الشاعر خالد جمعة: هذا ما حدث تماماً
أن ظلوا لخمسة أيامٍ يشربون المشاهد في طبيعة البلاد، يأكلون بقايا التين على أشجارها، ويتمرغون في الرمل الذي أصابه الحنين، كان النفق وراءهم، والجنودُ وكل شيء، اغتسلوا بماءٍ ليس ماءً، وانتقلوا بخطواتٍ كثيرةٍ بين مزارع أجدادهم، وقفوا كثيراً أمام مشهد الشروق، وأكثر أمام مشهد الغروب، فيما كان الجنود يلوكون أحزمة بنادقهم غيظاً، ويمطرون قادتهم بنظرات حقدٍ قليلة المعنى، قلتم لنا إن الله معنا، وأن الفلسطيني لا يمكنه أن يتحدى إلهنا الذي وهبنا العظمة والقدرة على استعباد الشعوب، فكيف استعبدوكم واستعبدونا؟
كيف مرّت تلك الساعات فيما الليلُ مستيقظٌ كحارسٍ مُحبّ؟ وهل يجرؤ الشعراءُ على مجاراة المسافة بين الزنزانة والشمس؟ ومن أين أتى اليقينُ ليفتت الإسمنت كأنه لعبةُ أطفالٍ على رمل الشاطئ؟ الجدار يتذكر كم قطةً قتلها الحرّاسُ لأنها تجرأت على المسافة المحرمة، فكيف كنتم أكثر خفة من قطة؟ كيف كنتم أشباحاً أمام التكنولوجيا؟ كيف هزمتم صندوق الناخبين وأنتم في ملابس السجن، والأسلحة بعيدة عن أيديكم؟ كيف سرتم كل تلك الأمتار الهائلة والمعبأة بالمعاني والخيال السينمائي العريض؟
المعجزة، هي أن تخطّ حكايةً مستحيلةً في جدار خيالك الشخصي،
أمهاتكم الآن، الآن بالذات، يضحكن في سرّهنّ، يعرفنكم أكثر مما تعرفُ الزعرورةُ تربتها، لم تكن لديكم القدرة على المناورة معهن، ناورتم جنوداً وأفكاراً وعربات عسكرية، ناورتم جبالاً وأوديةً وكهوفاً وضباعاً، ناورتم أمطاراً وصيوفاً وغيوماً، لكنكم أمامهن كنتم تلقون كل الخدع العسكرية والمدنية، وتقبلون أيديهن، وتعتذرون دون أن يلمنكم، ودون أن تبوحوا بشيء، كأنكم حكاية معروف آخرها عندهن، لذا يضحكن في سرّهن، ويهمسن لبعضهن: نحن أمهات هؤلاء، وهذا ما نسميه: رضى الله.
هذا هو العرس الذي يتساءل المارّون عن أسراره، هذا هو تماماً ما حدث في الحكاية من أولها، أولها الذي ما زال في أوله، البدايات دائما تتعثر قليلاً لأن العالم يكون غافياً على ذراع الخيبة قليلاً، ثم يكتشف أن الأشياء المستحيلة ممكنة، مثلاً، أن يصعد جسدٌ إلى حرية الغابات دون جناحين، أو أن تلقي طفلة لم تتعلم الكلام بعد، خطبةً تثوّر الريح وتقلقُ الطائرات الحربية، كل هذا ليس معجزةً كما ظننا، وكما سيظن كثيرون إلى الأبد، المعجزة، هي أن تخطّ حكايةً مستحيلةً في جدار خيالك الشخصي، وفي الصباح الذي يلي ذلك، تكون الحكاية بكل تفاصيلها قد صارت واقعاً، واقعاً لم يصدقه أحد إلا بعد أن شاهد العالم دعساتٍ على التراب، تنمو وتنمو، إلى أن صارت بلاداً، وكل ما تفكر فيه الآن هو شكل العاصمة، وعدد الأشجار في غاباتها.
___
عن صفحة الكاتب الشخصية " فيسبوك"
إرسال تعليق