المبادئ الأخلاقية في التاريخ والمجتمع
1
التفاعل
الإنساني مع عناصرِ التاريخ وتراكيبِ البُنى الاجتماعية ليس له قانون ثابت ، لأن
شرعية التفاعل الإنساني مُستمدة مِن قُدرته على توليدِ قوانين جديدة ، وكسرِ
القوالب الجاهزة ، والخُروجِ مِن الأُطُر المفروضة على أنظمة المجتمع التي تُعْتَبَر
المُحرِّك الحقيقي لتاريخ الفرد والجماعة . والتوليدُ المُستمر للقوانين المعرفية
يهدف إلى تكوين أنساق مجتمعية وظيفية تستطيع الربطَ بين حركة التاريخ والحراك
الاجتماعي في الظواهر الثقافية ، باعتبار أن الثقافة هي النسقُ الحاكم على
انعكاسات الشعور في الواقع المادي ، والسياقُ المُتحكِّم بفلسفة العلاقات
الاجتماعية ، التي تعتمد على المبادئ الأخلاقية ، وتستند إلى المعايير الإبداعية .
مَن عَجَزَ عن إيجاد مكان له في فضاء التحولات الاجتماعية، فإنَّ الآخرين سيفرضون عليه شُروطَهم
2
أهمية
المبادئ الأخلاقية تنبع من قُدرتها على تفكيك عناصر التاريخ ، وإعادة تركيبها ، من
أجل تكوين منطق إنساني واقعي يُنظِّم التجاربَ الواعية التي يتفاعل معها الإنسانُ
في رحلة بحثه عن المعنى . وكما أن الحقيقة التاريخية لا تنفصل عن الماهيَّة
الأخلاقية ، كذلك المنطق الإنساني لا ينفصل عن التجربة الواعية . واستحالةُ الفصل
بين هذه المُكوِّنات المعرفية تُشير إلى أن وجود الفرد في التاريخ يُمثِّل مسارًا
مُتَّصِلًا بلا فواصل زمنية ، وأنَّ سُلطة التاريخ تُشكِّل وحدة وجودية لا تتجزَّأ
، ولا تنفصل عن سلوك الإنسان ذهنيًّا ونَفْسِيًّا. وكُل المسارات التاريخية تلتقي
في بؤرة إنسانية واحدة ، تُجسِّد الوَعْيَ كنقطة مرجعية في السلوكيات الاجتماعية
المنفتحة على إرادة التغيير ، ونقل شخص الفرد إلى الشخصية ، أي : نقل الفرد من
الوصف الخارجي والعَرَض الظاهري إلى الجَوهر المُميَّز الذي يُثبِت قيمته بواسطة
الفِعْل لا الشكل . وبالتالي ، تُصبح قيمةُ الفرد ما يُتقنه ، وما يُضيفه إلى
الحضارة الإنسانية، وتتحدَّد كَينونةُ الفرد وَفق ما يَمنحه، ولَيس ما يَملكه.
وهذه العمليةُ الوجودية ذات الطبيعة الفردية ( إثبات وجود الفرد في صَيرورة
التحولات الاجتماعية ) ، لا تنفصل عن عملية نقل المجتمع مِن الخِبرة الذاتية إلى
التعبير عن الذات بشكل فعَّال ، لأنَّ المُجتمع إذا لَم يَكشف هُويته الذاتية ،
ويُبرز سُلطته الاعتبارية، ويتحدَّث باسم نَفْسِه، فإنَّ الآخرين سيتحدَّثون باسمه
، ويُحدِّدون هُويته ، ويُجرِّدونه مِن سُلطته. ومَن عَجَزَ عن إيجاد مكان له في
فضاء التحولات الاجتماعية، فإنَّ الآخرين سيفرضون عليه شُروطَهم ، ويُحدِّدون
مكانَه ومكانته وفق مصالحهم . ومَن لم يَقْدِر على صناعة رؤيته الشخصية ، فسوفَ
تتم مُحاصرته في زوايا الرؤية التي يُعدِّلها الآخرون لإثبات وجودهم ، ونَفْيِ كُل
الكِيانات الخارجة عن نطاق وجودهم .
إنتاجِ منظومة معرفية قادرة على التَّأمُّل في اللغة والشُّعور والتاريخ والمجتمع
3
المبادئ
الأخلاقية تَملِك سَطْوَةً وُجوديةً على عناصر التاريخ ، وتَمتلِك سُلطةً تحليليةً
في جسد التاريخ . وهي أيضًا تَملِك تأثيرًا ثقافيًّا على أشكال التفاعل الاجتماعي
اليومي ، وتَمتلِك سِيادةً فكريةً في تراكيب البُنى الاجتماعية . والسِّياقُ
الاجتماعي قد يتكرَّس على أرض الواقع بدون نسق أخلاقي ، ولكنَّه سيظل سياقًا
عابرًا بلا وجود حقيقي ، لأنَّه يفتقر إلى الشرعية والمِصداقية ، وليس كُلُّ
مَوجود يَمتلك شرعيةَ الوجود . والبُنى الاجتماعية لا تكتسب أهميتها وشرعيتها من
وجودها في الإفرازات اللغوية ، واستقرارها في الأحداث اليومية ، وتمركزها في
الطبيعة الوظيفية للكِيان الفردي كنظام إنساني ، والنظامِ الجماعي كَكِيان اعتباري
، فَحَسْب ، بل أيضًا تكتسب أهميتها وشرعيتها من قُدرتها على إنتاجِ خطاب أخلاقي
يُؤَثِّر في فلسفة العلاقات الاجتماعية ، ويتأثَّر بالشعور الفردي والطموحِ
الجماعي ، وإنتاجِ منظومة معرفية قادرة على التَّأمُّل في اللغة والشُّعور
والتاريخ والمجتمع ، تُوَازِن بين تأسيسِ الدَّلالات الجوهرية المعنوية في الحياة
المادية ، وتوليدِ الأبعاد الفكرية المركزية في المنظور الذهني .
_____
/ كاتب من الأردن
إرسال تعليق