ثقوب سريّة في غابات الأمازون عرض متسارع للأحداث
بقلم: الناقد د. سلطان الخضور
أجمل ما في رواية محمد ثامر التي زاد عدد صفحاتها عن الخمسمائة صفحة ما تمثل في شكر الكاتب لأمه وإهدائه الرّواية لأبيه الذي مضى دون أن يمر بحروفها, وهذا يعكس نفسيّة الكاتب الذي تربى على البر, والبر من حسن التربية والأيمان.
مقدمة
الرّواية جاءت على غير المألوف, حادة كالسّيف, وحملت حكماً مسبقاً من الرّاوي على
أنها قنبلة موقوتة, ونزعت نحو فلسفة محمودة قوامها عدم تقدير بعض المجتمعات لجهود
بعض العباقرة الذين لم يلتفت إليهم التاريخ, ولم تتعرف عليهم الشّهرة
أو الجوائز, وهم الأجدر بتقييم هذه الجوائز لأن هدفهم سامٍ, وهو إنقاذ العالم
عندما تصبح الحياة أكثر صعوبة, وفي ذلك إشارة واضحة لعدم وجود العدالة على الأرض,
وأن هناك خللا في أساليب التقييم.
مفردة ثقوب التي وردت في العنوان تشير
إلى أن هناك خللاً ما يستدعي التأمل والتّفكر, أما مفردة
سريّة فهي مفردة محفّزة للمتلقي تثيره ليبحث عن ماهيّة هذه الثقوب وعن مكامنها وعن
سبب وجدوى وجودها, وبشكل عام تثير تساؤلات تبحث عن إجابات, بالإضافة للثقوب التي
قد لا تكون بادية للعيان, إلا أن هذه الثقوب ما تلبث إلا وتظهر إما بشكل عفوي أو
لمن أراد البحث عنها.
وكأني بالعنوان قد تم استيحاؤه من
ثقوب في طبقة الأوزون وهو الذي سبب تغيراً في
المناخات الدوليّة لأنه والحالة هذه, ستغير هذه الثقوب النظرة إلى العالم, ليصير
ثقوب في غابات الأمازون, وقد نجح المؤلف في هذا المجال حيث استطاع لفت انتباه
القارئ لوجود ما يستحق القراءة.
وقد أوحى الإهداء بثقة الكاتب العالية بنفسه حيث قال" وستبقى
كتاباتي ضوءً ساطعاً يضيء ما حوله, ويزرع الأمل في قلوب الآخرين" وكان الأولى
أن يترك الكاتب الحكم على كتاباته للمتلقي ولا يطلق أحكاما مسبّقة عن نفسه فالحكم
للقارئ وليس للكاتب.
أبدع الكاتب حبك روايته بسلاسة, وبدأ
بالتأزيم شيئاً فشياً, واستخدم لغة الألغاز بشكل لافت, واستطاع سحب ذهن القارئ,
وتحت ضغط الأحداث ألمثيرة يجبر المتلقي على المتابعة, لأنه يتوق لمعرفة النهايات.
تقودنا الرّواية إلى البحث في فلسفة الممكن
والمستحيل, والممكن لا يحتاج إلى تفصيل لوجود احتمال أن يكون, بغض النظر عن نسبة
هذا الاحتمال, لكن السؤال هو هل يمكن للمكن أن يصير مستحيلاً وهل يمكن أن يتحول
المستحيل ممكنا؟
قد يصبح المستحيل في زمن ما ممكناً في زمن آخر,
فلو خاطبت شخصاً قبل خمسين عاماً وأخبرته أنك تستطيع التواصل مع عشرات الأشخاص
وتراهم ويرونك, لقال لك مستحيل, لكنه الآن صار ممكناً, ولو قلت الآن أنك تستطيع أن
تحاور الكرسي الذي تجلس عليه لقيل لك مستحيل. لكن يجب أن ندرك أن المستحيل إذا صار
ممكناً فإنه لم يعد مستحيلاً , ويجب أن ندرك كذلك لأن الممكن ممكناً فلا يمكن أن يتحول
إلى مستحيل.
لكن هناك من المستحيلات التي لا يمكن
أن تخرج عن دوائرها, كقضيّة إعادة الروح بعد خروجها من الجسد, وبث
الروح في الجمادات وجعلها تتحرك أو تتكلم. هكذا هي الرواية التي قرأت, جعلت من
شخصيّة الرجل المستحيل الذي أطلقت عليه الرّواية ( واي) ممكناً وحولت
الرمال ذهباً وأشعلت نوراً أضاء البرازيل من الثقوب التي وجدت في غابات الأمازون,
لكن ذلك كان من باب الخيال.
وقد ناقشت الرّواية في
معظم تفاصيلها الصراع المحتدم بين الخير والشّر, وهذا الصراع وجد حين وجدت
البشرية, والخير والشرّ متلازمان متضادان, لا يرتبطان أبداً بجغرافيا ولا بدين,
وليس هناك ما يمكن اعتباره مجتمعاً نقياً, والأشرار في كل المجتمعات لكن الأمر
نسبي وغير مطلق, فنسبة الخير والشرّ متدرّجة, والشرير قد يصبح خيّراً والعكس صحيح,
لكن ما هو صحيح أن هناك طابعاٍ عاماً يغلف سلوك الأشخاص, والخير الذي مثلته عائلة
وسام وصديق إدريس نيكولا وعمّه رالف وحارس المقبرة والطبيب جاك والطبيب النفسي
بودا الذي يعالج مرضاه مجاناً ,ويجهد في رسم البسمة على وجوه مرضاه وسيجا الذي
يعمل لدى كارلوس في المصنع. والشر الذي تمثل بليزا وابنها وموظفي السوبرماركت
والمخبز وصاحب مكتبة الفرح ومحل النهاية لمواد البناء.
وقد بدا الخير كما بصيص النور
الذي يرى عن بعد لكثرة المناطق المظلمة التي توزعت على جغرافيا الرواية ومساحاتها.
استخدمت الرّواية أيضاً روح المغامرة
والتحدي, وكل المجتمعات تحتوي على المغامرين, وكل المجتمعات فيها ما
يستحق المغامرة, وفيها مناطق يمكن أن تمارس المغامرة بين جنباتها, لكن الأمر هنا
مختلف, فجزء من أحداث الرّواية دار في منطقة تكثر فيها الحيوانات
البرّيّة المفترسة, وفي مكان يعيش فيه بعض من آكلي لحوم البشر. فحثت
الرّواية على الشجاعة والإقدام, وأن الخوف ليس من دروب النجاح, فالطموح
يقتله الخوف وتنعشه المثابرة, وأن كل إنسان يعيش لمسألة, يجب أن يوظف كل الظروف
المحيطة لإنجاحها, وبينت أن على الإنسان أن يكون خلّاقا ومبدعاً ومفكراً, وحفزت
القارئ على الشك والبحث المستمر عن حلول لمسائل تحتاج إلى إعمال الفكر وأن الوجبات
الجاهزة عديمة الفائدة.
نجح الكاتب في رسم نهاية سعيدة, وضعت حداً
لحالات الفقر, وأنارت درب العالم وغيرت مسار الحياة لديهم, لكن الطريق
إلى السعادة كان محفوفاً بالمخاطر ومليئاً بالأشواك استطاع أبطال الرواية تجاوزها,
رغم المهام الصعبة التي كان عليهم الدخول في معتركاتها.
قدمت الرواية بنجاح صورتين للوحوش, النوع الأول الوحش المعروف الذي يكون على هيئة حيوان, وهذا الوحش لا يفترس إلا إذا جاع أو شعر بالخطر
أما عنصر المكان في الرّواية وهو مدينة ماناوس
عاصمة ولاية الأمازون وغابات الأمازون في البرازيل, فقد أشارت الرّواية
إلى أن طرق الوصول إليها إما عن طريق القارب أو بالطائرة, ما أوحى للمتلقّي بصورة
للمدينة المغلقة, التي يحتاج الوصول إليها إلى جهد, فهي غير متّصلة براً, ما حدَّ
من تواصلها مع العالم الخارجي, وهذا فيه إشارة إلى عقليّة ساكنيها التي جعلت منهم
أناس بطيئي التطور حتى في سلوكهم الذي مثله وليام, عندما اعتدى على العربي مازن,
وضربه بحجر كاد أن يودي بحياته في حينه, لأنه لم يسمح له بالغش عنه بالامتحان,
بالإضافة لوصف الرّواية لأمّه ليزا بالشرّيرة, وهذا المشهد بحد ذاته يعكس شيئاً من
المعاناة التي يعانيها من يعيش في الغربة, وأقرأ فيه أيضاً أن الوطن الذي بدا
طارداً, هو الأولى بأبنائه وأن كرامة المواطن في وطنه لا في بلاد المهجر.
وقد أشارت الرّواية إلى العدالة والصدق,
وتمثل ذلك بالحكم بالسّجن ثلاث سنوات على وليام, واقرار وسام بعمليّة التوافق
المالي بالنسبة لتكاليف علاج ابنه مازن.
ناقشت الرّواية قيمة مهمّة من القيم
الاجتماعية, وهي قيمة التضحية حيث ضحى إدريس توأم مازن بدراسته وبجهده وتحمل مشاق
العمل لأجل عائلته, وفي ذلك إبراز لتماسك العائلة العربيّة المسلمة.
قدمت الرّواية لمقولة كتبتها كقول لا بد منه
مفادها" قد يعجز مال الدنيا عن استجلاب لحظة من لحظات السعادة, وقد يعيشها من
يقتات على كسرة خبز", فكارلوس الذي يملك قصراً وطائرتين وسبعة مصانع, كان
عبداً للمال ولم يشعر يوماً بالسعادة, والشجار مع زوجته تينيا بشكل
يومي, حتى بلغ الأمر بابنه الطيب البرتو القول" لقد سئمنا الشّجار كل يوم,
نريد أن نعيش مثل باقي الناس, لماذا الشّجار؟ ولماذا الصراخ؟.
قدمت الرواية بنجاح
صورتين للوحوش, النوع الأول الوحش المعروف الذي يكون على هيئة حيوان, وهذا الوحش
لا يفترس إلا إذا جاع أو شعر بالخطر, أما النوع الثاني وهو الأخطر, فهم وحوش
البشرية هذا الذي يفترس وهو شبعان ويشعر بالدفء ويملك المال الوفير والقصور الفارهة, وهذا الوحش ليس
لديه وقت محدد للافتراس, فكل الأوقات ملائمة وكل الناس لديه مشروع فريسة سيلتهمها
وهو يتجشأ أو يتدرع من الشبع, لكن الطيبين في مجتمع الرّواية كشواهد المسبحة عند
المسلمين.
كان المثل العربي " ليس كل ما يلمع
ذهباّ" عل تماس مباشر مع كثير من مشاهد الرّواية, فكم من شيء تحسبه ماءً
وواقعه سراب بقيعة, وكم من عمل كان ظاهره مريحاً لإدريس المغامر الطيّب والمضحي,
لكنه عندما ينخرط بالعمل يجد التوصيف الوظيفي مختلف تماما عن الواقع, لم يكن ذلك
ليكون لولا وجود الوحوش البشرية التي أشرنا إليها.
هذا وقد قدمت الرّواية بعض
المعلومات العلميّة عن الشّلل النصفي, وعن تأثير زيادة نسبة السّكّر بالدّم
وتأثيره على الأوعية الدمويّة.
فنيّا
1- احتوت الرّواية على المتطلبات اللازمة للنشر والتوزيع وخلت من
الأخطاء الإملائيّة والنحويّة.
2- لغة الرّواية هي اللغة العربيّة الفصيحة, ومفرداتها ميسّرة
ومفهومة من قبل المتلقي بغض النظر عن مستواه الثقافي أو التعليمي.
3- توالت أحداث الرّواية بشكل متسلسل, جعل المتلقي يتوق لمعرفة الحدث
القادم.
4- مالت الرّواية إلى السرديّة الغارقة في التفاصيل والتي كان من
الممكن اختصارها والاكتفاء بالجمل التي تفي بالغرض مثل" قال مرحباً ..قال أهلاً
وقال شكراً وقال عفواً".
5- تمنيت لو تم تقسيم الرّواية إلى فصول, والفصول إلى فقرات, وحصر كل
فكرة بفقرة, لتتماشى مع نموذج الكتابة, مما يجوّد العمل ويزيد من تركيز المتلقي,
ويضفي على الرّواية رونقاً فنيّاً أكثر جمالاً, وينحي التداخل بين المشاهد.
6- عرضت الرواية مشاهد متتالية ومتلاحقة لا تخدم المتلقي في كثير من
المواقع في الفصل بينها, وكان التداخل في المشاهد غير مريح للقارئ.
7- ما يحسب للرواية أيضاً التنوع في أمزجة وتربية شخوصها, فعرضت صورة
لمجتمع غير متجانس يعشعش الشر في جنباته لكنه لا يخلو من الخير, مجتمع فيه الغني
والفقير واللطيف والشّرّير, ولم يكن هناك تداخلاً بين الشخوص فلكل
معالمه الخاصة بشخصيته.
إرسال تعليق