* * * - إلى عزّ الدّين مناصرة -
******
.
.
لمْ يُتَحْ لي كثيرٌ من الوقتِ حتّى
نكوْنَ صديقَينِ أَكْثرَ ...
لكنّهُ–رَغْمَ هذا – صديقي!
وصِرنا زَميلَينِ في"فيلاديلفيا" سَنينَ
خَلَتْ .. مِنْ سِنينَ ...
ولستُ ، هنا ، واثِقًا .. لو أَعُدُّ
.
.
ويُجيدُ التّجَهُّمَ في قاعةِ الدّرسِ
مِثْلَ الفلاسِفةِ المُتْعَبِينَ
ولكنّهُ كانَ يَفْجَؤُنا بالمُزاحِ المُهَذَّبِ إذْ
نلتقي في مكاتبِ أصحابِنا
– زُمَلاءِ الشّقاءِ
الوَدودِينَ –
يَضْحَكُ كالآخَرينَ صديقي إذًا!!
ثُمّ يَبْدو
سعيدًا إذا شاءَ!
لكنّهُ لا يُغادِرُهُ حُزْنُهُ!
رُبّما يَتَبَسّمُ في وَجْهِ صُورتِهِ حينَ
يَخْلو بِمِرآتِهِ:
!"لمْ تَعُدْ شَبَهي
مِثْلَما كُنْتَ
لكنّني سأَكونُكَ إِنْ
كنتُ في حاجةٍ أَنْ أَكوْنَكَ ،
لا ضَرَرٌ بيننا أَو ضِرارٌ إذا
ما ابتَسَمْتُ أَنا أَو تَجَهّمْتَ !
هذا وقَد .. يُكْمِلُ الضِّدَّ ضِدُّ"...
.
.
ويُحِبُّ الحديثَ الذّكيَّ الشّهِيَّ
فيُلْقي – إذا ما اجْتَمَعنا – مُحاضَرَةً/
–رُبّما اختَلَفَتْ في
الحِوارِ" البَراهينُ"
واشْتَبَكَتْ
بينَ نَهْجَينِ مُختَلِفَينِ- .. ومِنْ عندِ آخِرِها
ولذا لمْ أَكُنْ – غالبًا –
بالحَفِيِّ بها
غيرَ أَنّي أُحِبُّ صديقيَ
والحُبُّ عَقْدُ
يَليقُ بقَلْبَينِ مُقْتَدِرَينِ على
شَرطِهِ السّهلِ..
والرّأْيُ نَكْثٌ وَغَزْلٌ
وَأَدناهُ – بَعدَ المَشَقّةِ – بُعْدُ!
.
.
وَيُؤَدّي فُروضَ المَحَبّةِ لِلشّعرِ
ثُمّ يَزيْدُ عليها نَوافِلَ صَوْلَتِهِ
ولذا
لا يُحِبُّ إذا ما تَكلّمَ عن شِعرِهِ
أَنْ يُقاطِعَهُ أَحَدٌ غَيرُهُ
فلعلّ أَنانيّةَ الشّعَراءِ طبيعيّةٌ آخِرَ
الأَمرِ!
أَيْ : لا تَضُرُّ كثيرًا
وقد .. تَنْفَعُ الشِّعرَ/...
" خَلُّوا طريقَ الكلامِ
لهُ
–قلتُ –
خَلُّوا الطّريقَ لِهذا الّذي
يَتَصَبّبُ مِن روحِهِ عَرَقًا كُلّما
حَمِيَتْ في أَوابِدِهِ الذّكرَياتُ
ولا تَبْرَموا مِنْ تَرَسُّلِهِ .. أو تَرُدُّوا"
.
.
هوَ عَمُّ الجميعِ ، وإنْ كان يُبْدي
تَحَسُّسَهُ مِنْ "حسابِ السّنينَ" إذا
ما تنابَزَ أَصحابُنا بالتّواريخِ كي
يَسْتَفِزّوا بها " عَمَّهُمْ.. "
–وهْوَ حُبٌّ عميقٌ ،
يُخالِطُهُ في التّفَكُّهِ كَيْدُ –
ونَضْحَكُ مِن حَنَقِ العَمِّ إذْ لمْ يَجِدْ
ناصرًا في الوثائقِ ، أَو صورةِ
الوَجْهِ .." غائمَةً " في الهُوِيّةِ/...
"وجهي هنالكَ ، بينَ
وَثائقِ تلكَ الينابيعِ ، يَطفو
وهذا الذي في الهُوِيّةِ ليسَ أَنا –
إِنّما يُعرَفُ المَرءُ مِن وجهِهِ في الينابيعِ ، لا
صورةٍ ، شِبْهِ مَمْحُوّةٍ ، في البِطاقَةِ!
–ثُمّ أَشاحَ إلى جِهَةِ
الدّمعِ–
هذي الهُوِيّاتُ جُرحٌ بهِ يُوْلَدُ المَرءُ
ثُمّ يَعيشُ على حافَةِ اللّيلِ فيهِ
ويَكْدَحُ مِن أَجْلِهِ .. أَوْ يَكِدُّ... "
.
.
قلتُ يومًا لِيوسُفَ"*"
–أَعني لِ"
دَوْلَتِهِ"
حَسْبَ ما اتّفَقَ الأَصدقاءُ:–
لَعلَّ حكاياتِهِ هيَ أَطوَلُ مِنْ عُمْرِهِ!
ولذا كنتُ أَسْمَعُها منهُ وقتَ يَشاءُ
ومَثْنَى/ثُلاثَ / رُباعَ .. وأَكثَرَ...
لكنّهُ ، رُبّما ، قد يُقَدِّمُ شيئًا تأَخّرَ
أَوْ قد يُؤَخِّرُ ما كان قدّمَهُ في الحكايةِ مِنْ
قبلُ
إذْ هكذا سيُجَدِّدُها دائمًا، أَوْ يُعَطّلُ نِسْيانَها!
فتَبَسّمَ يُوسُفُ مِن قولِ صاحِبِهِ.../
والحكاياتُ تُصبِحُ أُخرى ، وأَشْبَهَ
منها بأَوّلِها ، إنْ تَشَعّثَ بالسّردِ صاحبُها
والحكاياتُ إحدَى مَلاذاتِنا وفُنونِ الرّياحِ الّتي
سَرَقَ البَحرُ أَسرارَها..
الحكاياتُ .. جَزْرٌ وَمَدُّ
.
.
ظَلَّ يَنْسَى السّلامَ عليَّ صديقي
– ومِنْ دونِ قَصدٍ
–
وَظَلْتُ أُبادِرُهُ بالسّلامِ
ولكنّهُ كانَ مُنْشَغِلاً دائمًا بِحِوارٍ
خَفِيٍّ معَ النّفْسِ..
أَوْ هكذا قد تَهَيّأَ لي يومَها
لِأُخَفِّفَ مِنْ عَتَبٍ رُبّما يَخْدِشُ الوَردَ/...
بيني وبينَ صديقي السّلامُ الّذي
لمْ يَكنْ–غالبًا–لِيَرُدَّ عليهِ
وبيني وبينَ صديقي
وِئامٌ قديمٌ .. وَوِدُّ
.
.
قلتُ يومًا لنفسي : لَعَلَّ
زميلي الّذي يَتَجاهَلُ رَدَّ السّلامِ
– وَمِنْ دونِ قَصدٍ
–
يُؤَلِّفُ في نفْسِهِ كُتُبًا
ويُرَتِّبُ في عَقْلِهِ نِصفَ أَفكارِهِ
ويقولُ لِما قد تَبَقّى:
"لكِ الوَحيُ ، أَنتِ
وحَظُّكِ ... "
ظَلَّ يُجَدِّدُ في نفْسِهِ نفْسَهُ
إذْ يُقَلِّبُ أَفكارَهُ في هَوامِشِها والمُتُونِ
فَقَد يُوْجِعُ الشّوْكُ ، مِن أَمْنِهِ ، وَردَهُ
ثُمّ مِنْ قَلَقٍ .. رُبّما أوْجَعَ الشّوكَ وَردُ!
.
.
ويُؤَلِّفُ في نفْسِهِ كُتُبًا صاحبي
ثُمّ تُعجِبُهُ–صُدفَةً– كُلُّها!
وَيُزاحِمُهُ
–وهْوَ يَمشي وَئيدًا
لِمَكتَبِهِ–ظِلُّها
ويُفاجِئُني ، مَرّةً ، بالسّلامِ استباقًا لِما
كنتُ أُزْمِعُهُ مِنْ سلامي عليهِ!
–إذًا ، هكذا كانَ
يُفْسِدُ لي فُرصَتي
أَنْ أَكونَ الّذي قد تَجاهَلَهُ اليومَ صاحِبُهُ
حينَ أَلْقى السّلامَ كعادَتِهِ_!!
ثُمّ– مِنْ دونِ قَصدٍ– يُطيلُ الحديثَ معي
عن تَبَرُّمِهِ من غُثاءِ الكتاباتِ ...
_ إنّ التّبَرُّمَ فُرصَتُهُ الذّهبيّةُ كي
يَسْتَعيدَ حُمَيّا المَراراتِ _...
والأمرُ ليس كذلكَ– قال-
الكتابَةُ–تَعلَمُ–داءُ الحياةِ ،
الكتابةُ–مِثْلُ الفجيعَةِ–جِدٌّ .. وَجِدُّ
.
.
قُلتُ يومًا لهُ:
لمْ يَعُدْ لي هُنا عَمَلٌ
سأُدَخِّنُ سيجارةً .. وأُغادِرُ..
قالَ : انْتَبِهْ في طَريقِكَ حينَ تَسِيرُ
انْتَبِهْ مِن فِخاخِ الحياةِ ،
وأَنتَ كذلكَ– قلتُ...–
ووَدّعَني مثْلَ مَنْ كانَ
يَأْسَفُ من دونِ قَصدٍ!
– كما كنتُ أَعلَمُ –وذلكَ منهُ
حُزْنٌ خَجولٌ تَوارَى .. وَقَصدُ
.
.
وكعَهدي بهِ لمْ يَكُنْ صاحبي مُسْرِفًا بالعواطِفِ
أَو لمْ يَكُنْ لِيُجاهِرَ فيها على مَذْهَبِ العاطفيّينَ...
" عاطِفتي شَجَرٌ غائبٌ
لمْ أَعُدْ أَتَعَهّدُهُ بالسّقايةِ مُذْ
غِبْتُ عن وطَني وَيَنابيعِهِ
ثُمّ "بالرّمْلِ كَفّنْتُهُ " ، ومَضَيتُ لِشأْني
انخَرَطْتُ بِسِلْكِ السِّلاحِ
وخُضْتُ حُروبي على مَهَلٍ لأُنَفِّسَ عنْ
غضَبي .. وجَفافِ الحياةِ الّتي
أَظْمَأَتْنا (معًا) خَلْفَها .. وهْيَ تَعْدو
.
.
أَوَتَقْصِدُني بِ (معًا) هذهِ؟! – قلتُ--
بل أتَحَدّثُ عنّي وعن شَجَري–قالَ--
تلكَ طريقَتُهُ حينَ يُفْسِدُ أُفْقَ التّوَقُّعِ!
وهْيَ فُكاهَتُهُ المُنْتَقاةُ بِإبْرَتِهِ الذّهَبيّةِ ...
ثُمّ مَضى في ازدِحامِ الظّلالِ الّتي
كان يَصْنَعُها مِن قُماشٍ مُتاحٍ
فإنّ الخِياطَةَ مِهْنَةُ مَنْ أَدمَنَ الصّبرَ...
تُغْري الّذي أَفْدَحَتْهُ الجِراحاتُ
–وهْيَ الكثيرةُ–
لمْ يَشْفَ منها صديقي
ولمْ يَمْتَثِلْ لِسَلامِ الينابيعِ
–في أَرضِ كَنعانَ–
بَعدُ
.
.
ومَضى ، يَومَها ، كالّذي يَتَبَرّمُ من فكرةٍ
ليسَ يَنْفَعُهُ العقلُ فيها .. ولا الوَحيُ .../
.
.
هذا ولمْ أَلْقَهُ بعدَ هذا
ولمْ أَسْتَمِعْ لِحَديثِ الشُّجُونِ الّذي
كانَ يُتْقِنُهُ فَرْطَ ما
دَرّبَتْهُ المنافي عليهِ
ولكنّهُ ظَلّ يَحضُرُ في بعضِ تلكَ
الحِواراتِ معْ أَصدقائيَ
عنْ " رَغْبَةِ النّثْرِ بالشِّعرِ.../ "
...
ثُمّ أَتاني نَعِيُّ صديقيَ أَمْسِ مساءً...
صديقيَ غادَرَ مِتْراسَهُ– قلتُ –
غادَرَ مِتْراسَهُ الفارِسُ المُسْتَعِدُّ
ونَجا دونَ قَصدٍ ،
نَجا مِن فِخاخِ الحياةِ جميعًا
كما يَفْعَلُ الطّائِرُ المُتَأَهِّبُ ،
والشّاعِرُ المُتَيَقّظُ
والناثرُ.. الهادرُ المُستَبِدُّ
.
لستُ أَكْتُبُ مَرثاتَهُ وأَنا أَكتُبُ الآنَ ،
فالموتُ–في زَمَنِ الموتِ–
صارَ لأَصحابِنا عادةً شِبْهَ يوميّةٍ!
غيرَ أَنّي ، هُنا ، أَحتَفي بِحياةِ صديقي
وأَكتُبُ عن أَثَرٍ غائِرٍ
في ندَى وَردَتَينا اللّتَينِ تَناسَمَتا
لِثلاثِ سِنينَ ، وأَكثَرَ ، عِطرَ اللّقاءاتِ
عِطرَ الصّباحاتِ في ساحَةِ الشّمسِ والدَّرسِ...
والعِطرُ –إمّا تَضَوّعَ بينَ صديقَينِ–
حَقٌّ أَكيدٌ .. وعَهدُ
.
.
وَتَردّدتُ قبلَ الكتابةِ ؛
إذْ لمْ أَكُنْ واثِقًا منذُ أَوّلِ سَطرٍ
بأَنّي سأَقوَى على
أَنْ أُسَدِّدَ بَعضَ دُيوني لِوَردَتِهِ !
كم ثَقيلٌ دُيونُ الورودِ!
وَكمْ هُوَ صَعبٌ أُجازي شَذاها شَذًى
بِرِياحي الّتي عَصَفَتْ بي مساءً!
فذلكَ حِمْلٌ ثقيلٌ .. وَأَدُّ!
وقد كنتُ أَنْعَمُ بالصّمتِ في
خَلوَتي
قَبلَ أَنْ تَتَمَلْمَلَ فيَّ الكتابَةُ..
عاتِيَةٌ ريحُها حينَ تَأْتي
وظالِمَةٌ حينَ تَطلُبُ منّي
وَفاءَ الدُّيونِ ، وفَقْدُ الأَعَزّةِ فَقْدُ
.
.
ليسَ أَمرًا مُهِمًّا هنا أَنْ أَبوحَ بِحُزْني
-- وإنْ كنتُ .. مثْلَ مُحِبِّيهِ
هذا المساءَ .. حزينًا حَزينًا--
ولكنّني أتذَكّرُ أَيّامَهُ الخالياتِ لكي
أَسْتَرِدَّ مِنَ الرّملٍ أَشجارَهُ
ومِنَ الرّيحِ قلبًا قَصِيَّ التّضَرُّمِ والحَسَراتِ...
كذا تُسْتَرَدُّ القلوبُ الّتي
حَقُّها .. تُسْتَرَدُّ
.
.
فَسلامٌ عليهِ بأَرضِ الغُيوبِ هناكَ
سلامٌ على قَلْبِهِ في اليَماماتِ هُجِّرْنَ
ثُمّ سلامٌ لِجَفْراهُ ظَلَّ
يُقَلِّبُ في ريحِها رُوحَهُ
وَتَباريحَهُ .. وَهْوَ يَشْدو
.
.
ويَجيءُ الصّدى:
ليس لي أَبَدَ
الدّهرِ
عن أَرضِ كَنعانَ" .. بُدُّ"
فقلتُ :
ولكنّ وقتًا هوَ الدّهرُ سوفَ يَطُوْلُ!
فلو قُلتَ شيئًا أَخَفَّ علينا!
فقالَ : أَجَلْ ، لا تُرَعْ
فَلَنا ، بَعدَ وقتٍ قريبٍ قريبٍ
إليها .. مَرَدُّ
.
.
هكذا كانَ أَصلَحَ بالي وَجُمْلَتَهُ
رُبّما كانَ يَرأَفُ بي
أَو يُواسي ، هنالكَ ، حَسْرَتَهُ!
وَمَضى يَتَباطَأُ في مَشْيِهِ
يَتَزاحَمُ فيه ، ومِنْ حَولِهِ ، ظِلُّهُ
ولقلبي أَقولُ
..–إذا ما تَناقَصَ مِنْ
نَبْضِهِ أَهْلُهُ –
أَخَذَ الموتُ مِنّا الجميلَ
ولكنْ .. تَبَقّى لنا ، بَعدَهُ ، كُلُّهُ
فَسلامٌ عليهِ بأَرضِ الغُيوبِ هناكَ
سلامٌ على قلبِهِ في اليَماماتِ/
والنّائحاتُ الحزيناتُ هُنَّ ،السَّقيماتُ
فَرْطَ الحَنينِ .. ومِنْ أَخَواتِ النّدى والحَمامْ
وسلامٌ
سَلامٌ
على
صاحبي
رَدَّ –أَوْ لمْ يَرُدَّ– عليَّ السّلامْ
.
.
***
"*" : هو صديقنا د. يوسف
ربابعة
إرسال تعليق