في أبعد موضع ممكن عن فكرة الكتابة. والشروع في التفكير بشأن الكتابة تفكيرا مختلفا في إنجلترا بعد سنوات قلائل يتعلق بتقدمي في العمر، وتفكيري وانشغالي بأمور سبق أن بدت لي خلوا من التعقيد، ولكنه أكثر تعلقا بإحساس طاغ انتابني هناك بالغربة والاختلاف. وكان في الأمر شيء من التردد والتخبط. لم يكن الأمر أنني كنت واعيا بما يجري لي فقررت أن أكتب عنه. فقد بدأت الكتابة عرضا، وفي شيء من الكرب، ودونما أدنى خطط، ولكن بضغط من الرغبة في أن أقول المزيد. وبمرور الوقت، بدأت أتساءل عن كنه ذلك الشيء الذي أفعله، فتحتّم عليّ أن أتوقف وأتدبر وأفكر في ما كنت أفعله بوصفه كتابة. ثم أدركت أنني أكتب من الذاكرة، وكم كانت ذاكرتي حية وطاغية، وكم كانت نائية عن الوجود غريب الخفة الذي استشعرته في سنواتي الأولى بإنجلترا. تلك الغرابة أرهفت إحساسي بالحياة التي تركتها ورائي، وبالناس الذين هجرتهم دونما تفكر أو تدبير، والمكان الذي ضاع إلى الأبد بما فيه، مثلما بدا لي الأمر آنذاك. حينما بدأت أكتب، كانت تلك الحياة الضائعة هي التي كتبت عنها، والمكان الضائع وما تذكرته عنه، وكنت أكتب أيضا عن كوني في إنجلترا، أو على أقل تقدير عن كوني في مكان مغاير للمكان القائم في ذاكرتي وفي كياني، المكان الذي يوفر لي من الأمن والبعد عما تركت ما يملأني إحساسا غير مفهوم بالذنب والندم. وفيما كنت أكتب، كنت أجد أني للمرة الأولى مقهورا أمام ما كان في السنين الأخيرة التي عشناها من مرارة وعبث، وأمام كل ما فعلناه لنقلب تلك السنين على أنفسنا، وأمام الحياة في إنجلترا التي بدت آنذاك غير واقعية وغريبة.
ثمة منطق مألوف في تلك الأحداث. فالسفر بعيدا عن الوطن يوفر مسافة ومنظورا ودرجة من السعة والتحرر. ويرهف القدرة على التذكر، والتذكر هو الفناء الخلفي للكاتب. تتيح المسافة للكاتب التقاء هادئا بنفسه الداخلية فتكون النتيجة لعبا حرا للخيال. وهذه حجة ترى الكاتب بوصفه كونا مكتفيا بنفسه، وخير له أن يترك ليعمل في عزلة. قد ترون في هذه فكرةً عفا عليها الزمن، فهي صبغة دراماتيكية يضفيها الكاتب على نفسه بما يليق بالقرن التاسع عشر، لكنها فكرة لم تزل تحظى بجاذبية وتستمر بأشكال متعددة.
لو أن النظرة التي ترى في المسافة نفعا للكاتب تصوِّره/ها تصوير عالم مغلق، فإن ثمة نظرة أخرى ترى المسافة تحريرا للخيال النقدي. بل وتذهب هذه الحجة الثانية إلى أن هذا الانزياح لازم، وأن الكاتب ينتج عملا قيِّما في العزلة لأنه/ها حينئذ يتحرر من المسؤوليات والحميميات التي تخرس الحقيقة التي لا بد من قولها وتضعفها، فالكاتب وفقا لهذه النظرة بطل، بصير بالحقيقة. لو أن النظرة الأولى لعلاقة الكاتب بالمكان تنطوي على أصداء من رومنتيكية القرن التاسع عشر، فالثانية تستدعي حداثيي العقود الأولى إلى الوسطي من القرن العشرين. فكثير من كتاب الحداثة الإنجليزية الأساسيين كتبوا من داخل الوطن [البيت] طلبا لكتابة أصدق في ما رأوا، وهربا من مناخ ثقافي رأوه مميتا.
ثمة أيضا حجة مقابلة تذهب إلى أن الكاتب حينما يكون في عزلة وسط الغرباء فإنه يفقد الإحساس بالتوازن، يفقد الإحساس بالناس وبصدق وثقل إدراكه لهم. ويقال إن هذا يصدق بصفة خاصة في أزمنة ما بعد الإمبريالية، وعلى الكتَّاب من أبناء المناطق التي كانت مستعمرات أوربية سابقة. لقد شرعنت الكولونيالية نفسها من خلال الإشارة إلى هيراركية العرق والدونية التي تشكلت في عدد من سرديات الثقافة والمعرفة والتقدم. كما فعلت ما في وسعها لإقناع المستعمَر [بفتح الميم الأخيرة] بالإذعان لهذه الرواية. إن الخطر بالنسبة إلى الكاتب ما بعد الكولونيالي، في ما يبدو، هو أنه ربما عمل، أو ربما يعمل، في مثل اغتراب وعزلة حياة غريب في أوربا. فمن المرجح حينئذ أن يصبح ذلك الكاتب مهاجرا متعاليا، يغيظ من تركهم وراءه، ويبتهج بالناشرين والقراء الذين لم يتخلوا عن عداوة مكتومة ولا يفرحون إلا بمكافأتهم وثنائهم على قسوة العالم غير الأوربي. وفقا لهذه الحجة، تعني الكتابة وسط الغرباء الاضطرار إلى الكتابة بقسوة لتحقيق المصداقية، وتبنّي احتقار الذات بوصفه سجلا للحقيقة، أو يعني الاستبعاد والوصم بالتفاؤل السنتمنتالي.
كلتا الحجتين ـ أي المسافة بوصفها تحريرا، والمسافة بوصفها تشويها ـ حجة اختزالية، وإن لم يعن هذا القول بأنهما تخلوان من بعض آثار الحقيقة. لقد عشت ـ ولم أزل أعيش ـ حياتي كلها بعيدا عن مسقط رأسي، مقيما وسط غرباء، ولا يمكن الآن أن أتخيل كيف كان يحتمل أن أعيش غير تلك الحياة. في بعض الأحيان أحاول أن أتخيل ذلك، فتهزمني استحالة حل الخيارات الافتراضية التي أعرضها على نفسي. فالكتابة من حضن ثقافتي وتاريخي لم تكن ممكنة، ولعلها ليست ممكنة لأي كاتب، بأي معنى عميق. أعرف أنني انتهيت إلى الكتابة في إنجلترا، في الغربة، وأدرك الآن أن ظرف كوني من مكان وحياتي في آخر كان ولم يزل موضوعي على مدار السنين، لا بوصفه تجربة فريدة مررت بها، بل بوصفه قصة من قصص زماننا.
في إنجلترا أيضا سنحت لي فرصة القراءة الواسعة. في زنجبار، كانت الكتب باهظة الأثمان، ومتاجر الكتب قليلة وناقصة التغذية. والمكتبات، القليلة هي الأخرى، كانت هزيلة وقديمة. وفوق ذلك كله، لم تكن لديَّ معرفة بما أردت أن أقرأه، فكنت أتناول ما يصادفني كيفما اتفق. في إنجلترا، بدت فرصة القراءة بلا حدود، وببطء بدأت الإنجليزية تبدو لي بيتا رحبا فسيحا، يقابل الكتابة والمعرفة بترحاب وأريحية. وهذا أيضا كان مسارا آخر للكتابة. فأنا أعتقد أن الكتَّاب ينتهون إلى الكتابة من خلال القراءة، وأنهم من خلال عملية المراكمة والزيادة، والأصداء والتكرارات، يهيئون سجلا يمكِّنهم من الكتابة. هذا السجل شديد الرهافة والرقة، وليس طريقة يسهل طوال الوقت وصفها، برغم تفاني نقاد الأدب في ذلك: فهو ليس برنامجا أو أداة لتطوير قصة، لكنه حينما ينجح يكون مركّبا ملائما ومقنعا مؤلفا من نقلات سردية. لا أود أن أطرح هنا لغزا، أو أقول إنه يستحيل الكلام عن الكتابة أو أن النقد الأدبي وهم ذاتي. فالنقد الأدبي يعلمنا النص والأفكار التي تتجاوز النص، ولكنني لا أعتقد أن الكاتب يعثر من خلال النقد على سجل الكتابة الذي أتكلم هنا عنه. فذلك يحدث من خلال مصادر أخرى، والقراءة مركزية بينها.
كنت أتعلم من المسجد، ومن مدرسة تحفيظ القرآن، ومن الشوارع، ومن البيت، ومن القراءة الفوضوية
كان التعليم المدرسي الذي تلقيته في زنجبار بريطانيا كولونياليا، حتى وإن كنا في مراحله الأخيرة قد تحولنا ـ لفترة وجيزة ـ إلى دولة مستقلة ثورية. وقد يصح أيضا القول بأن أغلب الصغار يمرون بتجربة الاكتساب والتخزين المدرسي للمعرفة فلا يكون له معنى لديهم في حينه، أو أنه يبدو أمرا مؤسسيا منقطع العلاقة بهم. أعتقد أن الأمر كان أكثر إلغازا بالنسبة لنا، وأن كثيرا للغاية مما تعلمناه جعلنا نبدو مستهلكين عارضين لمواد موجهة إلى غيرنا. ولكن ذلك أثمر ـ كما في حالة تلاميذ آخرين ـ عن نفع ما. فما تعلمته في هذه الدراسة، بين أشياء قيمة كثيرة أخرى، هو كيف كان البريطانيون ينظرون إلى العالم وكيف كانوا ينظرون إليَّ أنا. لم أتعلم ذلك على الفور، بل بمرور الوقت ومن خلال التذكر، وفي ضوء تعليم آخر. ولكن ذلك لم يكن التعليم الوحيد الذي تلقيته. فقد كنت أتعلم من المسجد، ومن مدرسة تحفيظ القرآن، ومن الشوارع، ومن البيت، ومن القراءة الفوضوية. وما كنت أتعلمه في تلك الأماكن كان في بعض الأوقات سافر التناقض مع ما كنت أتعلمه في المدرسة. ولم يكن هذا معيقا بقدر ما يبدو، برغم أنه في بعض الأوقات كان مؤلما ومخجلا. بمرور الوقت بات التعامل مع تلك السرديات المتناقضة بهذه الطريقة يبدو لي عملية دينامية، حتى وإن كانت بطبيعتها الأصيلة عملية تتم من موقف الضعف. منها أتت طاقة الرفض والاعتراض، وتعلم التشبث بالتحفظات التي سوف يبقيها الزمن والمعرفة. ومنها أتت طريقة للتكيف مع الاختلاف وأخذه في الحسبان، وتثبيت فرص طرق أخرى أكثر تعقيدا للمعرفة.
وهكذا لما بت أكتب، لم أستطع ببساطة أن أخلط نفسي في الزحام راجيا أن يصادف الحظ صوتي فيسمع. كان عليّ أن أكتب عارفا أنه بالنسبة إلى بعض قرائي المحتملين ثمة نظرة إليَّ لا بد أن آخذها في الحسبان. كنت أعي أنني قد أمثل نفسي أمام قراء لعلهم كانوا يرون أنفسهم المعيار، متخففا من الثقافة أو العرق، متخففا من الاختلاف. لم أدر كيف أحكي، وأي قدر من المعرفة أبتغي، ومدى فهم سرديتي إذا لم أفعل. لم أدر كيف أفعل هذا كله وأكتب في الوقت نفسه أدبا قصصيا.
بالطبع، لم أكن فريدا في هذه التجربة، برغم أن التفاصيل تبدو دائما فريدة حينما يرهقها المرء. ثمة من يذهب إلى أنها ليست أصلا بالتجربة المعاصرة أو الخاصة على النحو الذي أصفه هنا، ولكنها سمة في كل الكتابة، فكل كتابة تبدأ بإدراك ذاتي للهامشية والاختلاف. بهذا المعنى، فإن الأسئلة التي أطرحها هنا ليست بالأسئلة الجديدة. ولو أنها ليست جديدة، فهي مع ذلك تتأكد وتتغير بالخصوصية، بالإمبريالية، بالانخلاع، بواقعات زماننا. وواقع من واقعات زماننا يتمثل في انزياح الكثير للغاية من الغرباء إلى أوربا. وإذن، هذه الأسئلة لم تكن تشغلني وحدي. ففيما كنت قلقا بشأنها، كان آخرون، غرباء مثلي في أوربا، يعملون على مشكلات مثل هذه تماما في الوقت نفسه محققين نجاحا ضخما. وبسبب هذا النجاح الضخم لدينا الآن فهم أرهف وأدق لسردية وكيفية انتقالها وترجمتها، وهذا الفهم جعل العالم أقل استغلاقا، وجعله أصغر حجما.
___________
نشرت هذه المقالة في مجلة (World Literature Today) مجلد 78، رقم 2 (مايو ـ أغسطس ـ 2004) والمجلة تصدر عن مجلس أوصياء جامعة أوكلاهوما.
نشرت الترجمة في جريدة عمان في 11 أكتوبر 2021
إرسال تعليق