يعقوبيل لناصر القواسمي
أطروحة تعالج عشرين
مسألة
قراءة الناقد: د. سلطان الخضور
وإني لفرط إحساسي بكيميائية تفاعل أنسجة القواسمي وخلاياها مع رائحة تراب
الوطن لأحسبه يتيمّم بترابه إذا قام للصلاة, ولا يستخدم الماء للوضوء, إلا إذا عز
ذاك التراب, فكأني به يتلذذ بسفي التراب بكلتا يديه لكل صلاة من بقعة من بقاعه,
ليمسح جسده لتنفذ ذراته بين خلايا جسده فيتعمد بالتاريخ ويصبح أكثر قرباً إلى الله
وأكثر قبولاً في الصلاة.
وإني لأغبط ناصراً حيث تنفست روايته " يعقوبيل" أول ما تنفست من هواء الجزائر الشقيقة, فزادت النص ألقاً على ألق, وإني لأراها رواية تشهق وتزفر عشقاً للوطن والأمة, وتؤكد على عمق الروابط التي تجمع بين أبناء الأمة العربية, وعلى عمق ثقافة الشعب الجزائري, وأصالته ومناصرته لقضية فلسطين ولكل قضايا الأمة والوطن الممتد من المحيط إلى الخليج, وما توكيله للروائية الجزائرية حميدة الشنوفي لتنوب عنه في حفل التوقيع, إلا انعكاس لنفسية الراوي وإحساسه العروبي, وحبه لهذا البلد الشقيق.
لقد كان الروائي ناصر القواسمي مؤرخاً وفياّ
لتاريخ الكنعانيين حين رسم بيديه الواثقتين رواية" يعقوبيل", فقد حفرت
روايته الصادرة عن دار ( ومضه للنشر والتوزيع والترجمة) الجزائرية في أعماق
التاريخ, وقلعت أوتاد الطارئين على تاريخ كنعان, وعرّت أحلامهم, وفقأت عيون
رواحلهم بسرد تاريخي دقيقٍ وحذر, وبتدرج زمني ينم عن سعةٍ في الاطلاع, وجهد كبير
في البحث والتنقيب, استطاع من خلالها الراوي تثبيت حقائق تاريخية وبراهين دينية
تدحض كل ما دونها من ادعاءات قاصرة عن أحقية غير الكنعانيين العرب في المكان.
وإن كانت الحفارات الحديثة تستخرج النفط من
عمقٍ قد يفوق الأربعة آلاف متراً, بعد أن تكون قد غاصت في أعماق اليابسة, فقد غاصت
مفردات القواسمي ما يزيد عن هذا الرقم لكن في تعداد الزمن والسنوات, ليثبت قدرته
على توظيف النص السردي لخدمة قضايا الوطن والأمة, فقد نقّب القواسمي في مفاصل
التاريخ الديني وأرّخ لحقبة زمنية عكست قهر السنوات وظلم الزمان, وحاولت تصحيح
مسار تاريخي تعرض في كثير من الأحيان لمحاولات الطمس والتحويل والتحوير والتأويل,
ليخرج علينا بوجه كان لا بد من إزالة القناع عنه ليظهر على حقيقته دون تحريف أو
تخريف أو تجديف.
حاول
الراوي في رواية " يعقوبيل", أن يمسح ما علق بكنعانية الخليل, من فكر
دخيل, ليجعلها تحافظ على تحليقها كمدينة تخرج من فوهة التاريخ, منتسبة لأبي
الانبياء سيدنا ابراهيم الخليل عليه السلام, وليظهرها بثوبها الكنعاني الأصيل,
جاهداً لإبقاء بياض اللون على ثوب حفيده
يعقوب, ونزع ما علق بأطراف هذا الثوب من غبار المسير, ومجتهداً ليخرجه ناصع البياض
يشف عما في دواخله, تفوح منه روائح التاريخ العربي الكنعاني, لا كما يسعى
المزوّرون لإبقائه قاتم اللون, يخفي تحت جنباته ما علق به من افتراءات وأوهام.
وقد
اختار القواسمي لغلاف روايته رمزاً معبراً ليعقوب النبي وهو يحاول امتطاء شاة
ليقول أن البركة في الأنعام, وأن رحلة الرّعي في حرّان كانت مثمرة, وليعبر بشكل
رمزي, أن الشاة كما كانت وسيلة للعيش, كانت سبباً للتنقل وللعودة للمنبت, فالشاة
كانت مهمة ولها دور في أحداث الرّواية, فقد بدأت الرواية بمن كانت الشاة تمثل
لديهم مصدراً للحياة ومرّت بمن هم كذلك وانتهت من حيث بدأت, فكان لا بد من ابراز
دورها الذي لعبته في مجريات الأحداث.
وإذا كان ناصر قد أسس أرضية صلبة في مدخله للرواية, ليبني المتلقي عليها ما
يقبض من أحداث, فقد كان واعياً لثنائية الحضور والغياب, وثنائية الشروق والمغيب
والظهور والأفول, فلذلك كان حريصاً على أن يجعل روح المتلقي تنخرط والحدث, ليخرج
بنتيجة راسخة تكون روحه جزءاً لا يغيب معناها عن معنى سطوع الشمس في وضح النهار,
ويستدرج معان عميقة ترتفع بروايته في فضاء هذا الكون, ولتبدد القلق وتنزع عن النفس
الحيرة, وتثبت فيها صورة من صور الحق, وسورة من سور الصدق والثبات.
يقول
القواسمي في مدخله للرواية
" وكانت الأرض كعادتها تحتشد بالغيب واحتمال
الغياب الممكن إلى شكل أكثر صلاحية من ثوبِ الشمس تمطط في سماءٍ من حيرةٍ وقلق
تُتمُّ معناها في معناك أنتَ"
ويتابع القواسمي حديثه على عتبات روايته, وهو يناجي من ترك خصب الأرض للبحث
عن جدب العشب في الصحراء, لأنه يدرك أن العِوْد آتٍ ولو بعد حين, ويقرر أن
الرّاحلين عن البلاد سينثرون القمح في الخلاء الذي وصفته الرواية بالقصير, فهو على
ثقة أن الرّاحلين ذوي همة وعطاء, سينثرون القمح أنى وُجدوا, فهم بطبعهم حمالون
للأمانة التي أبت أن تحملها السموات والأرض, حملوها ليعمّروا الأرض التي يتوق
عنبها لأول الغارسين, ولتؤكد من ناحية أخرى, أن المسافة بين الراحل عن الوطن
والوطن قصيرة وإن طال بها الزمان أو المكان, وأن العودة حتمية ولو بعد ردح من
الزمان, لأن الغياب ثقيل ثقيل, فلا بد لناقة الدهر أن تقتفي أثر الحقيقة, وتحط
رحالها في مرابعها التي أكثر من غيرها تعرف تفاصيلها, ولا بد ليعقوب أن يعود مهما
طالت به الأيام أو قست عليه السنون, وما يعقوب إلا رمزاً لمن ارتحل وكان من ضحايا
الظلم والتدليس.
اذهب الآن حيث شاء لك الرحيل أن تذهب، وانثر قمح
روحك في الخلاء القصير لعلَّ بعد حين يفرخ السنابل على طول الأرض وعرضها... لكي
يعود بعد ردح من الزمان ملتاثًا بالغياب الثقيل يمسك الخطو ويسأله البقاء.
وإذ يعالج متن الرواية قصة النبي يعقوب بن
اسحاق بن ابراهيم عليهم السلام, ليؤكد على عمق المعاني التي تشي بها مفردات
الرواية ولتطرح عشرين قضية:
الأولى, ارتباط المسلمين الروحي بمقام ابراهيم
عليه السلام, فإبراهيم أبو الأنبياء ورد ذكره في القرآن الكريم في الآية الكريمة
التي تنفي يهوديته أو نصرانيته على اعتبار أن الديانتين جاءتا بعد سيدنا إبراهيم
لا أثناء وجوده.
"ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن
كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين" - الآية
وتشير الرواية في موقع آخر, أن أهل حران في ذلك
الحين, كانوا يعبدون ما هب ودب من الأرباب, ولم يجمعوا على عبادة خالق كل هذه
الأرباب. في حين كان آرام قد ورث عن أبيه وجده وحدانية المعبود. فلما جاءهم سيدنا
إبراهيم من تلك, سكن في الخليل حيث كانت مدينة قائمة بأهلها الذين امتازوا بكرمهم
وحفاوتهم بالضيف, وقد اشترى أبراهيم
القادم من بلاد الكلدانيين, من
"أور" في الشرق بالدّين مكاناَ
ليدفن به زوجته "سارة "التي توفيت في ذلك الحين.
، فأقام بين أهلها وقورًا طيّب النفس مُصان الحمى
هو وزوجته في خيمة صغيرة في "حبرون" العامرة بأهل كنعان، وفيما بعد
منحوه جزءًا في مغارتهم كي يدفن بها زوجته حين توفيت بعد أن طلب أن يشتري جزءًا
صغيرًا بالدين ليكرم دفن زوجته "ساراي
ويتكرر الأيمان
بوحدانية الخالق في رحلة العودة, عندما عاد يعقوب من حران قاصداً الخليل, حيث حمل
معه الأصنام التي كان يعبدها خاله في تعبير عن رفض هذه العبادة, وأن لهذا الكون رب
واحد, حيث نشأ يعقوب كما تشير الرواية على الأيمان والتوحيد.
"كانت
بلاد الكلدانيين السومريين متعددة الديانات والعبادات وأهلها مقسّمون بين عبادة
ملكهم وعبادة الكواكب، والتماثيل"
" كلٌّ لهُ ربٌّ يعبده لوحده وإن اجتمعوا
جميعًا على عبادة أرباب مختلفة لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم"
وتثبت الرواية ما أجمع عليه العلماء أن مدينة
الخليل الفلسطينية الكنعانية, هي موطن ولادة وإقامة سيدنا يعقوب عليه السلام, شب
ووالده اسحق فيها, وأن ابراهيم كنعاني من بلاد الرافدين.
أما
الثانية, فهي عمق الارتباط بالوطن, فهذا الارتباط
ليس ارتباطاً عابراً, قابلاً لفك العلاقة وقتما يشاء الفرد والحفاظ عليها
وقتما يريد. بل هو ارتباط روحي, صغر الوطن أو كبر, جار أو أجار, فروح المواطن الحق
هي صنو لموطنه, لا تنفك عنه إلا بالخروج إلى بارئها, لتنتقل بعدها إلى من انسلّ من
نسلِه أو انحدر من صُلبه, لتبقى سلسلة التوارث تتناسل ما تناسلت الأرواح.
أما
الثالثة من القضايا التي تطرحها الرواية, فهي جور الأخ على أخيه ما جعل أم
يعقوب" رفقة" تفكر في تهجير
يعقوب إلى أرض حران حيث يقيم خاله "لابان", وما كان ذلك إلا خوفاً عليه
من غدر أخيه العيص الذي سبقه في النزول من بطن أمه كما تشير الرواية, رغم أن أخاه
لم يكن مؤهلاً لاستلام الملك بعد أبيه, لأنه كما ذكرت أمه في الرواية كان يقضي جل
وقته في الصيد والملذات والسهر ولا تليق به الوصاية. مع أن بعض الروايات تشير أن
أباه هو الذي دفعه للذهاب باتجاه خاله, ليظفر ابنه البكر بما لديه من ثروة وجاه,
وطرحت الرواية في هذا المجال مسألة نحسبها مهمة, وهي أن أباه كان يفضله على يعقوب,
ولذلك أقام الراوي سؤالاً مهماً وهو (هل للبكر من الأولاد أن يكون صاحب حظوة عند
أبيه ولا يترك لأخيه إلا الفتات, فقط لأنه سبق في انفكاك حبله السرّي؟).
أن أجادل السماء بشأن السماح له أن يكون أسرع مني
بالفكاك من حبلهِ السُّري والخروج إلى كفِّ أبي كالبرق، فينال كل أسباب الرضى لا
يترك لي سوى الفتات؟
نعم، نعم لقد كان عليّ أن أخرج من عباءة أبي ولو
بعد حين، أن أخرج من تحت سطوة "آرون" ومن تحت صوف الطيّب الساذج
المسكين.
ورابع الأسئلة, يكمن في الإشارة إلى أن
الانسان له وجهان متضادان, خير وشر, وأن ما يظهر على الجوارح قد يختلف بما تخفي
الصدور, وقد اتضح ذلك من خلال سرد الراوي أن خال يعقوب عليه السلام الذي كان يقيم
في حرّان, والذي أقام يعقوب عنده, قد زوّجه بغير ابنته الجميلة التي أحب, بل
بأختها التي لم تكن بجمالها, بخديعة لم يكن قد ظنها يعقوب ستصير, ومن جهة أخرى
تشير الرواية أن "مصائب قوم عند قوم فوائد" فرحيل يعقوب وما سيتعرض له
من عذاب سيفرح أخوه لأن الأمر سيكون له كما يشاء وتنتهي المنافسة بين الأخوين بفرح
أرون الشقيق.
"ويذكر التاريخ أن حرّان التي لجأ إليها
سيدنا يعقوب حيث يعيش خاله, هي في بلاد
الرافدين كما تشير الرواية, وأنها قد كان لها دور في التاريخ, إذ على بواباتها
تحطمت أحلام الصليبيين في التوسع, وشهدت أولى هزائمهم. ويقول تاريخ المدينة أنها
كان لها في التاريخ المعاصر دور وحدوي, فالنصر في هذه الموقعة, كان بفضل الوحدة
بين العرب والأكراد والسلاجقة والاتراك, وأن الأطماع الصليبية في حينه قد جعلت
سقمان بن أرتق حاكم مارين وجكرمش حاكم الموصل يتناسيا نزاعاتهما ويتحدان لمواجهة
هذه الأطماع. ." (د. ماهر يونس أبو منشار- معركة حران والذاكرة المفقودة)
ويقول
مجد أبو ريا في مقالة تحت عنوان "المعتقدات الدينية للحضارات الكنعانية
والبابلية والعربية" ما نصه " يعتبر الكنعانيون الذين أطلق عليهم
الإغريق اسم الفنيقيين, ثاني جماعة لعبت دورًا مهمًا في تاريخ بلاد الشام بعد
الآموريين, فكانت هجرتهم في بداية الألف الثالثة قبل الميلاد إلى فلسطين من أول
الهجرات البشرية، ويقول بعض المؤرخين إنهم قبيلة عربية تنتمي إلى الشعوب
السامية هاجرت من الجزيرة العربية منذ أكثر من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد
واستقرت في جنوب سوريا ولبنان والأردن وفلسطين فوق أحد جبال القدس الموقع الذي وفر
لهم الأمن والحماية في العصر الحجري الحديث نحو 3000- 1200 قبل الميلاد",
ويقول في ذات المقال" إن العرب سكنوا شبه الجزيرة العربية واليمن منذ مئات
الآلاف من السنين، في نسل مباشر يعود إلى أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام حسبما
يعتقد المؤرخون، أما بن سام فمن نسله بعض العرب العاربة، وكل العرب المستعربة، ومن
أحفاده إبراهيم عليه السلام.
وينقل الكاتب في ذات المقال عن أبن تيمة قوله أن الكنعانيين قد خرجوا إلى
بلاد الشام من حرّان.
وقد
أظهرت الرواية في معالجتها للسؤال الخامس كذلك حتمية العودة لمسقط الرأس مهما طال
الزمن, لأنه الأغلى والأعلى شأناً, فيعقوب الذي أمضى عشرين عاماً, عمل بها لصالح
مملكة خاله بجد وإخلاص, كان خلال هذه المدّة يتطلّع للعودة لموطنه الأصلي, وأن كل
ما جمع من ثروة لم تغنه عن العودة لوطنه, فنجد الرواية تظهر على لسانه عبارات
الندم على فراق الوطن, وأي وطن؟ وطن العشب والاخضرار.. وطن الخير والأشجار.. وطن
الشمس والنهار.. وطن الورود والأزهار, وطن الخير الذي يشبع فيه البشر والطير, فمن
يفقده يفقد معاني الوجود.
"
ما كان عليّ أن أغادر أرضًا كنت أطارد النعاج عليها حين تحيد عن خطّها تبحث عن عشب
سائغ في الجوار أو ماء."
ولا شك أن قضية الصبر والتحمل والأمل والتيقن
هي القضية السادسة التي تطرحها الرواية في
معالجتها للأسئلة التي أبرزتها, فيعقوب كما أيوب هو رمز من رموز الصبر والتحمل,
وقصة يوسف بن يعقوب عليهما السلام بما فيها من اختبار لصدق إخوته وثقة والده بالله
وكيف صبر يعقوب-عليه السلام- على البلاء،
وردت في القرآن الكريم تتضمّن بما تتضمن من دروس ومواعظ في الصبر وكتم الغيظ.
ويجعل القواسمي من روايته حكايةً لكل من يغادر الوطن قسراً, لكل من يغادر
أرضه جوعاً أو جوراً أو قهراً أو ظلما, أو تحت تهديد السلاح, لكل من يترك الوطن
ليسير في الليل البهيم, تلاطمه أمواج العتمة في وضح النهار, ليبحث ما تسنى له أن
يبحث عن بقعة من الأرض يسميها وطناً, توفر له بضعاً من الأمن أو شيئاً من الأمان
فلا تكون, ليلوك الذهول ويحاول مضغ الغربة فلا يستسيغ, فيكرس ما تبقى من عمرٍ
ويسعى ليعود من جديد إلى سيرته الأولى, إلى حيث رأت عيناه النور, واختلط نَفَسُه
الأول برائحة التراب. ويعود بعد غياب سبعة عشر عاماً, فتمضي الأيام ويزداد الحنين.
يقول القواسمي
(ما كان
عليَّ أن أخرج من ظلّي إلى ظلٍّ آخر كي أنجو من حقول الخوف في رأسي، وهي تطرح
الذهول والهرب.
ما كان عليّ أن أغادر أرضًا كنت أطارد النعاج
عليها حين تحيد عن خطّها تبحث عن عشب سائغ في الجوار أو ماء.)
(يا قلبك المعجون بالحنطة والسؤال), عبارة
حيرى تتأبطها الرواية, تَسنِدُ مفرداتها,
فكيف لقلب معجون بالحنطة أن يعيش بعيدا عن مذاقها, فما عُجِنَ القلب
بالحنطة إلا بعد أن استهوته بذورها وأوراقها وسنابلها التي نمت فأنبتت كل حبة منها
سبع سنابل, وفي كل سنبلة مائة حبة, كما جاء في سورة البقرة في إجابة لجد يعقوب
إبراهيم عليه السلام, حين سأل ربه طالباً أن يريه كيف يحيي الموتى. وكأني بالسؤال
يولد سبعة من الأسئلة وفي كل سؤال مائة سؤال, لتتزاحم الأسئلة تبحث عن إجابات, فلا
تجدها, فمتى وكيف وأين؟ أسئلة تحتاج للكثير من الفكر والجهد والعدة والعتاد لتصير
حقيقة, يقبل بها من كان قلبه معجون بحنطة الأرض التي كان عليه أن يرحل عنها مشحون
بالقهر وظلم الزمان.
وتجيب
الرواية على سؤالها السابع, وهو عمق العلاقة بين الأم وابنها, فالأم تشتاق لابنها
إذا غاب, وهي أكثر البشر شعوراً بالفقد, وابنها في الوقت ذاته يشعر بعذابها أثناء
غيابه, فها هو يعقوب في طريق الرحيل يستذكرها, ويستذكر كلامها, فسرّ الرابط بين
الكائنين لا يحس به إلا من عاش التجربة, حيث ورد في الرّواية على لسان يعقوب"
"لا بدَّ أن أمي ستذرف دمعًا ساخنًا كحليبِ
شاةٍ وَلَدت منذ عشبٍ وقبضة وقت صغيرة فلي عندها حظُّ السبع من شاةِ حرون في
المرعى"
ويضيف القواسمي إلى روايته بعداً ثامناً, استنتجه من خلال المحسوس من
النتائج, فقد صور لنا ما حصل بعد مغادرة يعقوب, وكأن الطبيعة تتأثر بغياب من تحب,
فانكماش الزرع وجدبه, وانسحاب الخضرة من الحقول, وتمنّع الغيم عن المطر, وجفاف
الماء, وما صار من تصحر, وجفاف اللبن في أثداء الماعز, حيث لم تعد تدر. صحيح أن النتيجة كانت هكذا, لكنها إرادة
الرَّبَّ, شاء ما شاء فكان ما كان كم أشار.
ولأن
الرّواية تبدوا كأطروحة تبحث عن إجابات لتساؤلات, لا يجيب عليها إلا من تبحر في
العلم ونبش بطون الكتب, ليثبت تفاصيل تبدو أنها تخالط الخيال, فتجيب الرواية عن
تساؤل تاسع له علاقة بالحوار بين يعقوب وأمه حين كانت تدبر معه خدعة لبسه لقميص
أخيه ليباركه أبوه, فهذا أمر يفترض أن يكون سرياً غير مشهود, عدا عن الحديث عن
صفات يعقوب وصفات أخيه فقد وصف الأول في الرواية بالأحلس الأملس, ووصف الثاني
بالطيب الساذج المسكين, فهذه تفاصيل تخفى على العوام, وتؤكد عمق تجربة الراوي وسعة
معرفته.
ويدير يعقوب حواراً مع نفسه حول أخيه, يبدو أنه
من الخيال الذي يخالط في بعض المواقع نسج الرواية, وما قد يفعل أخوه حين يستيقظ
على غيابه"
"لا
بدَّ أنه يبحث عني الآن كالمجنون لينال مني ويجرّني على الأرض كصيدٍ أصابهُ بسهم
من قوسٍ بعيد فأرداهُ قتيلًا مضرجًا بموته والدماء."
وتشب
التفاصيل في وصف مجريات الرحلة وسيرورتها, فقد كان الراوي ذكياً حين أضفى على
روايته جزئيات من الأحداث كان لا بد من ابرازها لتعطي النص نكهة الرّواية, ولتجعل
المتلقي على الورق ينخرط في الحدث, وكأنه يشاهد فلماً على شاشة التلفاز يعود به
إلى غابر التاريخ.
"
انتقى الأحجار واحدًا واحدا كأنّه ينتقي ثمارًا عن شجرةٍ حُبلى بالخير والفاكهة،
صنع منها دائرة صغيرة وجمّع العشب الناشفِ من حوله وبعض السيقان المبتورة الملقاة
في الأرض الهادئة تمامًا والمُهيأة للنوم بلا فِراشٍ أو وسائد، أقعدها في حضن
الدائرة التي صنع، وراح يحَكُّ حجرين ببعضهما ليشعل نارا، فإذا ما اشتعلت راودها
عن نفسها حتى اتقدت وهو ينكز الخشب المُلقى في فمها والأغصان"
" فكلما أقام في مكان وضع فيه حجرًا وعلامة
تشير إلى نزولهِ فيه"
وتعيد الرواية التأكيد وفي غير موقع على
طعم الغربة المر, وعذاباتها, وانسداد آفاقها في بعض الأحايين, فما واجهه"
يعقوبيل" في رحلة الهجران من قساوة الصحراء التي يبدو السّراب فيها ماءً, ليباشر الماشي سعيه
نحوه فلا يجده, فيسقط مغشياً عليه في الخلاء لولا فسحة من هواء تعيد له الروح كلما
أوشكت على الخروج.
"كم
كان وجهك أكثر اشتعالًا وأجمل من فجاءة النار في ثوبِ العشب تمدد مغشيًّا عليهِ في
الخلاء واحتشد ببعض الهواء الرطب في الجوار كي يتسلّى بعذابات المسافر في
جواره."
ويتابع القواسمي روايته ليعلن عذابات يعقوب في الطريق إلى حرّان, وهنا تكمن
الإشارة إلى أن مغادرة الخليل التي" لا مثل كمثلها على الأرض " كانت
ليلاً فقد وصفها بالمدينة النائمة
والهادئة, وتظهر عذابات يعقوب لأنه لم يجد من يسمع شكواه, ويمتحن نفسه متسائلاً أن
البديل للرحيل كان الموت من الغيظ,, لأن أخاه حظي بالبكورية والحظ الوفير. وبشيء
من التفصيل, يذكر الراوي حوار الذّات الذي دار في نفس يعقوب, والمعاناة من البحث
عن عشب لحماره أو حفنة من ماء يسند بها صلبه, والمصير المجهول الذي قد يواجه, وأن
الزرع الحميم والنبع الوفير والأشجار وارفة الظلال, وتلك القرية المقامة على
التلال, والشمس التي كانت تمنح الغرباء الدفء والصلاة, ويتساءل إن كانت النعاج
ستفقد دلو مائه, وإن كان اسحق سيفتقده ويتألم لفراقه, كل هذه وتلك كانت تشده
للوراء.
طرحت
الرّواية سؤالاّ هو العاشر, حين أشارت إلى ضرورة تحمل المسؤولية عند اتخاذ القرار,
ولا يشترط أن يكون القرار صائباّ, المهم أنك قررت, وعليك تحمل تبعات ما قررت, وفي
الرواية إشارة واضحة أن قرار الرحيل لم يكن هو القرار الأصوب, بل كان قراراّ
هروبياّ كمن يغطي الشمس بالغربال.
" أنت من أصغى لحديث المكر وكيد أمك،
من خان المواثيق والشرائع وميراث الأرض،
فسِر إلى قدرك في أقصى الشرقِ حتى تصطدم بنفسك
بعد حينٍ أو تخطئها"
وقد يشي القرار الخاطئ بالندم وعذاب الضمير,
وقد يشي بشيء من الحيرة ودوام الحوار, فلعلي أخطأت بحق أخي, ولعل شيئاّ من الضباب
قد جعل الصورة معتمة, ولعل شيئاّ في نفس أم يعقوب دفعه للتعجل بالرّحيل وتحمل
عذابات السفر, لعل الأمر لم يكن كما أراد.
" ما
كنتُ أنوي أن أنال من أخي أو أسطو على حصته من المتاع وحنطة الأرض، لكنها شاءت لي
فشئت"
في
سؤالها الحادي عشر طرحت الرواية مبدأً مهماً في الحياة, وهو مبدأ التشاركية, وكأن
سطور الرّواية التالية تعكس مبداً من مبادئ التنمية حين الحديث عن ضرورة اقتسام
الموارد وعدم الاستحواذ عليها من قبل فئة دون الأخرى, طالما أن الكل يتعب والكل
يساهم بما يترتب عليه من جهد ووقت, لكن الأمر عند الحديث عن التشاركية والاقتسام
يحتاج إلى الحكمة والعدل.
ما كان ضر"آرون" إن مشيتُ على
الماء؟ أو صعدتُ سلم الريحِ بحثًا عن ملاذٍ أو حقيقة في ملح الأرض؟ ما كان ضرَّ
العجوز لو أسبغَ عليَّ بنعمته وتركني في أصقاعِ الأرضِ أُطوّفُ مباركًا مبجلًا ؟
وتناقش الرواية في سؤالها الثاني عشر علاقة حلم اليقظة بحلم المنام, وعلاقة
العقل الباطن بالعقل الظاهر, وبمعنى آخر انعكاس ما يشغل الفكر على الحلم, فكثيراً
ما يحلم المرء بما يدور في خلده فيراه في المنام. تماماً كما هو التخاطر فقد يقرع
امرؤ جرس منزلك في اللحظة التي يكون فيها ورد في خاطرك.
"ما كان ضر" آرون" إن مشيتُ
على الماء؟ أو صعدتُ سلم الريحِ بحثًا عن ملاذٍ أو حقيقة في ملح الأرض؟ ما كان
ضرَّ العجوز لو أسبغَ عليَّ بنعمته وتركني في أصقاعِ الأرضِ أُطوّفُ مباركًا
مبجلًا ؟"
" الماء،
نعم الماء، لقد ملأتُ قِربتي بالماء"
وتكرر حلم المنام في طريق العودة حيث يحلم يعقوب بأنه يعارك شخصاً أخر
ويكيل كل منهما اللكمات للآخر, لكن النتيجة تنتهي بالعفو والتصالح كما حصل في
الواقع حين استقبله " آرون" بالترحاب عندما عاد.
"وفي
المنام رأى رجلًا ضخمًا قد انقضّ عليه وراح يصارعه، فدفعه يمينًا ويسارا وتبادلا
اللكمات بالأيدي... حتى قرر الآخر أن يترك "آرام" ويرحل عنه دون جدوى أو
فوز"
وتتعرض
الرواية في سؤالها الثالث عشر لسبب هجرة إبراهيم عليه السلام من بلاد الرافدين,
حيث تعزي السبب لما تعرض له من تنكيل من قبل قومه عقاباً له, بلغت لدرجة محاولة
حرقه بالنار, لأنه رفض أن يعبد الكواكب والملوك والحجارة "الأصنام" التي
لا تنفع ولا تضر, حيث حطمها وطلب منهم أن يسألوا كبير الأصنام عن الفاعل. وقصته في
القرآن الكريم التي وردت في سورة الأنبياء الآية -69- معروفة: (قلنا يا نار كوني
بردا وسلاما على إبراهيم) الآية القرآنية.
"أفراهام" الذي رفض أن يعبد الكواكب
والملوك والحجارة بعد أن تنزّلت عليه رؤى ربّهِ"
فقاموا
عليه ونكلّوا به عقابًا له على خروجهِ على آلهتهم والتقليل من شأنها وتحطيمها
بالفأس أثناء انشغالهم عنها، وادّعى أن كبير آلهتهم الذين يزعمون، هو من قام
بتحطيم البقية، فإن لم يصدّقوه فليسألوا الكبير عن صدق قوله."
"فقد
خرج "أفراهام" من النارِ ولم تمسسه بسوء"
- وتشير الرواية أن يعقوب انتظر وعمل
وتعب, فظفر بمن أحب وتزوج الجميلة
"أوليتا" أم يوسف عليه السلام على أختها"
ليليان", فيكون بذلك قد جمع بين الأختين, وهذه هي المسألة الرابعة عشرة
التي تطرحها الرواية, والتي أكدت أنه في ذلك الزمان كان هذا الفعل جائز,
فتبرز الرواية مسألة خلافية تؤيدها في المجمل الدراسات التي اطلعنا عليها,
والبحث يشير إلى جواز ذلك حسب العادات في ذلك الوقت, فقد أيّد موقع إسلام ويب
ما ذهبت إليه الرواية بالجواز في ذلك الوقت حيث ورد في موقعها يوم الثلاثاء
بتاريخ20 /4/2010 ما يلي" لقد جاء في كتب التفسير
والإخبار, أن يعقوب عليه السلام قد جمع بين أختين وكان ذلك مباحاً في الشرائع
القديمة ثم حرم, قال ابن كثير في تفسيره, كان الجمع بين الأختين سائغاً, وقد
فعله يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين ثم حرم عليهم ذلك في التوراة"
ويورد موقع الهدى للدراسات الاسلامية على لسان الشيخ محمد صنقور" وأما
ما قيل من أن يعقوب (ع) قد تزوج من الأختين في عرض واحد فهو مذكور في
التوراة" الكتاب المقدس" العهد القديم, وكذلك هو مكتوب في كتب
التاريخ السنية مثل كتاب الطبري, وكتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير وكتاب
البداية والنهاية.
وقد
طرحت الرواية في بعدها الخامس عشر مسألة الرغبة في الاستقلال وعدم التبعية, وهذا
ما دار في خلد يعقوب بعد انجابه لأربعة من الابناء, وعلى الرغم من أن خال يعقوب
كان يريده كل الوقت ولا يرغب بانفكاكه عنه عندما شعر بتلك الرغبة فأعطى لكل من زوجتي
يعقوب جارية, ووافق على اعطائه الأجر الذي يريد ومن الغنم الرقطاء كما اشترط يعقوب ليكون ثروته الخاصة به, إلا أنه بعد طول
تفكير قرر العودة إلى مِن حيث أتى, فقد كون ثروة تقارب ثروة خاله, ودخل بجاريتيه
فانجب من كل منهما اثنين من الذكور, وصار الحسد يتململ في ذهن أبناء خاله على ما
أصابه من عز.
"
قد تحلو البلاد بعينك كثيرًا، وقد تجد ملاذًا لك من قسوة الأيام، لكن هيهات هيهات
أن تنجو من حنينٍ إلى أرضٍ حملتك صغيرًا وركضت في جنباتها كظبي صغير"
ثم
تطرح الرواية في سؤالها السادس عشر مسألة مخلوطة بين أيمان من يعبدون غير الله في
ذاك الزمان بالرؤيا, وبين سرقة يعقوب لأصنام كانت لهم أرباباً, وهل الرب
يسرق؟ فكيف بخال يعقوب أن يتابع اللحاق به
وثنيه بالقوة بواسطة غلمانه ورعاته عن العودة إلى دياره فقد نام واستيقظ على حلم
يحذره من المساس به, إنه أمر ينم عن الحيرة. وكيف به إذ يترك أصنامه تسرق من قبل
يعقوب.
"حذار أن تمسَّ "آرام" بسوء لئلا
ينزل غضبي وبلائي عليك"
لكنه يتابع السير على الأقل ليستعيد أصنامه ويكون
الحل في قرار العودة دون أن يظفر بها, بعد أن ظفر بيعقوب الذي أكرمه في جبال
جلعاد. وجلعاد التي تشتهر بجبالها وتنوع أشجارها, هي المنطقة الواقعة شرقي نهر
الاردن بين نهر اليرموك ونهر الزرقاء.
وبعد ساعاتٍ مكثها "عازر" لديهم، نهض
وقومه يهمّون بالرحيل عائدين إلى ديارهم لم ينالوا شيئًا من
رحلتهم هذه، ولم يستردوا آلهتهم التي خبأتها "إيليان"
"إنها سرقة الآلهة التي يعبدونها ويتقربون
منها زلفى وتمجيدا"
ويقدم الرّاوي بعرض حلول لعقد الرّواية وما
اعتراها من أزمات, فقد كان اللقاء عند البئر في حران, حين استراح يعقوب وحماره
ليشرب ويسقيه منها, فتاة مثيرة الجمال أوردت شياهها لترتوي من ماء البئر, وهناك
كان الحوار والاستلطاف والراحة النفسية.
"يقفز "آرام" من فوره عن ظهر
حماره متطوعا لإزاحة الحجر عن فم البئر كي ترِد النعاج وتشرب، ويشرب حماره، وفي
نفسِ "آرام" قائل يقول: يا لهذه الراعية ما أجملها وما أنقى وجهها الذي
يكاد يضيء، لا بدَّ أنها فتاة يطيب الوقت ويلين إذا حضرت، وتنحني الطريق لخطوها
عليها، يا لها من فتاة تجوز في حضرتها التمتمات ولغات التسبيح للذي أبدع وصوّر.
ويشاء القدر, ويكون التعارف, فملامح الزائر
تشير أنه غريب عن الديار, فيجيبها عن سبب مجيئه إلى هنا, يتعرف يعقوب على ابنة
خاله وتعرف الفتاة ابن عمتها, ويكون العناق الحميمي الذي يكاد يكسر الأضلع, بين
قادم منهك, "بين آرام بن اسحق"
ومقيمة جميلة حد الدهشة هي ليليان ابنة لابان. وها هو المسافر يجد وطناً
يأويه, ويجد عملاً يعتاش منه, والأهم أنه وجد حبيبة تطفئ نار قلبه الذي اشتعل من
النظرة الأولى, وتكون سبباً في البقاء.
"الذي جئت أقصد بيت خالي "عازر بن
حام" لا بدّ أنك تعرفينه أو سمعتِ عنه فهو من عليّة القوم هنا على ما أظنّ.
" الفتاة بكامل الدهشةِ والفرح وكأنها سمعت
نبئًا مذهلًا _ فأنت ابن عمتي إذن؟ أنتم الذين تسكنون في بلاد كنعان هناك في الغرب
الحميم أليس كذلك؟ "
"وراح يعانقها عناقًا حميماً وهي تقول له
بفرحٍ غامر، بعد أن ضمّتهُ عميقًا وحميماً.
ويتكرر العناق بهذه الشدة عندما اخبرته ليليان
بأنها حامل بعد سنوات من الزواج كان يدعو ربه خلالها وهو المؤمن أن يمنحه ولداً
منها.
"أنا حبلى حبلى
حبلى يا آرام وسأكون أمًّا بعد أشهر قليلة وستكون
أبًا يا حبيبي أخيرًا جاءت البشارة
يعانقها آرام عناقًا طويلًا كاد أن يفتت عظامها
في جسدها من شدّة الضمّ"ِ
وتنفك عقدة أخرى, ليظفر الراحل بمن أحب, سبع
سنوات قضاها في لهيب النهار وبرد الليل, ليلبي شرط خاله ليظفر بليليان, لكن انفكاك
هذه العقدة ولد عقدة أخرى, حين أقفل الباب على غير التي أحب, بحجة عدم تزويج البنت
الصغرى قبل الكبرى, فكان عليه ليظفر بمحبوبته أن يعمل سبع سنوات أخريات.
"
ليفاجأ بأنها أختها الكبرى "لوليتا" والتي لم تكن بعُشر جمال
إيليان" ..." ولن يستطيع فعل شئ سوى أن يعمل سبع سنوات أخريات"
وقد أنحلت عقدة أخرى كانت قد ربطت بسبب تأخر
أوليتا في الحمل والولادة عندما أنجبت له ابناً كان الحادي عشر لأخوته وهو الأول
من الزوجة التي أحب, وهو الأجمل بين كل من أنجب يعقوب.
ويا لـ
"آرام" الذي يكاد يطير من الفرح وهو يرى ابنه الحادي عشر والأوّل من
حبيبتهِ "إيليان" مؤملًا قلبه بخيرٍ كثيرٍ.
ويكون قرار العودة للديار, ليساهم في فك عقدة
أخرى من عقد الرواية, فيقرر يعقوب وزوجاته وأبناؤه في اجتماع سري ليلي أن يعود دون
أن يخبر خاله بهذا القرار, لأنه يعلم أنه لن يوافقه عليه.
بعد مشاورات بين الأسرة تمّ الاتفاق مع الزوجات
والأبناء على مغادرة البلاد ليلًا في السرِّ باتجاه بلاد كنعان في الغرب خشية أن
يمنعهم "عازر" الذي ثناهم أكثر من مرّة عن الرحيل
فنياً, جاءت الرواية للمتلقي بلغة أدبية متماسكة
ومفهومة, تنم عن إحساس شاعري, واحتوت في بعض الأحايين على جرس موسيقي, ولم تحمل في
طياتها من المفردات أو العبارات ما يحتاج إلى تفسير من ناحية لغوية, وفي كثير من
الأحيان حملت بين جملها جرساً موسيقياً يخاله المتلقي شعراً.
"
ما تزال الطريق طويلة في الأمام،
لكنه
الخوف يدفع بصاحبه لارتكاب جنحة السفر
والغوص
في المجهول حتى آخر نَفَس
وفي الروح شكلان متناقضان لشكل السفر"
وفي موضع آخر يظهر الجرس الموسيقي:
" وكلاب تطارد الكلاب
تعوي
طوال الليل
تقضَّ
المضاجع
وتضجّ
بالليالي الفاترة
كان لا بدّ لي أن أخرج،
أن أبحث عن شكلٍ آخر للحياة،"...
"تؤمها القطعان
وترتع
فيها بلا جدوى"
والأمثلة كثيرة.
وتقيم الرواية عقدة جديدة لتطرح من خلالها
المسألة السابعة عشرة, وتتمثل في وجود "دينا" ابنة يعقوب عند القوم
الذين حل بجوارهم في رحلة العودة, حين استدرجها شكيم ابن حمور حاكم البلدة, وبعد
المشورة يوافق أخوة دينا على زواجها بشرط ختان أهل البلدة جميعاً, ويتم الختان,
وينقض ابناء يعقوبيل ليقتلوا الرجال بمن فيهم شكيم والحاكم حمور
"ويمشون باتجاه البلدة يأتون على
كل ذكورها بالقتل، ولا يوفّرا "شكيم" وأباه "حمور"، ويسوقا كل
قطعان البلدة ونسائها وغلمانها أسرى لديهم"
احتوت
الرّواية على بعض من التكرار المحمود عزاه الباحث لسببين:
الأول,
تأثر الروائي بموهبة الشعر وممارسته على الواقع كجنس آخر من الأجناس الأدبية,
والثاني حاجة الرّاوي للتوكيد, فتكرار الكلمة أو العبارة أو الجملة مقصود لذاته
لتثبيت المعنى وتحقيق الهدف الذي جاء من أجله التكرار.
وقد
احتوت الرواية على ما يلزم من فنون الكتابة من عنونة وترقيم وتفقير وغير ذلك,
وأوردت في فقراتها أفكاراً جاء بها الراوي ليمنطقها حسب المنطوق الدارج للسرد
الروائي.
أما
سردية الرواية فقد كانت متسلسلة, متتابعة, ومتدرجة تقود القارئ بسلاسة ليتابع
مجريات أحداثها, ويلتف المتلقي مع منعطفاتها بأريحية لا يجد فيها عناء للتوقف عن
المتابعة لأي سبب يعود إليها, لأن أسلوب السرد كان مريحاً, ويدفع المتلقي باتجاه
المتابعة, ليعرف ما سيكون.
وقد كانت الرّواية مستفزة في ذكرها
لأسماء الأشخاص ومسميات الأماكن والمدن والممالك, ما يجعل المتلقي العادي يتساءل
عنها وما يدفعه في بعض الأحيان للبحث والتحرّي, ليكون على تماس مباشر مع الأحداث
بما تحتوي من مسمّيات لأماكن أو أسماء لشخوص ورد ذكرهم في الرّواية.
إلا
أن الباحث قد يجد بعضاً في اختلاف الأسماء عند الآخرين عنها في الرواية ونورد
مثالاً على ذلك أسمي زوجتي يعقوب, فالرواية تقول أنهما كانتا تدعيان" لوليتا
وإليان " في حين تشير بعض الدراسات أنهما كانتا تدعيان ليئة وقد أنجب منها ستة من الذكور, وراحيل وقد أنجبت
سيدنا يوسف وبنيامين." حنين حجاب- أسماء زوجات سيدنا يعقوب- مجلة حياتتك
وقد
جنحت الرواية للرمزية في كثير من المواقع,
فاستخدم الراوي مصطلحات كنائيّة مثل" (طاحونة من الأسئلة) كناية عن كثرة
الأسئلة ومدى الحاحها, و" قبل الفرار من جِلده) كناية عما كان يعانيه من
صعوبات, و(الماعزِ المتواطئة مع الطقس) كناية عن جذب الأرض والسماء,( الارض تسير)
و( إن الأرض بلا آخر) كناية عن المساحات الشاسعة التي يقطعها المسافر,(يحمل صرّة
مطوية وقربة) كناية عن التزود والاستعداد للسفر, والصرة المطوية هي الزوّادة,
"عصاه المنحوتة على كتفهِ" كناية عن ملازمة العصا لكتفه, حتى باتت كأنها
جزء منه, بل نحتت في كنفه ختر رسمت لها مكاناً فيه.
كان
القواسمي بليغاً في استخدامه لتعابير ساعدته في وصف البيئة وما تحويه من بشر وشجر
وحجر, فقد استخدم الصفات والاسماء وألصقها بالموصوف, ليعطي صورة واضحة تعين
المتلقي على الفهم, وتفتح له باباً للتخيل والتأمل والتصور. وتساعده هو في إرسال
رسالته بالشكل الذي يريد.
وقد
استعان الراوي بالألوان في كثير من المواقع التي رأى ضرورة لتكون في هذا الموقع
لوصف الأحياء والأشياء ليعطي الانطباع المرسوم في ذهنه بشكل لا يترك مجالاً للبس
أو التضعيف أو التأويل.
نكتفي بتمثيل ذلك بالفقرة التالية:
الجبال
البعيدة تراقبهما وهي تجلس على عقبيها غير مبالية، ترتدي قمصانًا من العشبِ
المُصفرِّ والأحجار النافقةِ، وبعض النباتات الشوكية تستلقي على ظهرها، والأرض
ساخنة كموقدٍ مشتعل فلا ظلَّ في الطريق، لا شيء سوى الفراغ يحيط بهما من الجهات
الخمس، أما السماء فكانت ترتدي ثوبها الأزرق الجميل الموشّى بالأبيض والرمادي
الفاتح.
ولأن
حمار يعقوب هو رفيقه في السفر, ولدوره الفعّال في هذا المسير, فقد آنس وحدته وبات
وحماره صنوان لا ينفصما, فقد وصف الراوي الحمار بأنه رفيق, وجعل بينهما لغة مشتركة
جاءت بحكم الزمان والعشرة والخبرة فأنشأ حواراً بين الحمار وبين صاحبه ليقول أن من
يملك العقل والحكمة يمكن أن يتكيف مع المحيط.
"وحولهُ فسحة من عشب تصلح لرفيقه في السفر،
وأن يتناول وجبة من الطعام بعد نهارٍ ثقيل وفائضٍ بالتعب والضيق والرطوبة أمضياه
بين سير وحديث"
_ وتقيم الرواية عقدة جديدة لتطرح من خلالها
المسألة السابعة عشرة, وتتمثل في وجود "دينا" ابنة يعقوب عند القوم
الذين حل بجوارهم في رحلة العودة, حين استدرجها شكيم ابن حمور حاكم البلدة, وبعد
المشورة يوافق أخوة دينا على زواجها بشرط ختان أهل البلدة جميعاً, ويتم الختان,
وينقض ابناء يعقوبيل ليقتلوا الرجال بمن فيهم شكيم والحاكم حمور
ويمشون باتجاه
البلدة يأتون على كل ذكورها بالقتل، ولا يوفّرا "شكيم" وأباه
"حمور"، ويسوقا كل قطعان البلدة ونسائها وغلمانها أسرى لديهم.
ويمشون باتجاه البلدة يأتون على
كل ذكورها بالقتل، ولا يوفّرا "شكيم" وأباه "حمور"، ويسوقا كل
قطعان البلدة ونسائها وغلمانها أسرى لديهم
وتنعقد عقدة أخرى تنتهي بتراجيديا مأساوية تتمثل
بموت " إيليان" قلب يعقوب النابض حيث تموت خلال المخاض, وتدفن على مقربة
من الخليل التي كانت تتمنى أن تراها وترى أهلها.
"هل ماتت هكذا ببساطة ؟... وقضى الليل
يبكي... لقد حلمت طويلًا معي أن ترى "حبرون" وعائلتي"
وتطرح الرواية المسألة التاسعة عشرة حين تحدثت عن
اختلاف الروى عند البشر, فقد يستسيغ أحدنا ما لا يطيقه الآخر, وما هو حلو في فمي
قد يكون في فمك مرا, فهذه مسألة نفسية تشير إلى تعدد الأذواق وتباين الآراءً.
"قد
ترى في الماء ماءٌ ويرى البعض في الماء خمرٌ"
وتكون قصة سيدنا يوسف هي المسألة العشرين التي
تطرحها الرواية, وقصة سيدنا يوسف ابن الغالية, مذكورة بالقرآن الكريم في سورة سميت
باسمه, لكن الطرح هنا جاء بالتفاصيل من باب قضاء الله وقدره, والدعوات التي تعلمها
يوسف من أبيه هي التي أنقذته من البئر ومن تهمة زوجة عزيز مصر, حيث تذكر وفاة أمه
وتربيته من قبل خالته" لوليتا", وقد أخفى يعقوب رؤيا يوسف عليه السلام
حينما رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين, ونهاه أبوه عن قص هذه الرؤيا
على إخوته حتى لا يكيدوا له.
"إذْ
قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ" -الآية 4 من سورة
يوسف-
" يا للبشرى أيّها القوم يا للبشرى إنه غلام
في البئر"
إنها في عرف قانون اليوم جريمة الشروع بالقتل,
حيث ألقوه إخوته في البئر وادعوا أمام أبيهم أن الذئب أكله ولم يصدقهم , ويشاء
القدر أن يمر به السيارة فينتشلوه, ويشاء القدر أن يفسر يوسف حلم العزيز, وصدق في
التفسير, ويعاد التحقيق من جديد ويظهر الحق باعتراف زوجة العزيز بأنها هي التي
راودته, ويقرّب يوسف من القصر ليعم العدل أنحاء البلاد, ويكون
يوسف عزيز مصر, ويأتي إخوته يستجدون شيئاً مما أفاض الله عليه, ويعيدهم بعد أن
عرفهم ولم يعرفوه خائبين, طالباً إحضار أباهم.
"إيثان" يجلس على خزائن الأرض يوزّع
الحصص على الناس بالعدل، ويسيّر أمور البلاد بحكمة العارف، وقلب المؤمن بالقضاء
والقدر"
ودون الخوض بالتفاصيل يكون ليعقوب وأولاده أن
يعيشوا أعزاء عند أخيهم بعد أن تحققت رؤية "وأتوه ساجدين", وليوصي أبوه
أن يدفن في مسقط رأسه في الخليل.
إرسال تعليق