شاعر يشكل عوالمه على صيغته، يمخر الذكرى بقوارب الحنين إلى ريشه الذي تركه وراءه في عمان، يشعل الخطو إلى المكان الأول، ويشرع نافذة على دهشة الأشياء وما تقترحه شعريا على الذات المتشظية ، هو شاعر يبحر على مشيئة الياسمين إلى ما يفجر ينابيع القصيدة لتنساب وفق مقول شعري يرسم للجراح أخاديدها بلغة غنائية تتناثر على امتداد الديوان، إنه الشاعر الأردني حسن جلنبو، الذي صدر له مؤخرا ديوانه الأول :(زهر حزيران)، ففتحنا معه هذا الحوار كي نقترب أكثر من إستراتيجية الكتابة لديه.
الاحتفاء
بالمكان والزمان في ديوان ( زهر حزيران) ينهض بمفاصل التجربة الشعرية ولا يني عن
الزج بها في دوائر الحنين والأمومة والفقد، باعتبارها ثيمات تؤسس
للقول الشعري ..كيف شدك المكان شعريا لدرجة انك اضطررت لوضع مقدمة تضيء فيها هذه
الطقوس التي أنتجت هذه التجربة شعريا؟
وإن من الضرورة بمكان، النظر إلى
الإرهاصات، والدفقات الشعورية التي أسهمت في تشكيل الرؤية الشعرية في ديوان “زهر
حزيران”، بشكل عام بحيث تأتلف معظم قصائد الديوان ضمن إطار يتسم بالحنين والشوق،
ولعلَّ سنوات الغربة، كانت الداعي إلى تدفق الحنين بين طيات القصائد، ليشمل:
الحنين إلى رائحة الأمِّ التي ترتبط بالمكان وترمز إليه، وإلى مرابع الصبا، وبيت
الطفولة، فيجد في تشخيص الأماكن القديمة متنفسا، وتعويضا عن الفقد، فيهرب إليها
بعيدا عن واقعه ويسقط عليها رؤاه، للبوح عن مكنونه، لذا فقد كان لا بد من إضاءة في
مقدمة الديوان تضع القارئ في صورة الإطار العام للقصائد والتي تضوع شوقا وحنينا،
إذ إن الارتباط بالمكان والناجم عن البعد والفقد سيكون له أثره بكل تأكيد على
الدفق الشعوري فيرسم صورة متكاملة تجمع قصائد الديوان، لتصوِّر رحلة النزوع إلى
بيت الطفولة ومرابع الصبا، على نحو يبرز الحنين إلى الحميمية التي يفتقدها في غربته
– تحضر في الديوان تجربة المزاوجة داخل النص الواحد بين
تشكيلتين وزنيتين وهذا ما يحيل القارئ إلى تجربة الرومانسية المهجرية تحديدا فما
الرهانات التي كنت تتغيا وانت تطرق هذا الشكل المزدوج؟؟
إن المراوحة بين القصيدة
العمودية وقصيدة التفعيلة في النص الواحد قد يكون انعكاسا لازدحام الدفقة الشعورية
في ذهن الشاعر وقت كتابة القصيدة بحيث تهجم عليه موسيقا النص فتحمله بين الأصالة
والمعاصرة، لتجده يمزج داخل القصيدة بين النوعين، وقد تبدى ذلك في أكثر من قصيدة
في الديوان، ولعله أكثر حضورا في قصيدة “زهر حزيران” التي سُمّي بها الديوان،
وتجدر الإشارة إلى أن الإرهاصات الداعية إلى كتابة هذه القصيدة كانت ناجمة عن فيض
من الحنين إلى الزمن الماضي، بالشخوص الذين كانوا يمثلون جزءا أساسيا من تكوين تلك
المرحلة، والذين كان لهم حضورهم في قصائد عامودية رافقت بداية النظم الشعري قبل أن
اكتمال نضج التجربة الشعورية، والقدرة على قيادة قصيدة التفعيلة بكل مهارة، فقد
كان لازدحام الدفق الشعوري أثر واضح في تركيب جسم النص الشعري في هذه القصيدة على
نحو يمزج بين النوعين الشعريين لرسم صورة واحدة ينتقل فيها من وصف أثر الـ
“حزيران” هذا العام، وما جاد به من حلل الوصل والوئام الانتقال إلى أنسنة الحزيران
ومخاطبته ودعوته إلى الانتظار والتمهل.
– في بعض النصوص، تستوقفنا مرجعيات وظلال بعض الشعراء
العرب (لغة الحديث اليومي مع صلاح عبد الصبور، غنائية حجازي وملحمية محمود درويش
ونثرية سعدي يوسف)، فهل كانت العملية واعية أم هي هيمنة المقروء وهو يتجلى عبر
مقولك الشعري؟؟.
لا بدَّ أن المرء خلال سنوات
الدراسة والقراءة والاطلاع، سيتأثر بالمخزون المعجمي المعرفي الذي تشكل لديه بموجب
تركيزه على جانب معين من القراءة وفقا لما تميل إليه نفسه، ولستُ أنكر تأثري
الشديد بأسلوب كل قباني، ودرويش، ومعجمهما الشعري، وقراءاتي المتعددة في نتاجهما
الأدبي، ولكنني لا أستطيع أن أجزم بأنني أتعمد إبراز هذا التأثر فيهما بالدرجة
الأولى، فتجدني في كثير من القصائد بعد الانتهاء من كتابة القصيدة أتنبه إلى ذلك
الحس النزاري أو الدرويشي بسبب الشوق إلى المحبوبة / الأرض في شعريهما، فيتبدى هذا
التأثر جليا من خلال حضور روحيهما في النصوص.
– لشدَّ ما راعني تعاملك مع المرجعية القرآنية ( في
قصيدة :( لعلي أراك) على سبيل التمثيل) فإلى أي مدى استطاعت القصيدة العربية
الحديثة التعاطي مع النص القرآني من منظور شعري عميق؟؟.
إن عملية توظيف الموروث داخل السياقات الشعرية مسألة
على قدر من الأهمية، بسبب ارتباطها بالمتلقي، إذ إن مقدار تفاعل المتلقي مع
القصيدة يكمن في مقدار شعرية توظيف الشاعر للموروث، وقد استطاع عدد غير قليل من
الشعراء المعاصرين توظيف الموروث، بكل أنواعه داخل منظومة النص المعاصر، ولا شكّ
في أنّ القرآن الكريم كان له أثره البالغ على الأدباء، والنظر إليه باعتباره مصدرا
يستلهمون من آياته مادة القصيدة من خلال الاتكاء على الموروث القرآني في تشكيل
مضمون النص المعاصر.
وبالإشارة إلى التناص مع القرآن
الكريم في زهر حزيران، فإن القارئ لقصيدة “لعلي أراك” يلحظ أن الرمز القرآني جاء
وفقا لدلالة مغايرة تماما حيث أوى ولد سيدنا نوح عليه السلام إلى صخرة ظنا منه
بأنها ستنقذه من الغرق، في حين يأوي الشاعر نفسه إلى ربوة من هوى المحبوبة / الأرض
تكون سببا في وصالها ورؤيتها واللقاء بها بعد سنوات من الهجر، ثم يتجاوز الرمزية
إلى دلالة أخرى جديدة فالماء الذي كان سببا في غرق ولد سيدنا نوح، يصبح هو السبيل
للقاء الشاعر بالمحبوبة، التي يفصل بينهما البحر، في إشارة مباشرة لغربة الشاعر،
كما يلتقي رمز الماء برمز مريم العذراء، ولكن بمنظور مغاير فإن المحبوبة هي التي
تمسك جذع اللقاء بيديها، وذلك كناية عن امتلاكها مفاتيح هذا اللقاء المنتظر.
– ما الأفق الذي تجترحه وأنت تحتمي بالقصيدة ؟
في كبرياء الشعر، “لم أزل أبحث
عن طيف بهيٍّ لم يجئني”، لعل هذه العبارة تشير إلى المدى الذي أطمح إليه في
قصائدي، فأنا ما زلت رهن فترة من الزمن هي الحاضرة في تفاصيل يومي وحنيني، ألتمسها
في وجوه العابرين، وفي قصائد الشعراء، وتوصيفاتهم، ولذلك فقد وجدتني أكتب الشعر
سلسا عذبا يخاطب الأرواح قبل العقول، ليس يعنيني في القصيدة أن تكون وعرة متكلفة،
لا تهدف إلا إلى إبراز المخزون الثقافي والمعرفي والتراثي، بقدر ما أطمح إلى جعلها
لوحة فنية مرسومة بريشة فنان يهوى الطبيعة وإبراز جمالها بعيدا عن التعقيد
والإسراف في الخيال، ولعل شعر الحنين والشوق يتطلب من الشاعر أن يكون مباشرا في
التعبير عن مكنونه، وإخراج ما يعتمل في نفسه على نحو يصل إلى قلوب القارئين
والمستمعين، بألفاظ أنيقة رشيقة لا تحويلها إلى فلسفة عميقة دقيقة.
إن قصائد “زهر حزيران” كُتبت
معظمها خلال الشهور القليلة الماضية، وبالتالي فهي تحمل صفة عامة مشتركة في
غالبها، تنزع إلى الحنين والشوق والرغبة في اللقاء، وقد يتبدى ذلك جليا من خلال
كثرة ورود الألفاظ التي تشي بالرحيل والحنين والسفر والمرافئ، وغيرها، فهي تحاكي
الوجدان بشاعرية عاشق يصور المرأة الحبيبة والعشيقة والرفيقة كامرأة حقيقية
تسكن الفؤاد، وكرمز للقيم الجمالية بحيث تعكس المشاعر التي تعتري الشاعر في غربته،
وما نتج عنها من مرارة تتمثل في حالات الفقد التي عاشها بعيدا عن الأهل والوطن،
كما يعكس مكانا في قلبه لامرأة أخرى هي الوطن.
مصطفى بدوي شاعر وكاتب- من المملكة المغربية :
حاصل على دبلوم الدراسات المعمقة عام 1992 – عضو اتحاد كتاب المغرب
منذ 1996. من دواوينه: هذيانات على قارعة الروح 2004. وديوان ترميم المسافات
(أشعار بالعربية والفرنسية ) بالاشتراك مع الشاعرة الكندية مارتين جاكو/2010
– شارك في مهرجانات وملتقيات عربية في بيروت ودمشق وتونس ..وغيرها – نشر في منابر
متعددة: إبداع المصرية.ثقافات البحرينية.الثقافة التونسية .آفاق المغربية.ضفاف النمساوية
.وغيرها – ترجمت نصوصه إلى الإنجليزية والسلافية والألمانية واليونانية .
حسن عطية جلنبو :
شاعر أردني مقيم في دولة الإمارات العربية
المتحدة يحمل درجة الماجستير في الأدب العربي المعاصر.- عضور رابطة الكتاب
والأدباء الأردنيين – صدر له : كتاب بعنوان “ملامح التراث في الشعر الفلسطيني-
معين بسيو أنموذجا”. وديوان شعر بعنوان “زهر حزيران”- دار: الآن ناشرون وموزعون-
الأردن ويعمل محررا إعلاميا في شركة مياه وكهرباء الإمارات
_____________________.
المصدر:
شبكة أخبار الإمارات
إرسال تعليق